تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: الشذوذ في الفتوى .... ظاهرة فتاكة .

  1. #1

    Post الشذوذ في الفتوى .... ظاهرة فتاكة .

    بسم الله الرحمن الرحيم
    هذا مقال لفضيلة الشيخ عبد الرحمن عبد العزيز العقل ( بتصرف )
    الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على من بعثه الله بالهدى واليقين ، لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين . أما بعد :
    فثمة غاية عظيمة كبرى من غايات الإسلام جاءت بها نصوص الكتاب في آيات بينات كثيرات ، ونادت بها السنة في أحاديث وافرات ، وتوارد علماء الإسلام سلفا وخلفا على تأكيدها ، وبيان ضرورة تفعيله في حياة الأمة ؛ لأن في تركها اشتقاق العصا ، واستحكام الشقاق .
    إنها غاية لزوم الجماعة التي علق الله عليها تأييده ومعيته كما في سنن الترمذي من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال ، قال رسول الله " يد الله مع الجماعة " ( جامع الترمذي 4/466 )
    تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت أفرادا
    وفي حديث معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله قال " إن الشيطان ذئب الإنسان ، كذئب الغنم ، يأخذ القاصية والشاردة ، وإياكم والشعاب وعليكم بالعامة والجماعة " ( أخرجه أحمد 36/358 )
    وإن من عزائم ما ينتظمه حبل الجماعة، الاجتماع على آراء العلماء الراسخين بعيدا عن شواذ الأقوال وغرائب الفتاوى ؛ فإن سمة ظاهرة أطلت في سماء الفتوى يصدق أن تكون مخاضا لولادة الشذوذ العلمي والإغراب في الفتوى ؛ ألا وهي ظاهرة الشذوذ في الفتوى .
    وقد نتج عن هذه الظاهرة : قلة الأدب مع أهل العلم ، والتعجل في الفتوى ، ومصادرة قول الجماعة ، والفهم المعوج ، والتذبذب في الأقوال ، والتناقض في الأفعال ، وإعجاب ذي الرأي برأيه ، في لهث عجيب على الفتوى في المسائل الكبار التي لو كانت في عهد عمر الفاروق لجمع لها أهل بدر .
    وعلى مثل هذا بكى ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك رحمه فقال له رجل ما يبكيك ؟ فقال : ( استُفتي من لا علم له ، وظهر في الإسلام أمر عظيم . قال : ولبعض من يفتي ها هنا أحق بالسجن من السَّراق ) ( إعلام الموقعين 4/207 ، 208 ) .
    قال بن القيم معلِّقَا : ( قال بعض العلماء : فكيف لو رأى ربيعة زماننا ، وإقدام من لا علم عنده على الفتيا وتوثبه عليها ، ومدُّ باع التكلف إليها ، وتسلُّقه بالجهل والجرأة عليها ، مع قلة الخبرة وسوء السيرة ، وشؤم السريرة ، وهو من بين أهل العلم منكر أو غريب ، فليس له في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف نصيب ) ( إعلام الموقعين 4/207 ) .
    وقديما قيل ( إذا كثر الملاحون غرقت السفينة ) ، وهي كلمة قديمة قالها أحد أئمة الإسلام يشكوا فيها حفنة عفنة كدودة لزجة ، متلبدة أسرابها في سماء غيرها ، تقحموا في ما لم يحسنوا ،ومن أقحم نفسه في مالا يحسن أتى بالعجائب .
    خاضوا غمار البحار ، من غير مهارة ولا دربة في الغوص ، فانكشفوا وفضحتهم الأيام ، وكل من يدعي ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان ، وقد اشتكى ابن القيم ـ رحمه الله ـ امتحانه بهؤلاء فقال :
    هذا وإني بَعْدُ ممتَحَنٌ بأر بعةٍ وكلُّهم ذوو أضغانِ .
    فظٌ غليظٌ جاهلٌ متمعلمٌ ضخمُ العمامةِ واسعُ الأردانِ
    متفيهقٌ متضلِّع بالجهلِ ذو صَلَع وذو جَلَح من العرفانِ
    مزجى البضاعةِ في العلومِ وإنَّه زاجٍ من الإبهام والهذيانِ
    يشكوا إلى الله الحقوقَ تظلُّما من جهله كشكايةِ الأبدانِ
    من جاهلٍ متطبِّبٍ يفتيِ الورى ويحيلُ ذاكَ على قضا الرحمنِ
    وإن لظاهرة الشذوذ في الفتوى أسبابا منها :
    الأول : فقدان السُّنة المباركة في التلقي وهي تلقي العلم في حلقه وما يتبعها من مُشَامَّة الشيخ ومشافهته ، ومجالسة أهل العلم ، التي تصنع في النفس الصبر وطول النفَس ومن ثمَّ العمق والعقل والتأني ، وكما قيل : مفاتيح العلم أربعة : عقل رجاح ، وشيخ فتاح ، وكتب صحاح ، ومداومة وإلحاح .
    الثاني : الظن بأن كل من نال طرفا من العلم له حق الفتوى ، وهذه لعمري مراهقة علمية ؛ فإن من محن محن هذا الزمان تصدر أقوام للإفتاء ، ليس لهم في مقام الفتوى حظ ولا نصيب .
    والفتوى منزلة علية لا ينالها إلا من تحققت فيه الشروط المقررة عند أهل العلم ، ومنها :
    • العلم بكتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما يتعلق بهما من علوم .
    • العلم بمواطن الإجماع والخلاف والمذاهب والآراء الفقهية .
    • المعرفة بأصول الفقه ومبادئه وقواعده ، ومقاصد الشريعة ، والعلوم المساعدة مثل : النحو والصرف واللغة والمصطلح وسائر علوم الآلة .
    • المعرفة بأحوال الناس وأعرافهم ، وأوضاع العصر ومستجداته ، وما بني على العرف المعتبر الذي لا يصادم النص . وغير ذلك مما شرطه العلماءفي المفتي ليكون أهلا للفتوى .
    قال الحافظ بن حجر ـ رحمه الله ـ ( إذا تكلم المرء في غير فنه أتى بهذه العجائب ) ( فتح الباري 3/584 ) .
    وقال بعض المصنفين : الإنفراد عن أهل العلم برأي في الشرع ، والقول بما لم يقل به أحد فيه ، ينبئان عن خلل في العقل ) (النظائر لبكر ابو زيد ، ص 190 ) .
    الثالث : حب الصدارة والتصدر في الفتوى ( ولو أن المرء أسلم الزناد للنفس لأسلمته للسقوط والهلكة .
    الرابع : غياب منهج السلف الصالح عند هؤلاء فإن سلفنا الصالح كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها هديا وأقلها تكلفا ، كانوا ـ رضوان الله عليه ـ أعظم الناس ورعا وأقلهم في الدين كلاما ، وهذا أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ على المنبر الشريف يقول ( أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله مالا أعلم ) .
    سنكمل بعد ذلك إن شاء الله ، أسألكم الدعاء لي ولشيخي ؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
    قال لي شيخي : قال شيخ الإسلام بن تيمية قدس الله روحه :
    أعظم الكرامة لزوم الاستقامة

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Dec 2010
    المشاركات
    4

    افتراضي رد: الشذوذ في الفتوى .... ظاهرة فتاكة .

    السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
    أيضا ممكن رد بعض شذوذ الفتوى في عصرنا الراهن إلى تجرؤ الخلف وقد كان السلف الصالح متهيبين منها، و هذا نتيجة عدم إدراك أنها تكليف وليست تشريفا إضافتا إلى قول الصحابي (أجرؤكم على الفتوى أجركم على النار)، كما يمكن القول تصدي غير المتأهيل في أصول الفقه وكيفية الاستنباط وعدم توفر شروط الإجتهاد.

  3. #3

    افتراضي رد: الشذوذ في الفتوى .... ظاهرة فتاكة .

    جزاكم الله خيرا يا رومسياء ، ونفع الله بكِ ؛ لكن لا تتعجلي على رزقك ، سيأتي هذا إن شاء الله فيما بعد .
    قال لي شيخي : قال شيخ الإسلام بن تيمية قدس الله روحه :
    أعظم الكرامة لزوم الاستقامة

  4. #4

    افتراضي رد: الشذوذ في الفتوى .... ظاهرة فتاكة .

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، سنكمل إن شاء الله باقي المسائل فنقول وبالله التوفيق ، ومنك يارب وحدك التوفيق والهدى .
    الرابع : غياب منهج السلف الصالح عند هؤلاء فإن سلفنا الصالح رضوان الله عليهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها هديا ، وأقلها تكلفا ، كانوا رضوان الله عليهم أعظم الناس ورعا ، وأقلهم في الدين كلاما ، وربما سئل أحدهم سؤالا فيحيله على أخيه ، وأخوه يحيل على غيره ، وهكذا لا يزال السائل ينتقل من واحد إلى آخر حتى يرجع السؤال إلى الأول ؛ يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى ـ رحمه الله ـ " أدركت بهذا المسجد ( يعني مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يسأل عن المسألة فيقول لا أدري " ، " وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه على المنبر الشريف يقول ( أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم ؟ " ، وهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنه يقول ( العلم ثلاثة : آية محكمة ، وسنة ماضية ، ولا أدري ) .
    جاء في سير أعلام النبلاء ، أن أبا شهاب الحناط قال : سمعت أبا حصين ( وهو عثمان بن عاصم )يقول : إن أحدهم ليفتي في المسألة ، ولو ردت على عمر لجمع لها أهل بدر ) .
    وما زال هذا العلم الشريف وهذا المنهج الرائد يحمله من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين حتى نبتت في زماننا هذا نابتة لها ضجيج بين الناس ، يكتبون كلاما ويلقونه . إن أحسنا الظن بهم قلنا : هم على جهل عظبم ، وإن حكمنا عليهم بما ظهر لنا منهم قلنا : قلوبهم تتطوى على دخن .
    وتتأزم الفتنة بهم حين يكون أحدهم عليم اللسان ، بجادل بالقرآن ويسرد على كلامه أدلة ، ويسوق براهين يحسبها الناس براهين للوهلة الأولى ، ولكنها في حقيقة الأمر غول ( الهلكة ) العلم .
    وك من فقيه خابط في ضلالة وحجته فيها الكتاب المنزل
    قال عمر رضي الله عنه " ثلاث يهدمون الدين : زلة عالم ،وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة مضلون " ، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه " إن مما أخشى عليكم : زلة العالم ، وجدال المنافق بالقرآن " .
    وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه " .... وإياكم وزيغة الحكيم .... ، قالوا ، وكيف زيغة الحكيم ؟ قال : هي كلمة تَرُوْعُكم وتنكرونها ، وتقولون ما هذه ؟ فاحذروا زيغته ولا تصدنكم عنه ، فإنه يوشك أن يفئ ، وأن يراجع الحق ، وإن العلم والإيمان مكانهما إلى يوم القيامة ؛ فمن ابتغاهما وجدهما " .
    الخامس : وازع الهوى الخفي الذي قد لا يتبصره المفتي ولا يعلمه ، لأن الهوى خيطا دقيقا في النفوس يحكمها ويسري في أعماقها ؛ حتى تظن حسنا ما ليس بحسن .
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدس الله روحه ـ ( وللشريعة أسرار في سد الفساد وحسم مادة الشر ، لعلم الشارع بما خفي على النفوس من خفيِّ هواها الذي لا يزال يسري فيها حتى يقودها إلى الهلكة ؛ فمن تحذلق على الشارع وقال في بعض المحرمات ، إنما حرمها لعلة كذا ، وهي مفقودة هنا ، فاستباح ذلك بهذا التأويل ، فهو ظلوم لنفسه جهول بأمر ربه ) . (شفاء العليل في اختصار إبطال التحليل ص 116 ) .
    وقال أيضا معلقا على قوله تعالى " ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم لحساب " ( فبين أن اتباع الهوى يضل عن سبيل الله ؛ فمن اتبع ما تهواه نفسه أضلَّ عن سبيل الله ؛ فإنه لا يكون الله هو المقصود ، ولا المقصود الحق الذي يوصل إلى الله ؛ فلا قصد الحق ، ولا ما يوصل إلى الحق ، بل قصد ما يهواه من حيث هو يهواه ) . ( جامع المسائل 6/143 ) .
    وقال أيضا : ( ما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله ) . ( مجموع الفتاوى 28/207 ) .
    بقي السبب السادس لكن لكبر حجمه سأتركه للمرة القادمة
    وجزاكم الله خيرا ، أسألكم الدعاء لشيخي بالشفاء . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
    قال لي شيخي : قال شيخ الإسلام بن تيمية قدس الله روحه :
    أعظم الكرامة لزوم الاستقامة

  5. #5

    افتراضي رد: الشذوذ في الفتوى .... ظاهرة فتاكة .

    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد :
    السادس : الظن أن الاخذ بمبدأ التيسير والرخصة هو الأصلح دائما ، وغاب عنهم أن الإسلام هو اليسر وليس اليسر هو الإسلام ؛ فحدث جراء هذا تتبع الرخص والجري ورائها هروبا من التكاليف ، وتخلصا من الواجبات ، وهدما لعزائم الأوامر والنواهي ، وتوهينا لمسير العبد في مدارج العبودية ، ومنازل التأله والتذلل في مقام الألوهية ، وهضما لحقوق عباده .
    وقد اعتبر العلماء هذا العمل فسقا ( الموافقات 4/140 ، وشرح التنقيح ص 386 ) ، وحكى ابن حزم الإجماع عليه ( مراتب الإجماع ص 175 ) .
    قال بن عباس " ويل للأتباع من زلة العالم " ( مدخل السنن ص 687 ) .
    وقال سليمان التيمي " لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله " ( أخرجه ابن عبد البر 2/927 ، وعلق عليه بقوله " هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا " ) .
    وقال الإمام أحمد " لو أن رجلا عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ ، وأهل المدينة في السماع ، وأهل مكة في المتعة كان فاسقا " ( جامع بيان العلم وفضله 2/927 ، إرشاد الفحول 1/454 ) .
    وقال الأوزاعي " من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام " ( رواه عنه البيهقي في سننه الكبرى 10/211 ) .
    وروى الخطيب بسنده عن إبراهيم بن أدهم ، قال " إذا حملت شاذَّ العلماء حملت شرا كثيرا " ( الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/160 ) .
    وقال بن حزم رحمه الله في كلامه على أنواع الاختلاف " ......... وطبقة أخرى ، وهم قوم بلغت بهم رقة الدين ، وقلة التقوى إلى طلب ما وافق اهوائهم في قول كل قائل ؛ فهم يأخذون ما كان رخصة من قول كل عالم مقلدبن له ، غير غير طالبين ما اوجبه النص عن الله تعالى وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم " ( الإحكام في أصول الأحكام 5/645 ) .
    ويقول الذهبي رحمه الله " من تتبع رخص المذاهب وزلات المجتهدين فقد رق دينه " ( سير أعلام النبلاء 8/81 ) .
    وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ " من هجم على مثل هذه الأقوال الشاذةواعتمدها في نقله وفتواه ، فقد تتبع الرخص ونبذ الأصل المقرر عند سلف الأمة وأئمتها ..... وما أحسن ما قيل :
    والعلم ليس بنافع اربابه *** مالم يفد نظرا وحسن تبصر "
    ( الرسالة التاسعة من عيون الرسائل للإمام عبد اللطيف آل الشيخ ) .
    والواجب على العامي أن يسأل أهل العلم الذين يثق بدينهم وعلمهم ؛ وأما من عرف بالتساهل وتتبع الرخص وعدم الحرص على اتباع السنة ، فلا يجوز لأحد أن يستفتيه ، ولا أن يعمل بما يفتيه به .
    وليس كل قول قاله عالم أو متعالم ن صحيحا ، وليس كل ما قاله فقيه حقا ، إلا قولا له حظ من الأثر أو النظر ، وقديما قال الإمام مالك رحمه الله " كل يؤخذ من كلامه ويترك إلا صاحب هذا القبر ، وأشار إلى قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم " . ( سير أعلام النبلاء 8/93 ) .
    وإذا كثرت الأقوال الشاذة من شخص ما ، فإنه ينبغي أن يحذر منه ؛ لئلا يغتر به العامة ، من غير استرسال في الطعن بذاته ، وينبغي الترفع عن القول المسف في شخصه او الطعن في ذاته أو نسبه ، فليس هذا سبيل اهل الرشد في هذه المواطن ، بل سبيلهم بيان الخلل وكشف الزلل في القول دون الولوج في ذوات الأشخاص والإقذاع في العبارات ، مع التأكيد الشديد على زجر من اختار هذه الأقوال الشاذة ، واعتمدها ، ونبذ الأصل المقرر عند سلف الأمة وأئمتها .
    قال بن القيم رحمه الله " العالم قد يزل ولا بد ؛ إذ ليس بمعصوم ، فلا يجوز قبول كل ما يقوله وينزل قوله منزلة قول المعصوم فهذا الذي ذمه كل عالم على وجه الأرض وحرموه وذموا أهله ، وهو أصل بلاء المقلدين وفتنتهم ؛ فإنهم يقلدون العالم في ما زل فيه وفي ما لم يزل فيه وليس لهم تمييز بين ذلك ، فيأخذون الدين بالخطأ ولا بد ، فيحلون ما حرم الله ، ويحرمون ما أحل الله ، ويشرعون مالم يشرع ، ولا بد لهم من ذلك ؛ إذا كانت العصمة منتفية عمن قلدوه فالخطأ واقع منه ولا بد .
    وقد ذكر البيهقي وغيره من حديث كثير هذا أبيه عن جده مرفوعا " اتقوا زلة العالم وانتظروا فيئته " ( أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 10/211 ، رقم 20706 ) ، وذكر من حديث مسعود بن سعد عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أشد ما أتخوف على أمتي ثلاث : زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، ودنيا تقطع أعناقكم " ( أخرجه البيهقي في شعب الإيمان 12/524 ، رقم 9829 ) .
    ومن المعلوم أن المخوف في زلة العالم تقليده فيها ؛ إذ لولا التقليد لم يخف من زلة العالم على غيره ؛ فإذا عرف أنها زلة لم يجز له أن يتبعه فيها باتفاق المسلمين ؛ فإنه اتباع للخطأ على عمد ومن لم يعرف أنها زلة فهو أعذر منه وكلاهما مفرط في ما أمر به " ( إعلام الموقعين 2/192 ) .
    والشذوذ في الفتوى ليس جديدا بل هو قديم قدم الأيام ولكنه في هذا الزمان يلقى رواجا عريضا من شرائح المسلمين بفعل الإعلام الذي يحتفي فيه بعض سدنته بالشذوذ لطي صفحة الحق ومد ظل الباطل وضلاله .
    وليس المقصود هنا إنكار وجود خلاف بين العلماء في مسائل الفقه لكنا ننكر على المفتي تتبع الأقوال الشاذة والمهجورة منها ، وننكر جعل ذلك الخلاف سبيلا لاختراع أقوال باطلة ينسبها لدين الله تعالى وهي ليست منه .
    قال الشيخ بكر أبو زيد عليه رحمة الله " ولم يفلح من جعل هذا الخلاف سبيلا إلى تتبع رخص المذاهب ، ونادر الخلاف ، وندرة المخالف ، والتقاط الشواذ ، وتبني الآراء المهجورة ، والغلط على الأئمة ، ونصبها للناس دينا وشرعا " ( المدخل المفصل 1/107 ) .
    وفي مثل هذا المعترك الساخن الذي تكثر فيه الزيغات والزلات يجب على أهل العلم والرسوخ تجلية الحقائق واستبانه سبيل الحق ، ودفع إيهام المتعالين المتحذلقين ، وقد كان سلفنا رضوان الله عليهم يردون على من نطق بالباطل باطله لا يخافون في الله لومة لائم .
    ولما خرج عمار بن ياسر رضي الله عنهما مع علي في وقعة الجمل وعلم أن عائشة رضي الله عنها خرجت مع الجيش الآخر ، وقف في الناس خطيبا وقال : " أيها الناس والله إني لأعلم أنها زوجة نبينا في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم ليعلم أتطيعوه أم تطيعوها ؟ " ( أخرجه البخاري 6/2600 ، رقم 6687 ) . لقد أثبن لها فضلها وشرفها وميزتها ـ رضوان الله عليهما ـ لكنه نطق بالحق وإن كان في خلاف عائشة ـ رضي الله عنها ـ لأن الحق أغلى وأعلى من الرجال .
    قال رجل للإمام أحمد : إن ابن المبارك قال كذا ، فقال الإمام أحمد " إن ابن البارك لم ينزل من السماء " ( ينظر : الفروع 6/381 ) .
    ولربما يقول قائل : أليس كتاب الله العزيز فينا موجودا ، وحسام سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بيننا محدودا .
    قيل : نعم ، ولكن ماذا تغني السيوف المغمدة ، ولم ينل الكتاب العزيز مغزاه ومقصده .
    قد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي
    ولو نارا نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد
    وقد كان الأئمة وأهل العلم يحتسبون أيما احتساب في مناصحة المتعالين الذين يتقصدون الشذوذ في الفتوى ، ومن لطائف ما جاء في لك ما ورد في رسائل الشيخ محمد بن إبراهيم :
    ( من محمد بن إبراهيم إلى المكرم .... سلمه الله .
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد :
    فالداعي إلى الكتابة لكم أنه تكرر منك تدخلكم فيما أنتم في غنى عنه ، فضلا عما فيه من التناهي مع ما يقتضيه التقى والورع من وجوب استبراء العبد لدينه وعرضه ، وذلك رأيكم في التصديق للعامة بإفتائهم في مسائل الطلاق بما هو خلاف ما عليه الفتوى وما اشتهر القول به لدى جمهور العلماء ، ومرجوحيته ظاهرة لدى المحققين من أهل العلم ....
    فتأمل منك ـ بارك الله فيك ـ الكف عن إرباك العامة بفتاوى شاذة أو مرجوحة ، ومتى تقدم إليك من يطلب الفتوى فعليك بالإشارة لهم إلى الجهة المختصة بالفتاوى ، ونرجوا أن يكون لديك من أسباب احترامك نفسك ما يغنينا عن إجراء ما يوقفك عند حدك ، هذا ونسأل الله لنا ولك حسن الختام والتوفيق لما يحبه ويرضاه ، والسلام عليكم .
    مفتي الديار السعودية ( ص /ف 3868 في 15/10/1387 هـ ) .
    ومعلوم عند أهل العلم والإيمان أن الحق في الاتباع والدليل ، وعدم مخالفة الجماعة ، والأخذ بالأقوال الشاذة من غير برهان " وم يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا "
    ولهذا لا يجوز أن يمكن من الخوض في الفتوى الجاهلون بمقاصد الشريعة ومدارك الأحكام ، المتخرصون على معانيها بالظن ، المتعالون بلا رسوخ ن الخائضون في مظان الاشتباه بلا تمييز ، المقتحمون غمار الفتوى بلا علم ولا عدة ولا تأهيل .
    وفي الأمة بحمد الله علماء متمكنون من درك أحكام الوقائع ، بصيرون بمسالك النظر والاستنباط ، راسخون في التخريج والترجيح ، ولا تظهر الأفكار الزائغة والعقائد المنحرفة والأقوال الشاذة إلا بترك الصدور عن العلماء الراسخين ، وأخذ العلم والفتوى أهل الجهل والهوى .
    روى عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ؛ حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " ( أخرجه البخاري 1/50 ، رقم 100 ، ومسلم 4/2058 ، رقم 2673 ) .
    وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال " ليس عام إلا والذي بعده شر منه ، لا أقول : عام أمطر من عام ، ولا عام أخصب من عام ، ولا أمير خير من أمير ، ولكن ذهاب علمائكم وخياركم ، ثم يحدث قوم يقيسون الأمور بآرائهم فيهدم الإسلام ويثلم " ( اخرجه الدارمي 1/76 ، رقم 188 ) .
    قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سيأتي على الناس سنوات خداعات ، يصدق فيها الكاذب ، ويكذب فيها الصادق ، ويؤمن فيها الخائن ، ويخون فيها الأمين ، وينطق فيها الرويبضة ، قيل : وما الرويبضة ؟ قال : الرجل التافه يتكلم في أمر العامة " ( الإسناد فيه ضعف ، وقد أخرجه بن ماجه 2/1339 رقم 4036 ، وأحمد 13/291 رقم 7912 ، والحاكم 4/512 رقم 8436 ، وقال : صحيح الإسناد ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ، رقم 1887 ) .
    أليس هذا زمان الرويبضة ؟ بلى والله ! إن هذا زمانه ، وإنها السنين الخداعة التي نطق فيها الرويبضة كما أخبرنا بذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم قبل مئات السنين . فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
    اللهم من وقع في هذه الفتنة من المسلمين فرده إليك ردا جميلا وافتح على قلبه وبصره بالحق ، واكفه شر نفسه وشر الشيطان ، وأعوان الباطل .

    قد تم الموضوع بحمد الله ، أسألكم الدعاء لي ولشيخي بالشفاء ، جزاكم الله خيرا ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
    قال لي شيخي : قال شيخ الإسلام بن تيمية قدس الله روحه :
    أعظم الكرامة لزوم الاستقامة

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •