بسم الله الرحمن الرحيم
حين يتلمس المرء بغيته لا يمكن أن يجدها إلا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وشفاء الصدر كامن في تدبر هذا القرآن المجيد ولعلي أقرأ وإياك هذه الآية فماذا عسى أن تجد في ظلالها ، قال تعالى : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ) الانعام آية (70).
أقف مع كلمة واحدة فقط استوقفتني في هذه الآية، وهي في الحقيقة علاج ناجح من المعاصي أو الاستمرار والإصرار عليها . وهذه الكلمة هي البسل: ولعل الحديث يدور حول التالي :
1- معنى البسل عموما. 2 إعراب الكلمة في الآية. 3 معاني البسل عند المفسرين . 4 - تفسير المفسرين لكلمة أن تبسل . 5 بيان إبسال الآخرة وأنه لا يمكن أن يتخلص منه المرء .

1 / معنى البسل :


لعل من أهم الكتب في بيان التعاريف للمفردات القرآنية هو كتاب الراغب الأصفهاني حيث قال في تعريفٍ له - يرحمه الله - للمفردة وأنها تتضمن معنيين قال : ( البسل: أ / ضم الشئ ، ب / ومنعه ، ( ثم ذكر الامثلة )ولتضمنه لمعنى الضم استعير لتقطيب الوجه فقيل هو باسل ومبتسل الوجه، ولتضمنه لمعنى المنع قيل للمحرم والمرتهن بسل وقوله تعالى: ( وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ) أي تحرم الثواب ثم قال : ( وقيل للشجاعة البسالة إما لما يوصف به الشجاع من عبوس وجهه أو لكون نفسه محرما على أقرانه لشجاعته أو لمنعه لما تحت يده عن أعدائه ) ا.هـ

وذكر في بصائر ذوي التمييز بلطائف الكتاب العزيز للفيروز أبادى - يرحمه الله- أن البسل من كلمات الأضداد حيث أوضح هذا بقوله : ( والبَسْل: الحرام؛ لأَنَّه ممنوع عنه. والبَسْل: الحلال؛ لأَنَّه يُضمّ ويجمع، فهو من الأَضداد ) ا.هـ ،
فكأنه يشير إلى أن البسل للنفوس عندما يفسر بالمنع فإنه يفسر بمنعها من الخير والثواب من الله سبحانه وتعالى، وأما البسل بمعنى الضم فإنه يفسر للنفوس باجتماع الشر وضمها واكتسابها له.


يقول ابن جرير الطبري - يرحمه الله-: ( وأصل"الإبسال" التحريم، يقال منه: " أبسلت المكان "، إذا حرّمته فلم يقرب، ومنه قوله الشاعر: (ضمرة )
بَكَرَتْ تَلُومُكَ بَعْدَ وَهْنٍ فِي النَّدَى،... بَسْلٌ عَلَيْكِ مَلامَتِي وَعِتَابِي

( " بكرت" ، عجلت في أول السحر ) أي: حرام عليك ملامتي وعتابي . ومنه قولهم: " أسد باسل"، ويراد به: لا يقربه شيء، فكأنه قد حرَّم نفسه، ثم يجعل ذلك صفة لكل شديد يتحامى لشدته. ويقال: " أعط الراقي بُسْلَتَه" ، يراد بذلك: " أجرته "، "وشراب بَسِيل "، بمعنى متروك . وكذلك " المبسَلُ بالجريرة "، وهو المرتهن بها،

قيل له: " مُبْسَل "، لأنه محرَّم من كل شيء إلا مما رُهن فيه وأُسلم به، ومنه قول عوف بن الأحوص الكلابي:
وَإبْسَالِي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْمٍ... بَعَوْنَاهُ وَلا بِدَمٍ مُرَاقِ
(بعوناه جنيناه والبعوا الجناية ، فقد أسلم بنيه للهلاك) ا.هـ
وذكر في لسان العرب قوله : ( وإبْسالي بَنِيَّ بغَيْرِ بَعْوٍ ... جَرَمْناه ولا بِدَمٍ مُراقِ)ا.هـ ، ثم قال ابن جرير الطبري: ( قال الشنفرى:
هُنَالِكَ لا أَرْجُو حَيَاةً تَسُرُّنِي... سَمِيرَ اللَّيَالِي مُبْسَلا بِالْجَرَائِرِ ) ا.هـ

( سمير الليالي: أبد الليالي).


2/ إعراب الكلمة في الآية :


ذكر ابن عاشور - يرحمه الله - أن الكلمة " تبسل" ، تعرب إعرابات متعددة ولكن الذي يثلج الصدر هما إعرابان حيث ذكر ذلك بقوله : ( 1- ( أنْ تُبْسَل نفس ) يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً لِـ ( ذكّرْ ) وهو الأظهر ، أي ذكِّرْهم به إبسال نفس بما كسبت فإنّ التذكير يتعدّى إلى مفعولين من باب أعطى لأنّ أصل فعله المجرّد يتعدّى إلى مفعول فهو بالتضعيف يتعدّى إلى مفعولين هما ( هم ) و ( أن تبسل نفس ).... وخُصّ هذا المصدر من بين الأحداث المذكّر بها لما فيه من التهويل .


2_ ويجوز أن يكون ( أن تُبْسل ) على تقدير لام الجرّ تعليلاً للتذكير، فهو كالمفعول لأجله فيتعيّن تقدير لا النافية بعد لام التعليل المحذوفة . والتقدير : لِئلاّ تبسل نفس ، كقوله تعالى : ( يبيّن الله لكم أن تضلّوا ) "ا.هـ
والمفعول لأجله كما هو معلوم هو الاسم المنصوب الذي يذكر بيانًا لسبب وقوع الفعل فالتذكير بالقرآن الغاية منه على تفسير هذه الكلمة لئلا يحصل الإبسال للنفوس فينتج عندها إما منع الخير أو ضم الشر فيها. يقول الحق تبارك وتعالى " فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ".
3/ معاني البسل عند المفسرين :
أشار الماوردي -يرحمه الله- إلى أن كلمة تُبْسَلَ لها ستة أوجه :
أحدها : أن تسلم ، قاله الحسن ، وعكرمة ، ومجاهد ، والسدي .
والثاني : أن تُحْبَس ، قاله قتادة .
والثالث : أن تُفْضح ، قاله ابن عباس .
والرابع : أن تُؤْخَذ بما كسبت ، قاله ابن زيد .
والخامس : أن تُجْزَى ، قاله الكلبي .
والسادس : أن تُرْتَهن ، قاله الفراء ، ) ا.هـ
وقد ذكر ابن الجوزي -يرحمه الله- في زاد المسير معنى سابع لهم يرحمهم الله وهو " تهلك " روي عن ابن عباس أيضا) ا.هـ .



4/تفسير المفسرين لكلمة أن تبسل :
قال ابن كثير - يرحمه الله-: (وكل هذه الأقوال والعبارات متقاربة في المعنى، وحاصلها الإسلام للهلكة، والحبس عن الخير والارتهان عن درك المطلوب)ا.هـ
يقول ابن جرير الطبري في كلام متين حول هذه الآية : ( وأما قوله:"وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت"، فإنه يعني به: وذكّر، يا محمد، بهذا القرآن هؤلاء المولِّين عنك وعنه " أن تبسل نفس"، بمعنى: أن لا تبسل، كما قال: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ، [سورة النساء : 176] ، بمعنى: أن لا تضلوا وإنما معنى الكلام: وذكرهم به ليؤمنوا ويتبعوا ما جاءهم من عند الله من الحق، فلا تُبْسل أنفسهم بما كسبت من الأوزار ولكن حذفت"لا"، لدلالة الكلام عليها.
يقول الواحدي - يرحمه الله - في إشارة لطيفة له إلى أن الإبسال يكون في الآخرة : ( " وذكر به " وعظ بالقرآن ( أن تبسل نفس بما كسبت) تسلم للهلكة وتحبس في جهنم فلا تقدر على التخلص ومعنى الآية وذكرهم بالقرآن إسْلَامَ الجانين بجناياتهم لعلهم يخافون فيتقون )ا.هـ قال المراغي - يرحمه الله -: (أي وذكر الناس وعظهم بالقرآن اتقاء أن تبسل كل نفس فى الآخرة بما كسبت أي اتقاء حبسها أو رهنها فى العذاب ، وتفاديا من ذلك بما بينه الذكر الحكيم من أسباب النجاة والسعادة فى هذه الدار كما قال : « كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ » .
قال في التفسير الميسر : ( وذكّر بالقرآن هؤلاء المشركين وغيرهم; كي لا ترتهن نفس بذنوبها وكفرها بربها، ليس لها غير الله ناصر ينصرها، فينقذها من عذاب، ولا شافع يشفع لها عنده، وإن تَفْتَدِ بأي فداء لا يُقْبَل منها. أولئك الذين ارتُهِنوا بذنوبهم، لهم في النار شراب شديد الحرارة وعذاب موجع; بسبب كفرهم بالله تعالى ورسوله محمَّد صلى الله عليه وسلم وبدين الإسلام ) ا.هـ
قال في روح البيان في إشارة لمعنى الإسلام إلى الهلاك : (لأن الإسلام إلى الهلاك يستلزم المنع فإنه إذا أُسلم أحد إلى الهلاك كان المسلم إليه وهو الهلاك يمنع المسلم وهو الشخص من الخروج عنه والخلاص منه). ويقول السعدي -يرحمه الله -في بيان أن الإبسال كما أنه يكون في الآخرة فإنه يكون في الدنيا فأشار يرحمه الله بقوله : ( وكل هذا ( أي التذكير بالقرآن ) لئلا تبسل نفس بما كسبت، أي: قبل اقتحام العبد للذنوب وتجرئه على علام الغيوب، واستمرارها على ذلك المرهوب، فذكرها، وعظها، لترتدع وتنزجر، وتكف عن فعلها)ا.هـ
يقول الشعراوي - يرحمه الله -: ( والبَسْلُ معناه : المنع ، والمنع له صورتان : الأولى منع حركة حياة حي .
أن تحبسه في مكان محدد يتحرك فيه ، والثانية : منع من أصل الحياة .) ا.هـ




5/ بيان إبسال الآخرة وأنه لا يمكن أن يتخلص منه المرء:



يقول المراغي : (والخلاصة - إن النفس المبسلة تمنع فى ذلك اليوم من أي وسيلة من وسائل النجاة ، فلا ولىّ ولا حميم ، ولا شفيع ، ولا فداء ، إلى نحو أولئك مما ربما نفع فى مقاصد الدنيا وأنجز بعض المنافع. وفى هذا إبطال لأصل من أصول الوثنية وهو رجاء النجاة فى الآخرة كما هو الحال فى الدنيا بتقديم الفدية للّه تعالى أو بشفاعة الشافعين ووساطة الوسطاء عنده تعالى ، وتقرير لأصل دينى وهو أن لا نجاة فى الآخرة ولا رضوان من اللّه ولا قرب منه إلا بالعمل بما شرعه على ألسنة رسله من إيمان به وعمل صالح يزكى النفس ويطهرها ، أما من دسّى نفسه وأبسله كسبه للسيئات والخطايا واتخذ دين اللّه هزوا ولعبا وغرته الحياة الدنيا فلا تنفعه شفاعة ولا تقبل منه فدية.)


يقول الشعراوي : ( إذن فهي النفس التي تحبس وتسلم نفسها إلى الهلكة والعذاب بسوء كسبها ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع ، ولا يُقبل منها عدل . وهذه مراحل متعددة تبدأ بقوله الحق : ( لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِيٌّ ) والولي هو الذي ينصرك إن كنت في مأزق . ومأزق الآخرة كبير ، فماذا عن الإنسان الذي ليس له ولاية ؟ إنه العذاب الحق .
والمرحلة الثانية ( وَلاَ شَفِيعٌ ) أي ليس له من يشفع عند من يملك النصرة وهو الله؛ فالذي يحبك إن لم ينصرك بذاته فإنه قد يشفع لك عند من يستطيع أن ينصرك . وهذا أيضاً لا يوجد لمن لم يتذكر ويتعظ ولم يتبع المنهج الإيماني .


والمرحلة الثالثة ( وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا ) أي أنه لا تقبل منه فدية . فهذه المنافذ الثلاثة قد سُدّت ولا سبيل للنّجاة لهؤلاء الذين قال فيهم الحق : ( أولئك الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ ) أي أهلكوا أو حُبسوا في الجحيم حبساً لا فكاك منه ، وليس هذا فقط ولكن الحق يقول أيضاً : ( لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ) ا. هـ .



هذا وأسأل الله الكريم أن لا يجعل نفوسنا مبسلة مرتهنة محبوسة في شَرَكِ المعاصي والشهوات، وأن يعيننا على ذكره وشكره إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .





...