قلت : ثم إن في هذه الطريق ما يخالف الطريق الأولى ، ففيها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقظانا يوحى إليه حينما كان واضعا رأسه في حجر علي رضي الله عنه، و في الأولى أنه كان نائما ، و هذا تناقض يدل على أن هذه القصة غير محفوظة ، كما قال ابن تيمية ( 4 / 184 ) . و الحديث أورده ابن الجوزي في " الموضوعات " وقال ( 1 / 356 ) " موضوع بلا شك ، و قال الجوزقاني : هذا حديث منكر مضطرب " .
ثم أعله بالفضيل هذا فقط ، و فاته جهالة إبراهيم ، و لم يتعقبه السيوطي في هذا، و إنما تعقبه في تضعيف الفضيل ، فقال في " اللآلىء " ( 1 / 174 - الطبعة الأولى ) : " ثقة صدوق ، و احتج به مسلم في " صحيحه " و أخرج له الأربعة " . وهذا ليس بشيء ، و قد عرفت الجواب عن ذلك مما سبق ، ثم ساق له السيوطي طرقا أخرى
كلها معلولة ، و أما قول الحافظ في " الفتح " ( 6 / 155 ) : " و قد أخطأ ابن الجوزي بإيراده له في " الموضوعات " ، و كذا ابن تيمية في كتاب " الرد على الروافض " في زعمه وضعه و الله أعلم " . فهو مع عدم تصريحه بصحة إسناده ، فقد يوهم من لا علم عنده أنه صحيح عنده ! و هو إنما يعني أنه غير موضوع فقط ، و ذلك لا ينفي أنه ضعيف كما هو ظاهر ، و ابن تيمية رحمه الله لم يحكم على الحديث بالوضع من جهة إسناده ، و إنما من جهة متنه ، أما الإسناد ، فقد اقتصر على تضعيفه ، فإنه ساقه من حديث أسماء و علي بن أبي طالب و أبي سعيد الخدري و أبي هريرة ، ثم بين الضعف الذي في أسانيدها ، و كلها تدور على رجال لا يعرفون بعدالة و لا ضبط ، و في بعضها من هو متروك منكر الحديث جدا ، و أما حكمه على الحديث بالوضع متنا ، فقد ذكر في ذلك كلاما متينا جدا ، لا يسع من وقف عليه ، إلا أن يجزم بوضعه ، و أرى أنه لابد من نقله و لو ملخصا ليكون القارئ على بينة من الأمر فقال رحمه الله : " و حديث رد الشمس لعلي ، قد ذكره طائفة كالطحاوي والقاضي عياض و غيرهما ، و عدوا ذلك من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن المحققون من أهل العلم و المعرفة بالحديث ، يعلمون أن هذا الحديث كذب موضوع ، كما ذكره ابن الجوزي في ( الموضوعات ) " . ثم ذكر حديث " الصحيحين " في حديث الشمس لنبي من الأنبياء ، و هو يوشع بن نون ، كما في رواية لأحمد و الطحاوي بسند جيد كما بينته في " سلسلة الأحاديث الصحيحة " رقم ( 202 ) ثم قال : " فإن قيل : فهذه الأمة أفضل من بني إسرائيل ، فإذا كانت قد ردت ليوشع فما المانع أن ترد لفضلاء هذه الأمة ؟ فيقال : يوشع لم ترد له الشمس ، و لكن تأخر غروبها وطول له النهار و هذا قد لا يظهر للناس ، فإن طول النهار و قصره لا يدرك ، و نحن إنما علمنا وقوفها ليوشع بخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، و أيضا لا مانع من طول ذلك ، و لو شاء الله لفعل ذلك ، لكن يوشع كان محتاجا إلى ذلك لأن القتال كان محرما عليه بعد غروب الشمس ، لأجل ما حرم الله عليهم من العمل ليلة السبت ويوم السبت و أما أمة محمد فلا حاجة لهم إلى ذلك ، و لا منفعة لهم فيه ، فإن الذي فاتته العصر إن كان مفرطا لم يسقط ذنبه إلا التوبة ، و مع التوبة لا يحتاج إلى رد ، و إن لم يكن مفرطا كالنائم و الناسي فلا ملام عليه في الصلاة بعد الغروب . و أيضا فبنفس غروب الشمس خرج الوقت المضروب للصلاة ، فالمصلي بعد ذلك لا يكون مصليا في الوقت الشرعي و لو عادت الشمس ، و قول الله تعالى *( فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس و قبل غروبها )* يتناول الغروب المعروف ، فعلى العبد أن يصلي قبل هذا الغروب و إن طلعت ثم غربت . و الأحكام المتعلقة بغروب الشمس حصلت بذلك الغروب ، فالصائم يفطر و لو عادت بعد ذلك لم يبطل صومه ، مع أن هذه الصورة لا تقع لأحد ، و لا وقعت لأحد ، فتقديرها تقدير ما لا وجود له . و أيضا فالنبي صلى الله عليه وسلم فاتته صلاة العصر يوم الخندق ، فصلاها قضاء هو وكثير من أصحابه ، و لم يسأل الله رد الشمس ، و في " الصحيح " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ، بعد ذلك لما أرسلهم إلى بني قريظة ، " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة " ، فلما أدركتهم الصلاة في الطريق ، قال بعضهم : لم يرد من تفويت الصلاة ، فصلوا في الطريق ، فقالت طائفة : لا نصلي إلا في بني قريظة ، فلم يعنف واحدة من الطائفتين ، فهؤلاء الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم صلوا العصر بعد غروب الشمس و ليس علي بأفضل من النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا صلاها هو و أصحابه معه بعد الغروب ، فعلي و أصحابه أولى بذلك ، فإن كانت الصلاة بعد الغروب لا تجزي أو ناقصة تحتاج إلى رد الشمس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى برد الشمس ، و إن كانت كاملة مجزئة فلا حاجة إلى ردها . وأيضا فمثل هذه القضية من الأمور العظام الخارجة عن العادة التي تتوفر الهمم والدواعي على نقلها ، فإذا لم ينقلها إلا الواحد و الاثنان ، علم كذبهم في ذلك. و انشقاق القمر كان بالليل وقت نوم الناس ، و مع هذا فقد رواه الصحابة من غير وجه ، و أخرجوه في " الصحاح " و " السنن " و " المسانيد " من غير وجه ، و نزل به القرآن ، فكيف ترد الشمس التي تكون بالنهار ، ولا يشتهر ذلك ، و لا ينقله أهل العلم نقل مثله ؟ ! و لا يعرف قط أن الشمس رجعت بعد غروبها ، و إن كان كثير من الفلاسفة و الطبيعين و بعض أهل الكلام ينكر انشقاق القمر و ما يشبه ذلك ، فليس الكلام في هذا المقام ، لكن الغرض أن هذا من أعظم خوارق العادات في الفلك، و كثير من الناس ينكر إمكانه ، فلو وقع لكان ظهوره و نقله أعظم من ظهور ما دونه و نقله ، فكيف يقبل و حديثه ليس له إسناد مشهور ، فإن هذا يوجب العلم اليقيني بأنه كذب لم يقع . و إن كانت الشمس احتجبت بغيم ثم ارتفع سحابها ، فهذا من الأمور المعتادة ، و لعلهم ظنوا أنها غربت ثم كشف الغمام عنها ، و هذا إن كان قد وقع ففيه أن الله بين له بقاء الوقت حتى يصلي فيه ، و مثل هذا يجري لكثير من الناس " . ثم قال ابن تيمية رحمه الله تعالى : " ثم تفويت الصلاة بمثل هذا إما أن يكون جائزا ، و إما أن لا يكون ، فإن كان جائزا لم يكن على علي رضي الله عنه إثم إذا صلى العصر بعد الغروب ، و ليس علي أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم ، و قد نام صلى الله عليه وسلم و معه علي و سائر الصحابة عن الفجر حتى طلعت الشمس ، و لم ترجع لهم إلى الشرق . و إن كان التفويت محرما فتفويت العصر من الكبائر ، و قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من فاتته صلاة العصرفكأنما وتر أهله و ماله " . و علي كان يعلم أنها الوسطى و هي صلاة العصر ، و هو قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في " الصحيحين " أنه قال : " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غربت الشمس ملأ الله أجوافهم و بيوتهم نارا " . وهذا كان في الخندق ، و هذه القصة كانت في خيبر كما في بعض الروايات ، و خيبر بعد الخندق ، فعلي أجل قدرا من أن يفعل مثل هذه الكبيرة و يقره عليها جبريل ورسول الله ، و من فعل هذا كان من مثالبه لا من مناقبه ، و قد نزه الله عليا عن ذلك ثم فاتت لم يسقط الإثم عنه بعود الشمس . و أيضا فإذا كانت هذه القصة في خيبر في البرية قدام العسكر ، و المسلمون أكثر من ألف و أربعمائة ، كان هذا مما يراه العسكر و يشاهدونه ، و مثل هذا مما تتوفر الهمم و الدواعي على نقله ،
فيمتنع أن ينفرد بنقله الواحد و الاثنان ، فلو نقله الصحابة لنقله منهم أهل العلم ، كما نقلوا أمثاله ، لم ينقله المجهولون الذين لا يعرف ضبطهم و عدالتهم، و ليس في جميع أسانيد هذا الحديث إسناد واحد يثبت ، تعلم عدالة ناقليه وضبطهم ، و لا يعلم اتصال إسناده ، و قد قال النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر: " لأعطين الراية رجلا يحب الله و رسوله ، و يحبه الله و رسوله " ، فنقل ذلك غير واحد من الصحابة و أحاديثهم في " الصحاح " و " السنن " و " المسانيد " ، وهذا الحديث ليس في شيء من كتب الحديث المعتمدة ، و لا رواه أهل الحديث و لا أهل " السنن " و لا " المسانيد " ، بل اتفقوا على تركه ، و الإعراض عنه ، فكيف في شيء من كتب الحديث المعتمدة . ( قال ) : و هذا مما يوجب القطع بأن هذا من الكذب المختلق . ( قال ) : و قد صنف جماعة من علماء الحديث في فضائل علي كالإمام أحمد و أبي نعيم و الترمذي و النسائي و أبي عمر بن عبد البر ، و ذكروا فيها أحاديث كثيرة ضعيفة ، و لم يذكروا هذا ! لأن الكذب ظاهر عليه بخلاف غيره " . ثم ختم شيخ الإسلام بحثه القيم بقوله : " و سائر علماء المسلمين يودون أن يكون مثل هذا صحيحا لما فيه من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم : و فضيلة علي عند الذين يحبونه و يتولونه ، و لكنهم لا يستجيزون التصديق بالكذب فردوه ديانة ، و الله أعلم " . و قد مال إلى ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الحديث تلميذاه الحافظان الكبيران ابن كثير و الذهبي ، فقال الأول منهما بعد أن ساق حديث حبس الشمس ليوشع عليه السلام ( 1 / 323 ) من " تاريخه " : " و فيه أن هذا كان من خصائص يوشع عليه السلام ، فيدل على ضعف الحديث الذي رويناه أن الشمس رجعت حتى صلى علي بن أبي طالب صلاة العصر ، بعد ما فاتته بسبب نوم النبي صلى الله عليه وسلم على ركبته ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردها عليه حتى يصلي العصر فرجعت ، و قد صححه أحمد بن صالح المصري ، و لكنه منكر ليس في شيء من "الصحاح " و الحسان " ، و هو مما تتوفر الدواعي على نقله ، و تفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها . و الله أعلم " . و قال الذهبي في " تلخيص الموضوعات " : " أسانيد حديث رد الشمس لعلي ساقطة ليست بصحيحة ، و اعترض بما صح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أن الشمس لم تحبس إلا ليوشع بن نون ، ليالي سار إلى بيت المقدس " . و قال شيعي : إنما نفى عليه السلام وقوفها، و حديثنا فيه الطلوع بعد المغيب فلا تضاد بينهما . قلت : لو ردت لعلي لكان ردها يوم الخندق للنبي صلى الله عليه وسلم أولى ، فإنه حزن و تألم و دعا على المشركين لذلك . ثم نقول : لو ردت لعلي لكان بمجرد دعاء النبي صلى الله عليه وسلم و لكن لما غابت خرج وقت العصر و دخل وقت المغرب ، و أفطر الصائمون ، و صلى المسلمون المغرب ، فلو ردت الشمس للزم تخبيط الأمة في صومها و صلاتها ، و لم يكن في ردها فائدة لعلي ، إذ رجوعها لا يعيد العصر أداء . ثم هذه الحادثة العظيمة لو وقعت لاشتهرت و توفرت الهمم و الدواعي على نقلها . إذ هي في نقض العادات جارية مجرى طوفان نوح ، و انشقاق القمر " . هذا كله كلام الذهبي نقلته من " تنزيه الشريعة " لابن عراق ( 1 / 379 ) و هو كلام قوي سبق جله في كلام ابن تيمية ، و قد حاول المذكور رده من بعض الوجوه فلم يفلح ، و لو أردنا أن ننقل كلامه في ذلك مع التعقيب عليه لطال المقال جدا ، و لكن نقدم إليك مثالا واحدا من كلامه مما يدل على باقيه ، قال : " و قوله : و رجوعها لا يعيد العصر أداء.
جوابه : إن في " تذكرة القرطبي " ما يقتضي أنها وقعت أداء ، قال رحمه الله : فلو لم يكن رجوع الشمس نافعا ، و أنه لا يتجدد الوقت لما ردها عليه الصلاة والسلام " . و الجواب على هذا من وجوه : أولا : أن يقال : أثبت العرش ثم انقش .
ثانيا : لو كان الرجوع نافعا و يتجدد الوقت به لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق و أولى به في غزوة الخندق ، لاسيما و معه علي رضي الله عنه و سائر أصحابه صلى الله عليه وسلم كما تقدم عن ابن تيمية رحمه الله تعالى . ثالثا : هب أن في ذلك نفعا ، و لكنه على كل حال هو نفع كمال - و ليس ضروريا ، بدليل عدم رجوع الشمس له صلى الله عليه وسلم في الغزوة المذكورة ، فإذا كان كذلك فما قيمة هذا النفع تجاه ذلك الضرر الكبير الذي يصيب المسلمين بسبب تخبيطهم في صلاتهم وو صومهم كما سبق عن الذهبي ؟!