ابن تيمية.. يمرمط خصومه في أزقة دمشق !!
مقالة قديمة للدكتور استفهام
عجيب أمر ابن تيمية ..
عندما اقرأ له أشعر أني أمام كنز لم يكتشف بعد ، ورجل وهبة الله من مواهبه اللدنية ما يحيرعقول الناس ، فهو ابن تيمية مالئ الدنيا ، وشاغل الناس ...
حينما اريد الحديث عن ابن تيمية لا أدري من أي باب ألج الى الحديث عنه ، فهو بحر عباب لا ساحل له ، فهل اتحدث عن قلمه السيال ، فقد نقل عنه انه يعكف على المجلد ولا ينهض حتى يتمه كاملا ، وقد قرأت له مرة انه قد زار الاسكندرية ، فالتقى برجل يتبع " المنطق الأرسطي " ، فناقشه قليلا ، ثم عكف ضحى ، فكتب ست عشرة ملزمة في نقض منطق ارسطو .
وهل اتحدث عنه من خلال عقله " الاستقرائي " الذي جرد فيه علوم الأولين ، وأصل وقعد قواعد في النظر والاستدلال ، وميز بين الفروق في الاقوال والافعال ، وبين الكليات والجزئيات والاصول والفروع .. وضبط وتحرير مسائلها ..
وهل اتحدث عن عقله " الاستنباطي " الذي يطرب صاحب اللب السليم الذي يعرف اصول العلم ومداخله ومخارجه ..
أم اتحدث عن عقله " الكلي " الذي يستقرئ فكر الأمم ويميز بين ما يوافق العقل وما يخالفه من خلال وضع قواعد عقلية كلية ، وبيان الانسجام والتوائم بين ماهو شرعي وماهوعقلي ، وتوسيع اطار المعرفة الاسلامية لتشمل جميع العلوم الانسانية الصالحة ، والعلوم التطبيقية التي يرى ان تعلمها من فروض الكفايات ..؟
أم اتحدث في اثرائه للعلم البشري العلمي والتجريبي ، من خلال نقضه للــ" منطق الارسطي " العقلي الذي يبعد " الحس " ولا يعتبره مصدرا للمعرفة البشرية ، بينما تبرز " علمية " ابن تيمية في بيان " المنهج التجريبي " الذي اصله قبل " فرانسيس بيكون " بثلاثة قرون ، واليك هذه المقارنة بين الرجلين :
فرانسيس بيكون اشهر من انتقد المنهج الأرسطي ، وهو الذي رأى ان المقدمات العقلية حيث يقول ( المنطق الارسطي ليس طريقا لكشف الحقائق ، وهذا المنطق يجعلنا خاضعين للنتائج دون ان يعطينا اكتشافا جديدا ) !! ولعل فرانسيس بيكون هو من دشن " المنهج التجريبي " الذي قامت حضارة الغرب المعاصرة على أسسه ..
وانظر الى ابن تيمية حين يقرر هذا المبدأ ، ويسبق الغرب الذي وقف عند عقلية " ديكارت " الى زمن " فرانسيس وروجر بيكون " حين صرح بأهمية التجارب العلمية والحسية فقال : ( ولا يقال ان قياسهم يعرف صحيح الادلة من فاسدها ، فان هذا إنما يقوله جاهل لا يعرف حقيقة قياسهم ، فان قياسهم ليس فيه الا شكل الدليل وصورته ، وأما كون الدليل المعين مستلزما لمدلوله فهذا ليس في قياسهم ما يتعرض له بنفي ولا اثبات ، وإنما هذا بحسب علمه بالمقدمات التي اشتمل عليها الدليل وليس في قياسهم بيان صحة شي من المقدمات ولا فسادها ... ) الى أن يقول : ( .... وذلك لاشتراك كثير من الاطباء في تجربة الدواء الواحد وايضا فلكثرة وجود ما يدعى فيه التجربة من النبات وتواطؤ المجربين له ، وليس كذلك ما يدعونه من فلسفتهم ..) !
بل إن ابن تيمية اوسع إدراكا من فرانسيس بيكون الذي يعتمد على الاستقراء حيث قال : إن أملنا الوحيد سيناط بالاستقراء ! ، بينما ابن تيمية ينتقل من الاستقراء الى التجربة الحسية ويغرق فيها بشكل واضح ... فياله من عقل !
إن اردت ان تستمتع ، فاقرأ لابن تيمية وهو " يمرمط " بخصومه البلاط ، ويعطيهم من الشلاليت الفكرية والحجج القوية ما يدكدك به رؤوسهم وأفكارهم ، وان أدرت ان تضحك وتوسع صدرك ، فاقرأ رد ابن تيمية في منهاج السنة على " منهاج الكرامة " لابن مطهر الحلي الرافضي ، وكيف كان يحبك الرد حبكا ، حتى انه يصبخ كلام الرافضة بكلام الخوارج ، حتى يسحق قول كلا المخالفين ، ثم يؤصل مسألته التي يريدها ..
واقرأ كذلك " قمعه " للنصارى في كتابه " الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) لتعلم مدى اطلاعه على كل علم في وقته ، وان شئت فاقرا رده على الرازي في نقض اساس التقديس ، ورسائله العظيمة في تأصيل قضايا الاعتقاد والنظر والاستدلال ، واختم هذا كله بواسطة العقد في نتاجه الفكري كتاب : ( موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول ) او ( درء تعارض العقل والنقل ) ، حتى تعرف انه كان رجلا استثنائيا في حياة الأمة الاسلامية وتاريخها !
أنا استمتع حقيقة وانا اكتب عن ابن تيمية ، فلئن باعدنا الزمن عن زمنه ، فإني ارتحل بوجداني الى رحاب مملكة علمه العامرة بكل مفيد ، وان كان ابن تيمية قد سحر ببيانه وعلمه " ابن دقيق العيد " - وهو علم كبير وعالم نحرير ، فحين رآه يقرر مسائله ، ويتكلم فكأنه يغرف من بحر ، جاءه بعدما انتهى من الدرس وقال : والله لا يخلق الله مثلك .. من هول ما رأى وسمع ، حتى اغضب هذا ابن تيمية ولم يرضه من ابن دقيق العيد .- فلئن يسلب لبي من باب أولى .. فرحمك الله يابن تيمية وانزلك منازل اشهداء ..
أيها السادة الكرام :
إن اشكل ما يشكل علينا في هذا الزمان ، هو أن نجوما في تاريخنا مضيئة قد دنسها أناس من بني جلدتنا ، وغمروها وهي حدات لنا في مسيرتنا الحضارية والنهضوية والمدنية ، وما علينا سوى ان نكتشف هذه الرموز الكبيرة بتجرد لا يشوبه نزعات حزبية او اختلافات منهجية او تقلبات عاطفية ، فان هذه أدواء تحجب الانسان من الافادة والاستفادة من مثل هؤلاء الأعلام .
الكلام عن ابن تيمية يطول .. ولكنها خطرات أبت الا ان تخرج .
هو البحر من أي النواحي اتيته ** فلجته المعروف والجود ساحله
شكرا للجميع !