الحمد لله، و الصّلاة و السّلام على رسول الله، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله ،،

وبعد،

عندما نتصدى للحديث عن مهام العلماء والمثقفين المسلمين اليوم، لا يجب أن نقف عند الإشارات و الدلالات التي يمكن أن نستنبطها من كتاب الله و سنة نبيه و أقوال علماء الأمة ـ فيما يخص العلوم الشرعية ـ فحسب، بل يجدر بنا أن لا نغفل حاجيات الأمة إلى الإجابة القاطعة عن العلوم "الإنسانية "المتجددة و المتنامية، و اتساع رقعة تدخل العلماء المسلمين في حياة المسلمين، في جميع جوانبها الفكرية ،صيانة لهم من الفكر الدخيل المعارض للدين .

نحن نعلم أن العلماء، و النظار، و الفقهاء، و المحدثين، و المفسرين، وعلماء اللغة و النحو، اكتسبوا في التراث الإسلامي تصنيفات عديدة، و تقسيمات بديعة، تدل على غنى الساحة الفكرية عند المسلمين، و تشبعها بالاختصاصات، مما يدل أنه في فترات من التاريخ الإسلامي كانت العقلية الإسلامية قابلة للإخصاب و التجديد، ولهذا ظهرت اختصاصات أو تصنيفات، الواحدة تلو الأخرى.

وكون ثقافة ما تتقبل الاختصاصات الجديدة، يعني ـ حتما ـ قبول تلك العقلية للتجديد، بناء على الاستكشاف العلمي، و التدقيق في البحث والاستقصاء.

فإذا كانت التحديات الجديدة، التي تواجه الأمة، باتت أمرا واقعا مشاهدا، يعلمه كل أفراد الأمة، ولم تعد حكرا على فئة المثقفين، بحيث صار الحديث عن صعوبة العصر و مشاكله حديث الخاص و العام.

فهل لقيت هذه التحديات من المثقف المسلم جوابا مناسبا ،أو إنه تجاهلها، وجمد على مواقف (دعها تسير حتى يفرغ البنزين...! ) ، أو أنه فهمها بشكل سيء، فراح يطلب لها حلولا خاطئة، و أحيانا مميتة لأمته؟

العلماء المُغيّبون :

يكثر بعض المعاندين معرفيا من القول :إن الكلام عن فقه الواقع، و الإحاطة بالثقافة العصرية تلبيس، يمارسه دعاة الضلالة لتضليل الأمة، و الطعن في أهل العلم!

وحتّى نبيّن لهم أنّ فقه الواقع [ من خلال الوعي بحاجياته الشرعية الملحة ]، و الإحاطة بالثقافة المعاصرة مطلب شرعي، دل عليه الشرع، و مارسه أكبر علماء الملة .

و أن مهاجمة من يحث على ذلك، تقع في غالب الأحيان من أناس، هم أقرب إلى التصوف السلبي و الدروشة، منهم إلى العلم و الفكر الصحيح.

ذكر الله سبحانه و تعالى في القرآن أنه يرفع درجات من يشاء،ذكره في مناظرة إبراهيم عليه السلام، فقال : وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (الأنعام ) .

وهي مناظرة جرت بين إبراهيم و قومه، ظهر عليهم إبراهيم عليه السلام بالحجة، أو أسلوب النقض و قياس الأولى.

وفي قصة احتيال يوسف عليه السلام، قال: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (يوسف).

قال العلماء: يرفعهم بالعلم؛ ونحن إذا نظرنا في قصة إبراهيم لوجدناها في العلم بالحجة، و المناظرة لدفع ضرر الخصم المشبه في الدين.

أما قصة يوسف، فهي في العلم بالسياسة، و التدبير لتحصيل المنفعة، ودفع المضرة،ونشر العدل.

فالعلم الأول: هو العلم الذي يدفع المضرة عن الدين، أو علم الأقوال النافعة عند الحاجة إليها، ويدخل في هذا معرفة حجج أعداء الدين، و علومهم، و ثقافتهم التي يهاجمون بها الدين، وهذا من فقه الواقع .

و العلم الثاني: هو علم الأفعال النافعة عند الحاجة إليها، فالحاجة جلب المنفعة و دفع المضرة، وهذا عين الواقع .

قال ابن تيمية في هذا الشأن، في ( المجموع ) {276/14}:

(( و لهذا كان المقصرون عن علم الحجج و الدلالات،وعلم السياسة و الأمارات مقهورين مع هذين الصنفين،تارة بالاحتياج إليهم إذا هجم عدو يفسد الدين بالجدل أو الدنيا بالظلم،وتارة بالاحتياج إليهم إذا هاجم على أنفسهم من أنفسهم ذلك،و تارة بالاحتياج إليهم لتخليص بعضهم من شر بعض في الدين و الدنيا،وتارة يعيشون في ظلهم في مكان ليس فيه مبتدع يستطيل عليهم،ولا وال يظلمهم،وما ذاك إلا لوجود علماء الحجج الدامغة لأهل البدع و السياسة الدافعة للظلم )).

فإذًا، العلماء الذين يستطيعون دفع هجمات من يريد إفساد الدين، من مختلف أعدائه، ويوجهون مختلف الفاعلين في المجتمع الإسلامي، وينصحونهم بصدق ، هم العلماء الذين يحيطون بثقافة عصرهم، و ثقافة عدوهم، وثقافة المخالف لهم، و يحسنون تسييس الناس، كل الناس.

وكل هذا يحتاج إلى نوع فقه للواقع السياسي، و الاقتصادي، و الاجتماعي، و الإحاطة بثقافة العصر، وذلك بتوجيه إشارات علمية وفكرية معينة، واقتراح الإصلاحات في مختلف القطاعات و المجالات.

فهؤلاء العلماء يملكون (بقوة منصبهم الشرعي) زمام المبادرة إلى اقتراح إصلاح كل ما يرونه فاسدا، أو قابلا للتحسين، ففرق بين من يبادر، وبين من ينتظر أن يستشار.

و الخلاصة أن نقول:لا يقتصر دور علماء الدين على حراسة الدين، و الحفاظ عليه، ولكن ـ كذلك ـ حراسة حملة الدين، و الحفاظ عليهم،إذ الدين جاء ليحفظ لهم مصالحهم الدنيوية و الأخروية.

أقصد أن الدين لا يكون دينا حيا معاشا، حتى يحمله الناس، و يتدينون به وحراسته دون حراستهم(حقوقهم)، إخلال بمقاصد هذا الدين أولا، و تضييع له ثانيا.

فالإنسان الحامل للدين ليس أقل شأنا من الدين نفسه، إذ هو المقصود بالدين على معنى حرمة المسلم أعظم من حرمة البيت الحرام.

فقد جاء في الحديث: مرحبا بك من بيت ما أعظمك و أعظم حرمتك وللمؤمن أعظم حرمة عند الله منك إن الله حرم منك واحدة وحرم من المؤمن ثلاثا" دمه وماله و أن يظن به ظن السوء

أخرجه البيهقى في(شعب الإيمان)(3/444 ، رقم 4014) .

فكيف نحرس الدين، ولا نحرس هذا الإنسان، من كل ما يضيع دينه ودنياه ويفسدهما من ظلم و تجهيل؟!

لقد علمنا من خلال آيات القرآن الكريم، و الأحاديث الشريفة، وممارسات علماء الأمة، في العصور الذهبية للإسلام أن دور العلماء أولا:

تكريس الجهود لتفسير النصوص الشرعية، وتحديد معانيها الدقيقة، و استنباط الأحكام منها، انطلاقا من هذه المعاني.

صرنا اليوم نرى فئة ـ قليلة ـ منهم ، لا تهمهم مسألة المعنى، بقدر ما يهمهم الوقوف عند ظاهر ألفاظها، دون تجاوزها إلى باطن معانيها.

وعندما نقول: " باطنها" لا نقصد أن للنصوص باطنا مناقضا للظاهر، و إنما نقصد البحث عن العلل، و المقاصد ،و مراعاة تكامل منظومة النصوص.

فالنصوص الشرعية متشابكة فيما بينها، و هي بمجموعها تشكل منظومة تشع روحا وجوهرا، وقد عبر عن هذا الأمر علماء الأصول في مسألة" جمع النصوص و أخذ الحكم الزائد"،و"هل العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب"، وغير ذلك من قواعد.

و أحيانا نجد وقوف هذه الطائفة من العلماء عند مقالات لأئمة كثر تداولها في عصرهم، ولكنها لا تمثل ما يسميه ابن تيمية :" الشرع المنزل"، بل هي من قبيل الشرع المؤول، و أحيانا الشرع المبدل، فيعتمدونها أصلا يبنون عليه كل فقههم.

ولعل أبرز ما يدل على انغلاق هذه الفئة داخل سياج الممارسات الخاطئة الموروثة، إما بالتأصيل للبدع الظاهرة،أو التقليد الأعمى، هو تمثلات فكرهم عمليا، و كيف أنهم يولون الشكل و الظاهر أهمية تكاد تكون أصولية و أساسية عندهم، سواء في ممارساتهم التعبدية التي تتسم بالموسمية.

حتى في مسألة الشعارات، و الانتساب إلى فلان وعلان من الصالحين، و العلماء، و المتكلمين.

إن الحدود العملية البدعية، أو الضعيفة الترجيح، التي أغلقوا بواسطتها على النصوص الشرعية الصحيحة، تبين كيفية توظيفهم للنصوص الشرعية، حيث أدى بهم ذلك إلى جعل الاستثنائي عاما،و المقيد بشروط مطلقا.

فيظن الواحد أنه متمسك بسنة، لأن معه حديث صحيح، وهو غارق في مذهب وفهم ضعيف ومرجوح،هذا إن لم يكن بدعة .

ففي تصورهم ـ عموما ـ التفكر في معاني هذه النصوص غير خاضع لحرية البحث و النظر، ولا يتاح للعقل النظر البتة للجمع بين المتماثلات، و التفريق بين المختلفات.

و إنما هو التلقي من فيض الشيوخ لبعضهم، و التقليد بدون فهم و بحث لبعضهم الآخر،ومنهم من جعل كل ما سطر في كتب الأقدمين صحيحا!

ولذلك لا يوجد في قاموسهم:كلمة " فكر ونظر"، ويتوجسون من هذه الكلمة أشد التوجس، بل بعضهم جعلها قرينة على أن الناطق بها من هذه الجماعة أو تلك، ممن يرى أنها لا تتقيد بالسنة!

فلا يوجد عندهم فكر إسلامي له نطاق معين، تحرصه الثوابت والمقاصد الشرعية، وليس من شرطه أن يكون لكل فكرة يحللها نص يدل عليها بالمطابقة.

يأتي أحدهم إلى آية من كتاب الله عامة ،و محكومة بعرف من نزلت فيهم وبفهمهم ، ثم يغلق عليها داخل سياج من ممارسته العملية المتمثلة في قيود يضيفها من فهمه هو،لا علاقة لها بفهم السلف.

ثم بعد ذلك يوظف هذه الآية، أو ذاك الحديث، في نشاطه الدعوى، جازما أنه السنة و الشرع و الحق، و المخالف لفهمه مخالف للسلف، مبتدع يعادي أهل السنة و الجماعة، و يحارب الله ورسوله والمؤمنين!

فمن خلال هذا، يتبين لك أن المعرفة عند هذه الفئة هي مجرد استنباط لغوي من النصوص[أقصد أن اللفظ يحتمل ذاك المعنى]، لا تعتمد مبدأ: كيف فهمها من نزل فيهم القرآن، وكيف تعاملوا معها تطبيقا وواقعا.

فالمعرفة عندهم، هي ما ورثته عن الشيخ والبيئة و المجتمع ، و ليست عبارة عن استنباط للمعاني حرمن قيود المذهبية و الأفكار المسبقة، داخل نطاق الفكر الإسلامي، و ثوابته المتفق عليها، وهي : الكتاب و السنة و الإجماع.

فلا المعاني مستنبطة، ولاهي تتجدد بتجدد الفكر و دواعيه، ليشمل الإسلام كل جديد لم يعرفه السابقون.

لقد رسخ هذا المنظور عند هؤلاء ، رغم اختلاف المشارب، و بنوا عليه نظريتهم في الإصلاح ، فلم نلاحظ عندهم أية ممارسة فكرية لتراث الأمة الإسلامية، بمنظور تطلب المعاني المتجددة.

وعليه صار هؤلاء منغلقين على أنفسهم، قد حول فريق منهم بعض قواعد السياسة الشرعية ،كقاعدة " سد الذرائع المرنة " إلى مجموعة تدابير أسميها: " الإجراءات البوليسية وحالات الطوارئ " للحفاظ على نظريتهم من الذوبان داخل ساحة فكرية أقوى منهم ،إما بحكم التأصيل و سلامة التحليل ، وإما بحكم حاجات الأمة التي لم ينهضوا بها.

وهناك فريق آخر ذاب في متاهات العصر، و أراد أن يجعل الإسلام على مقاس العصر، فأخذ يقطع من أطرافه تأويلا ،أو حتى تبديلا.

وليس هذا خاصا بهذين الفريقين، بل جل المذاهب و الجماعات الإسلامية تعاني من نفس المشكل،فمنهم من لا يهجر الأفراد، ممن يظهر بمظهر المنفتح، ولكنه يمارس حجرا علميا على كتب بعض العلماء المسلمين الذين غيروا مجرى التاريخ المعرفي للأمة، كابن تيميةالذي صار الدارئة التي توجه إليها سهام كل من يرفض إصلاح نفسه،و النهوض بهذه الأمة من مخلفات التاريخ ورواسبه،التي غلفت الوحي بقسميه،بقشرة من الظلمات أدخلت العقل المسلم في عالم من الخرافات و الترهات و الأساطير،هذا بنظرية الأئمة،وذاك بنظرية الأولياء و رجال الغيب،إلا لأنه أراد لهذه الأمة أن تكبر،وتشع على هذا الكوكب علما ورحمة.

إن سياسة الحجر عليه، وعلى غيره من العلماء، قد أضرتهم أكثر مما أضرت به ، إذ فاتهم علم جم، كانوا بحاجة إليه لبناء النهضة الإسلامية الحديثة.

فمسألة نقض المنطق الصوري أو الأرسطي، وهي مسألة معرفية جوهرية في البناء الحضاري المعرفي المعاصر، إذ لولا المنهج التجريبي لما وصل الغرب إلى ما هو عليه، قد سبق إليه ابن تيمية جون ستوارت مل، و ديكارت بقرون.

ولكن الحجر عليه هو الذي دفع بمراكز علمية مرموقة في العالم الإسلامي أن تتخلف قرونا طويلة، فمجرد النظر في المقرر فيها في علم المنطق تدرك في أي الأزمان الغابرة بقيت المعرفة عند المسلمين، في هذا المجال،كأنما توقف العلم، و سكن البحث القفار، ومات الاجتهاد غما من التعصب.

وبدون أن أنقل بحثا كاملا في هذه المسألة أقول:

((مهما كانت النزعة التجريبية الحسية شائعة بين النظار الإسلاميين عامة، فإن ابن تيمية يبقى هو الوحيد الذي اعتمدها مذهبا معرفيا في نقده للمنطق المشائي، وهو الوحيد الذي جعل من التجربة الحسية مظهرا لفطرية الدين الإسلامي، و معيارا لرد جميع الآراء التي لا تقبلها الفطرة السليمة.

كما وجدنا ابن تيمية منفردا في طبيعة عمله، و في جلالة هذا العمل، لأنه تفرد بالجمع بين المعرفة بالشريعة الإسلامية و منطقها، و بالفلسفة المشائية و منطقها، وبالروح النقدية.

ولم يبد لنا أن هذه الخصال الثلاث قد اجتمعت لأحد ممن سبقه أو تبعه، من الذين عابوا المنطق المشائي، فبعضهم حرمه ،و بعضهم أوجبه دون أن ينتبه فريق منهم إلى أن المنطق الصناعي لا يمكن تحريمه لأنه يتبطن منطقا طبيعيا فطر الله الناس عليه، ودون أن ينتبه الفريق الآخر إلى أن ما أوجبوه هو تحصيل لحاصل، لأن الله غرز أصول هذا المنطق في فطرة الإنسان. ولذلك بقي نقد ابن تيمية للمنطق المشائي مفتقرا إلى عالم بالشريعة، عارف بأساليب التفكير الفطري، و صوره الصناعية، متشبع بالروح النقدية حتى يستطيع مواصلة عمل قام به الفقهاء و علماء نظار، الذين جدوا في حماية عقيدة عرفوا بساطتها فنفوا عنها التعقيد، و أدركوا صحتها فابعدوا عنها عناصر الفساد، وشعروا بالخطر يتهدد أصالتها، و بالسموم تدب في أوصالها مما كانت تتجرعه من مناهل المعرفة، التي كان الصراع من أجل البقاء يوجب عليها ورودها، والتي فتحتها سماحتها على آفاقها جميعا، فهبوا يذودون عنها بسلاح يفل كل سلاح، ولا يفله سلاح، هو سلاح الفطرة التي لا يستطيع الإنسان ولو حاول الانسلاخ عنها، بذلك نقدوا الفلسفة المشائية، وردوا منطقها، و بذلك نقد ابن تيمية منطق المشائين نقدا لم يبلغ أحد من الفقهاء أو من علماء الكلام شأوه فيه، لأنه نقد مذهبي قصد به صاحبه على حماية أساليب التفكير الإسلامية، و بيان أهميتها و مكانتها بين أساليب التفكير الأخرى، فيكون بذلك قد دافع عن الفطرة بمنطق الفطرة))

عن بحث للدكتور محمود اليعقوبي بعنوان:(ابن تيمية و المنطق الأرسطي).

إن القلب ليتفطر حسرة على ما فعل التعصب بالمسلمين،فبعضه م ودون دراسة شاملة وعميقة يريد أن يجعل من أبي حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ قنطرة التجديد في الفكر الإسلامي، وهو من دعاة التقليد في نظرية البناء المعرفي، أو أطر الإدراك،( فإذا كان لا يمكننا أن ننكر أن جميع من كتب من المسلمين باللغة العربية في المنطق، لم يخرجوا عن الحدود التي رسمها أرسطو، و أن المتأخرين منهم قد اكتفوا بتجريد منطق المشائين من الميتافيزياء التي تبطنه، فإنه لا جدال في أن هؤلاء لا يمثلون جميع أصناف الطالبين المسلمين، ولا جميع الذين تحدثوا في المنطق، بل كان إلى جانب هؤلاء المعجبين بالفلسفة اليونانية عامة، و المنطق المشائي خاصة، طائفة من النظار الإسلاميين لم يقبلوا هذه الفلسفة، لأن أصولها مخالفة لأصول العقيدة الإسلامية، ولم يستسيغوا هذا المنطق، لأنه من جهة أداة لهذه الفلسفة، ولأنه من جهة أخرى مبني على بعض أصول هذه الفلسفة، فكأنه جزء منها.

فالغزالي الذي جعل هو الآخر من المنطق مقدمة لكل علم[(المستصفى){10/1}] بما في ذلك علم أصول الفقه، لا يمكن اعتماده كمنطلق نحو تجديد العلوم الإسلامية.

وكذلك ابن حزم الذي كان من السابقين إلى نعت المنطق ومدحه إلى حد التوكيد بأن:(( من جهله خفي عليه بناء كلام الله عز وجل مع كلام نبيه صلى الله عليه وسلم ،وجاز عليه من الشغب جوازا لا يفرق بينه و بين الحق، ولم يعلم دينه إلا تقليدا، و التقليد مذموم))[التقريب لحد المنطق ص:3]

في الأخير أقول:

إذا كانت الأمة الإسلامية بحاجة ماسة في هذا العصر إلى هذين الصنفين من العلماء:الذين يحاجون عن الدين،ويحمونه من جميع أعدائه،من داخل الأمة ومن خارجها.

و الذين يحسنون جلب المنافع ودفع المضار عنها بما أتوا من حسن السياسة و البراعة فيها، فإنها بحاجة كذلك إلى بقية أصناف العلماء كـ:الفقهاء،و المفسرين،و المحدثين،و أهل النحو و اللغة ،و الدعاة،و الوعاظ.

لكن ليس عليهم أن يعتبروا الصنفين السابقين منافسين لهم، فيركنونهم في خانة المفكرين،كأنه صنف أقل قيمة،بل هم سادة العلماء،فهم أصحابالحجج الدامغة للفكر البدعي و الكفري،و السياسة الدافعة للظلم ، ولقلتهم في هذا الزمان تعاني الأمة ما تعانيه من شبه وجور. انتهى.

المصدر: مقال للشيخ مختار الطيباوي ـ منقول عن الموقع المنسوب إليه.