عرَض كتابُ "المعتزلة الجدد" أغراضَ وسياقاتِ التعامُل العربي الحديث مع تُراث الإسلام العقلاني
المؤلف: توماس هيلدبراندت.
دار النشر: بريل، ألمانيا.
عدد الصفحات: 546.
الطبعة الأولى: 2007.

قدم توماس هيلدبراندت أصلَ هذا الكتاب؛ للحصول على درجة الدُّكتوراه من جامعة بامبرج الألمانية، وقد حصل الكاتب لإنجاز هذا الكتاب على منحة دراسية في بيروت "بالمعهد اللبناني للأبحاث الشرقيَّة" بتمويل من "هيئة التبادُل العلمي الألمانية" (daad)؛ حيث أقام الكاتب هناك ثمانية أشهر، وأنْجز بحثه الميداني بمعاونة بعضِ الباحثين والأساتذة العرب، كان منهم الدكتور طريف الخالدي، أستاذ كرسي الشيخ زايد للتاريخ الإسلامي في الجامعة الأميركية بيروت، كما قدم الشكر لكل من عاونوه من البُلدان العربية، وقد ذكر من مصر: حسن حنفي، نصر حامد أبو زيد، محمد إبراهيم الفيومي، محمد عمارة، ومن لبنان: رضوان السيد، وسميح دغيم، صاحب موسوعة "مُصطلحات علم الكلام الإسلامي".

يبدأ الباحثُ المقدمة بفقرة تزيل اللَّبس المحتمل من عنوان الكتاب، مُشيرًا إلى أنَّ الكتاب ليس بحثًا في علم الكلام بالمعنى الصحيح، كما أنَّه ليس بحثًا لدراسة وتَحقيق آراء المعتزلة، فالموضوع الأساسي للكتاب هو كيفية تعامُل المفكرين العرب باتِّجاهاتِهم المختلفة مع التُّراث المعتزلي، وكيفية توظيفهم له لخدمة توجهاتِهم الفكرية والسياسية؛ بحيث يتضح المفهوم المحدد للمصطلح الذي شاع بين المستشرقين والمسلمين على حدٍّ سواء، وهو مفهوم "المعتزلة الجدد".

يبحث الفصلُ الأول حدودَ ومعايير الحكم على أحد مُفكري العالم العربي بأنه واحد من الذين ينتمون إلى "المعتزلة الجدد"، يُحاول الكاتب من خلال هذا الفصل تحديدَ مفهوم "المعتزلة الجدد" لدى المستشرقين الغربيِّين أو المفكِّرين المسلمين العرب على حدٍّ سواء، بَدْءًا من جولدتسيهر الذي رأى أنَّ الحركة العقلانية الحديثة في الإسلام نَمَت في كل من الهند ومصر، على يد السير أحمد خان، والسيد أمير علي في الأولى، وعلى يد مُحمد عبده، وجمال الدين الأفغاني في الثانية، وانتهاءً بأستاذه البروفسير لوتس ريتشر برينبورج الذي أثارَ لدى الباحث الاهتمامَ بالموضوع في الفصل الدراسي الشتوي من عام 95 - 96 أثناء دراسته في جامعة ليبزك.

ويقول الكاتب: إنَّ مفهوم المعتزلة الجُدُد لا يدل على تيار فكري مُعين أو معسكر يُمكن تسميته بهذا الاسم، وفي مُحاولة لإعطاء هذا المصطلح المطاطي شيئًا من التحديد؛ وَضَعَ الكاتبُ عِدَّة معايير للحكم على أحد المفكرين بانتمائه العام لهذا التيار موضوع البحث، وهي:
1- اهتمام الكاتب عن طريق التَّأليف والكتابة عن المعتزلة، مع تأييده لبعض أفكارهم، أو الدعوة إلى إعادة التفكير فيها من جديد، أو الحديث عنها بشكل إيجابي، ذكر من هؤلاء "أحمد أمين، محمد عبدالهادي أبو ريده، علي مصطفى الغرابي، زهدي جار الله، البير نصري نادر، المغربية فاطمة ميرنيسي".

2- الكُتَّاب الذين يتناولون قضايا مثل حرية الإنسان، وتقديم العقل، وغيرها من المفاهيم المتقاربة مع فكر المعتزلة والمتأثرة بها بطريق غير مُباشرة، ولكن بأسلوبِ الكاتب ولغته الخاصَّة، من هؤلاء: "الرِّوائي محمد كامل حسين، هشام جعيط، الطالبي، محجوب بن ميلاد، خلف الله، حسن حنفي، كما ذكر من ، وقد ذكر المؤلف أنَّ هذا المعيار أوسعُ من المقصود؛ حيثُ إنَّ القائمة التي نتجت من تطبيق هذا المحدد على المفكِّرين العرب قد أنتجت مُثقَّفين من جميع التيَّارات، ربَّما كان بعضها مناوئًا تمامًا لمدرسة المعتزلة، وفي إشارةٍ تدُلُّ على الحرص في تتبُّع المفهوم في الوسط العربي، فقد أشار الكاتب إلى ما كتبه محمد العبده، وطارق عبدالحليم عن المعتزلة، ورصدهم للمعتزلة الجُدُد، وقد نَبَّه المؤلف إلى أن الكاتِبَيْن - السنِّيين - قد استعملا مصطلحَ المعتزلة الجُدُد بمعنى سلبي.

3- الكتاب الذين يؤمنون بأفكار المعتزلة، لكنَّهم لا يُصرِّحون بذلك لأسبابٍ تكتيكية - حسب تعبير الكاتب - وقد ذكر أنَّ أوضح مثالٍ لهذا الصنف هو مُحمد عبده؛ حيثُ وَصَفه بمحاولة إيجاد طُرُق وصياغات وسطية بين الأشاعرة والمعتزلة؛ مما أدَّى إلى إخفاء تأيِيده للمعتزلة صراحة، وقد ذكر في هذا السِّياق موقفَ جابر عصفور أثناء تأييده لتلميذه نصر حامد أبو زيد، ممثلاً الصِّراع بينه وبين مُخالفيه على أنَّه صراع بين أهل العقل "المعتزلة" وأهل النَّقل.

4- الكُتَّاب الذين يقرُّون صراحةً بانتمائهم إلى مدرسة الاعتزال، وقد رأى المؤلف أنَّ قلة من الكتاب يتَّخذون هذا الموقف الصَّريح لعدة أسباب؛ منها أنَّ سمعة الجماعة خلال القرون الماضية تثبِّت في عقول المسلمين فكرةً سلبية عن المدرسة والمنتسب إليها، كما أشار إلى أن معنى كلمة الاعتزال وما تحويه من انغلاق وتفريق للأُمَّة جعل الاتِّصاف بها غير مرغوب فيه لدى كثير من الناس، إلاَّ أنَّه أشار إلى أن السير أحمد خان، وحسن حنفي، من هذه القلة التي تعلن عن تأييدها وانتمائها الفكري إلى هذه المدرسة، وقد تزايدت هذه الدَّعوى في السنوات الماضية، فقد تَحدَّث بها كثيرون كما سيأتي.

ينتقل البحثُ إلى الفصل الثاني؛ ليبحثَ إشكالية التُّراث والمعاصرة في الفكر العربي الحديث، ويعرض مكانةَ علم الكلام كأحدِ أفراد الاهتمام التُّراثي وعلاقته بالحركة الفكرية الحديثة، ويَخص المعتزلة من بين الفرق الكلامية بعرض مَوقف المفكرين العرب منها، ويُمثل الفصل الثالث من الكتاب عرضًا تاريخيًّا لرجالات وأفكار المعتزلة كفرقة كلامية تُمثل الاتجاه العقلاني في الإسلام - بحسب رُؤية المؤلف - كما يبحث الرُّؤية الغربية للمعتزلة من خلال أبحاث المستشرقين الذين توفروا بحماس على دراسة أفكار وتأثيرات "عقلانيِّي الإسلام المنشقين" على الواقع الإسلامي المعاصر، من خلال الرَّصد والتحليل والمتابعة للمَنشورات والاتِّجاهات الفكرية.

يحمل الفصلُ الرابع عنوان "الاهتمام العربي الحديث بالمعتزلة: نظرة عامَّة"، وكما يدُلُّ العنوان، فإنَّ الكتابَ يعرض مراحلََ وتفاصيل هذا الاهتمام بدراسة المعتزلة مُقسمًا هذا الاهتمام إلى مرحلتين: الأولى: هي مرحلة البدايات، والثانية: مرحلة الانفتاح على معرفة هذه الفرقة، ثم يخصص الكتاب عنوانًا خاصًّا عن الكتب التي ألِّفت عن المعتزلة، بدايةً من أواسط الثمانينيَّات إلى وقت تأليف الكتاب، ومن خلال ذلك يقدِّم الباحث سردًا ومسحًا يكاد يكون شاملاً لرسائل الماجستير والدُّكتوراه التي أشرف عليها أهمُّ المشتغلين ببعث الفكر الاعتزالي من أمثال: عاطف العراقي، ومحمد سليم العَوَّا، ومحمد عمارة، ومحمد عابد الجابري، ومحمود قاسم.

كما قدم تصنيفًا للرسائل التي قدمت في كلية الآداب جامعة القاهرة، وفي أسيوط، بل أشار إلى رسالتين قدمتا إلى جامعتين سُعُوديتين، هما: "آراء المعتزلة الأصولية دراسةً وتقويمًا"، للكاتب: علي بن سعد صالح الضويحي في كلية الشريعة بالرياض، ورسالة "المسائل الاعتزالية في تفسير الكشاف للزمخشري في ضوء ما ورد في الانتصاف لابن المنير"، لصالح بن غرم الله الغامدي، رسالة ماجستير بكلية أصول الدين.

بعد هذه الفصول الأربعة يصلُ الكاتب إلى الموضوع الأساس للكتاب، وهو كيفِيَّة تعاطي التيارات العربية المعاصرة مع تُراث المعتزلة، يبدأ الباحثُ في الحديث عن الاتِّجاه الليبرالي العربي وتعامله مع تُراث المعتزلة كأحد المرتكزات الفكرية لإثبات أصالة أفكارهم وصِلَتِها بالإسلام، خاصَّة في تثبيت مفاهيم الحرية الفردية، وتعظيم العقل والتوسُّع في تأويل النَّص لموافقة الواقع، ويُمثل هؤلاء بقوة تلامذة مُحمد عبده، الذين كانوا أكثر شجاعةً منه؛ لأنه كان يجب أن يبدو أشعريًّا بوجهٍ ما؛ نظرًا لمنزلته في الأزهر، كما اعتبر فترة نشاط الشيخ طاهر الجزائري في سوريا فترة ذهبية لانتشار أفكار المعتزلة التحرُّرية، وكان أحمد أمين المؤرخ الفكري واحدًا من الذين اعتبروا المعتزلة هم ليبراليو الإسلام، كما ذكر المؤلفُ من هذا الصنف محمد حسين هيكل، ومحمود عباس العقاد، وطه حسين.

الفريق الآخر الذي أبدى إعجابًا وتبنيًا واستخدامًا لفرقة المعتزلة من أجل ترويج مذهبه كانوا هم اليساريِّين العرب، وكان على رأسهم شبلي شميل، وصادق جلال العظم، ومَحمود أمين العالم، وسمير أمين، وأنور عبدالملك، والطيب تيزيني، وجورج طرابيشي، وقد استخدمَ هذا الاتِّجاه أفكارًا إسلامية، مثل: التكافل الاجتماعي، ومساواة البشر، وشاعت بينهم مَفاهيم الحقبة الناصرية حول اشتراكية الإسلام، وفي إشارة إلى جهود الشيوعيِّين اللبنانيِّين ذكر الكاتب جهودَ حسين مروة الذي نشر كتابه المثير للجدل بعنوان: "النِّزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية".

ويعرض الكاتب تحت عنوان: "الفكر الإسلامي السياسي والمعتزلة" استخدامَ علي عبدالرازق لمنهج متأثِّر بالمعتزلة في كتابه: "الإسلام وأصول الحكم"؛ حيث رأى أنَّ شؤون الحكم متروكة لعقل الإنسان يُدبِّرها حسب المصلحة ومُقتضيات العصر، وأنَّ الخلافةَ كانت ظاهرة تاريخيَّة لا عَلاقة لها بجوهر الإسلام، كما عالج الكتاب تأثيرَ الاعتزال في بعض التصنيفات السياسية، كما في الصِّراع بين الحنابلة أو التيار السَّلفي، وبين الشيعة كأحد أبرز الذين تأثروا في عقائدهم الكلامية بمذهب الاعتزال.

وفي مُحاولة لبحث مناحي التأثير الاعتزالي كافة على الفكر العربي الحديث، يعالج الكتاب "تفسير القرآن الكريم والمعتزلة"، مُتناولاً القراءات العربية الحديثة وتأثُّرها بأفكار المعتزلة حول التأويل وتحكيم العقل، كما أفرد الكتاب موضوعًا عن "المثقَّفين العرب المعاصرين ورُؤيتهم للمحنة".

تعليق:
يعكس الجهد المبذول في الكتاب حرصَ العالم الغربي - ممثلاً في المستشرقين الذين تدعمهم الجهاتُ العلمية - على تتبُّع الظَّواهر الفكرية المساندة والمؤيدة - ولو من دون قصد - للتيار الحداثي الغربي والقيم العَلْمَانية، سواء كان هذا التأييد عن طريق الأُطروحات الجديدة، أو إعادة صياغة آراء الفرق القديمة بمصطلحات عصرية، أو حتى مجرد إحياء وبعث التُّراث الكلامي والفلسفي المقبور، ونشره بين الباحثين في التُّراث والتاريخ الفكري للإسلام على أنَّه وجهة النظر العقلانية الغائبة عن الحضور؛ بسبب الانغلاق والرجعية، وبهذا يصبح رجالات المعتزلة ثوارًا ومُفكرين لم تدرك الأمة قَدْرَهم، ولم تستوعب أفكارَهم الحداثيَّة التي كانت سابقةً لأوانِها، تحت هذا الغطاء الذي يكتسب صيغةَ التراث الإسلامي تتسلَّل أخبثُ الأفكار القاتلة لروح الإيمان قبل الانقضاض التام والصَّريح على الإسلام ذاته كدين.

غَيْرَ أنَّ العَلْمَانيِّين العرب فاتَهم - وهم يُحاولون أن يبحثوا لهم في تاريخنا عن سَلف يرفعون به خسيسة انتسابهم إلى الغرب - أنَّ جميعَ الفرق مع ما فيها من الضَّلال والبعد عن المنهج الصحيح، كانت تنطلق من منطلقات إسلامية، وكان زعمهم الذي حسبوه حقًّا أنَّ مناهِجَهم تكسر شوكة أعداء الإسلام، وترد كيد الملاحدة.

إلاَّ أن الجدد منهم الآن لم يشتقوا مذاهِبَهم ولا آراءهم من الإسلام، ولا كانت بداياتهم منه، بل كانت أول انطلاقاتهم من الغرب، أخذوا من مبادئه وارتَوَوْا من سرابه، ثم ذهبوا يطلبون لَهُم من أهل الإسلام مُوافقًا، لقد خالفوا المعتزلة في المنشأ والنَّتيجة، فقد كان ضلال المعتزلة بسبب نَفْيِ الصفات عن الله وتسمية هذا النفي تنزيهًا، وهؤلاء الجُدُد لا عَلاقة لهم بهذا الأمر من قريب ولا بعيد، أمَّا بالنسبة إلى النَّتائج فإن المعتزلة كانوا أكثر تطرُّفًا من جماعات التكفير اليومَ، سواء في حكمهم على مُخالفيهم في الاعتقاد أو حكمهم على العُصاة من عوام المؤمنين، كما فاتَهم أن أفكار المعتزلة التي أرادوا التغني بها هي جزء من مَنظومة المعتزلة الفكرية المتكاملة، وأنَّها التزامات التزموها نتيجةَ أصولهم التي بَنَوا عليها - بغضِّ النظر عن مُناقشة هذه الأصول - لكنَّ الانتقائية من أفكار المعتزلة - مع عدم التسليم لهم بالمقدمات والنَّتائج اللازمة - تناقضٌ صريح.