الجابري والجابريون .. أوهام النقد وأهواء الأتباع


من المناسب أن يقدم المهتمون بالجانب الفكري والثقافي رؤيتهم الشخصية حوله، ويمكن من مجموع هذه الآراء أن تتكون شهادة مكتملة حوله وحول الساحة الفكرية بعامة
بموت "الجابري" تفقد الساحة الفكرية أحد أقطابها البارزين، ومن كان على صلة بالحقل الثقافي في العشرين سنة الأخيرة يعرف بأنه ربما لم توجد شخصية فكرية عربية معاصرة كتب حولها مثل ما كتب حول الجابري، وبخاصة من جهة انتقاد أفكاره. ويمكن القول بأن كبار المفكرين من الأطياف المختلفة لم يرحبوا بمشاريعه الفكرية، إلا أنه لقي حفاوة من الشباب المثقف.
وهذا المقال لا يهدف للنقد؛ لأني لا أعرف كاتبا معاصرا قد حظي بسعة نقد مثل الجابري، من الإسلاميين أو العلمانيين. ومع ذلك؛ فمع رحيل هذا المفكر أجد أنه من المناسب أن يقدم المهتمون بالجانب الفكري والثقافي رؤيتهم الشخصية حوله، ويمكن من مجموع هذه الآراء أن تتكون شهادة مكتملة حوله وحول الساحة الفكرية بعامة. والحقيقة -وبسبب ظروف خاصة- أنني لم أكن متحمسا للكتابة عنه لولا مطالبة بعض الأصدقاء بذلك.
وإبراز موقف واضح من مفكر صاحب نشاط كبير ليس أمرا سهلا، وهناك طائفة اعتادت على إرسال الأقوال وأخرى تبحث عن الإجابات المختصرة، ومثل هذا الفعل يوصل لأخطاء قاتلة، وعليه: فلا بد من تعويد النفس في مثل هذه الأبواب على أهمية التحليل الجيد، الذي يساعد الناظر على وضع أصابعه في المكان المناسب، ومن خلال التحليل الجيد تخرج رؤية حول الأشخاص والأفكار أكثر توازنا وأقوى تماسكا وأعدل حكما.
الشهرة وضريبتها:
أذكر وأنا أجمع المادة العلمية لبحث الماجستير تلك الصعوبة التي قابلتها حول مناسبة إضافة الجابري ضمن تلك المادة، وأحد الأسباب المطروحة من قبل من استشرتهم: أن الجابري غير معروف، ولا أحد يتحدث عنه، مع أنه قد صدر الجزء الأول والثاني من مشروعه النقدي، ولكن بعد فترة قصيرة تفاجئت بما حظي به الجابري من اهتمام من قبل الإعلام الثقافي في بيئتنا الثقافية.
برز فجأة، ويمكن المشاركة في تحليل قصة هذا البروز:
لقد وقع فتور للنشاط الفكري بعد أزمة الحداثة، فموضة الحداثة أدخلت مجمل النشاط الفكري في حقل من الألغاز، فكثر منهم الشعر الغامض، وترجموا مجموعة من الكتب اللسانية والسيميائية المعقدة، أو تم التأليف فيها.
ومرحلة الحداثة العابرة جاءت عقب مراحل فكرية مشهورة، مثل جيل التغريب الأول، من أمثال "طه حسين" وأقرانه، ثم أعقبهم الجيل الماركسي، ثم دخل الفكر في سراديب الألغاز الحداثية، فوقع الفكر في أزمة جمهور، وبقي الفكر محصورا بين أفراد، يزعمون أن المشكلة ليست مشكلتهم وإنما مشكلة القارئ الذي لا يفهمهم.
خرجت موجة فكرية بعيدة عن الألغاز، حسن حنفي من مصر، محمد الجابري من المغرب، علي حرب من لبنان، وهكذا، وقد حظي الجابري بسبب روابطه الحركية بدعاية أفضل، وقامت مراكز متخصصة بطباعة كتبه ونشرها مما أسهم في رفع حظوظه.
وتميزت المجموعة الجديدة بهجرها المنهجيات الأحادية، وتوليف تركيبة منهجية من مشارب مختلفة، وبأدوات جديدة: أدوات فلسفية وأخرى لسانية وثالثة من ميادين العلوم الاجتماعية وهكذا، مع تطبيقها على التراث الإسلامي.
وقد انتشرت كتب الجابري وحظيت بمتابعة وتعليق ونشر، وأخذت ببعض الطاقات الشابة، وانبهر بها بعضهم، وبخاصة لمن لم يكن له اطلاع على الميدان الفكري والفلسفي والعلوم الاجتماعية المعاصرة والمناهج اللسانية والأدبية.
ومما يميّز الجابري قدرته في تبسيط تلك الأدوات المنهجية، وابتعاده عن الغامض منها أو الصعب، مقارنة بما يفعله "أركون" وبخاصة المنهجيات اللسانية، وهذه السهولة وسّعت دائرة القراء مع مجموعة ذات تعليم جامعي ومحبة للثقافة ولكنها لا تملك الأدوات التي تمكنها من الدخول في مجالات الفكر الفلسفي المعقد، فكان الجابري مرحلة وسط كما يقال بين السهل والصعب.
ولكن هذا الاشتهار لم يطل أمده، إذ تسببت بعض المقولات الجابرية في تنشيط الخصوم، وبخاصة تلك التي فرق فيها بين العقلية المشرقية والعقلية المغربية، فقد فتحت عليه النار، وجعلت مشروعه تحت المجهر، وبخاصة من المشارقة المتضررين من مقولته، فخرجت كتابات تنقب في الثغرات الموجودة في البناء الجابري، وقد تكاثرت حتى جاء طرابيشي فجمعها ورتبها وصاغها صياغة فكرية موجعة لمشروع الجابري.
وقد فقد مشروع الجابري الكثير من بريقه، كما أن مسائل أخلاقية ظهرت في الطريق هبطت بمستوى الفكر العربي المتغرب المدعي للأمانة والمصداقية، وقد تفنن طرابيشي في إبرازها.
ومع أن انتقادات طرابيشي بدأت متجزئة إلا أنها مع الأيام أخذت معالم جديدة وبخاصة مع خروج المجلد الثاني والثالث، من مشروعه: نقد نقد العقل العربي، فقد ارتقت قليلا في نهاياتها، ومع ذلك فإن الطريقة الطرابيشية طريقة عليها مآخذ كثيرة، وفيها مزاعم المشابهة التي قد لا تصمد أمام التحليل الدقيق.
أما الدراسة المميزة التي عصفت بالمشروع الجابري وبخاصة في المستوى النخبوي فهو كتاب الفيلسوف المغربي "طه عبدالرحمن"، "تجديد المنهج في تقويم التراث"، ويبقى الفضل للجابري أنه كان السبب في خروج كتاب "طه"، ولا شك بأن الكتاب الأخير يظهر حجم المآخذ الفكرية على مشروع الجابري وأمثاله من نقاد التراث.
المراحل الخمس:
يمكن أن نضع خمس مراحل للحياة الفكرية لهذا المفكر البارز، وهذه المراحل قد تفيد في استيعاب الأفكار التي قدمها الجابري، ومن ثمّ وضع المواقف المناسبة.
1-الأولى، مرحلة الشباب، وهذه المرحلة لم يظهر فيها الجابري المفكر وإنما الناشط، فقد قضى زهرة شبابه داخل الاتجاه الاشتراكي، وبخاصة في نشاطه التعليمي والصحفي، غلب عليه العمل على حساب النظر، وقد تكونت له خبرة جيدة بالنشاط السياسي، وربما كانت هي الدافع في إصراره على أهمية الموقف الأيدلوجي للمفكر.
2-المرحلةالثانية متركزة في جانب التعليم، في الثانويات أو في بعض المعاهد العليا والكليات، ويغلب على نشاطه هنا أنه من النشاط المدرسي، فالكتب هي كتب دراسية سواء تلك التي لطلاب الثانوية أو التي لما فوقهم، وأشهرها مشاركته في كتاب الفلسفة لطلاب الثانوي، وكتابه "مدخل إلى فلسفة العلوم: العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي" المخصص للجامعيين، وقد تميزت بجمال الأسلوب والعرض المبسط للأفكار المعقدة.
3-المرحلةالثالثة كانت بعد الدكتوراه والتي لم يحصل عليها من جامعات الغرب مقارنة بأقرانه وبمن قبله من أساتذة الفلسفة، الذين حصلوا على ما لم يحصل عليه من الاحتكاك بالثقافة الغربية في مراكزها، وقد يأخذها عليه بعض منافسيه، وهي نقطة غير جوهرية بالنسبة لي.
وهنا يمكن القول ببداية مرحلة جديدة في حياته، تبلورت لاحقا في مشروعه الفكري "النقدي" وهو: نقد العقل العربي، كانت البداية بكتابه "نحن والتراث" وهو عبارة عن بحوث ومحاضرات جمعها في كتاب، ثم جاء أهم كتبه: تكوين الفكر العربي، ثم بنية العقل العربي، ثم نقد العقل السياسي.
ومع أنه بعد زمن قد ألحق بها كتابه نقد العقل الأخلاقي، إلا أنه يفقد الصنعة الفكرية المميزة للأجزاء الثلاثة، ولهذا فأنا أشعر أن هذا الكتاب يناسب أن يكون ضمن المرحلة التالية.
4-المرحلةالرابعة: مرحلة شرح وتفصيل دون جديد، بما في ذلك نقد العقل الأخلاقي، وكتاب "نحن والحداثة" عودة لتجميع المحاضرات والبحوث في كتاب، فلا نجد في هذه المرحلة كتابا على غرار الثلاثة المشهورة.
وهذه الظاهرة الفكرية مشهورة في بيئتنا الثقافية، وعلى سبيل المثال نجد مفكرا آخر، مثل: زكي نجيب محمود صاحب "الوضعية المنطقة"، وبعد حصوله على الدكتوراه يخرج ثلاثة كتب فيها الصنعة الفلسفية، وهي: خرافة الميتافيزيقيا، نحو فلسفة علمية، المنطق الوضعي، ثم توقف عن الكتابة البحثية، وباستثناء كتابه "المعقول واللامعقول" فكلها عبارة عن مقالات ومحاضرات يجمعها في كتاب، برابط متكلف، بما فيها الكتاب المشهور: تجديد الفكر العربي.
بالنسبة للجابري فهو في هذه المرحلة قد تفرغ للمحاضرات والمؤتمرات، وأسس مع آخرين مجلة "فكر ونقد"، فضلا عن كتاباته الرمضانية في بعض الصحف لتتحول فيما بعد لكتيبات.
وهي جهود فكرية شارحة لآرائه، ويغلب عليها التميز في تحليل الموضوعات وطرحها مثل نقاشاته للعولمة وأبعادها، ويقع الغلط فيها عندما يلامس قضايا ذات بعد ديني.
5-المرحلةالخامسة: وهي مرحلة الهدوء وضعف النشاط، والبحث في أجوبة لأسئلة النهايات التي تفرضها المرحلة العمرية، ويمكن تسميتها: العصرانية الفلسفية، فظهرت كتابات ذات بعد إسلامي ولكن بمنهجية عصرانية، ويظهر فيها أنها كانت كتابات مستعجلة، ولذا تكون الملاحظات عليها كثيرة مقارنة بالعصرانيين المتمرسين، وذلك أنهم يملكون أدوات منهجية أصولية وشرعية بخلافه الذي يملك أدوات فلسفية وفكرية لا تتناسب مع ميدان النشاط.
فلو أردنا أن نقارن كتابات الجابري بأحد الإسلاميين العصرانيين مثل الشيخ حسن الترابي لوجدنا الفارق الكبير بينهما، من جهة تمكّن الترابي من الأدوات الشرعية ومهاراته في التدليس على المتلقي واطراد أقواله وفق منهجيته بخلاف الجابري الذي تتصدع تأويلاته بسبب عدم استقامتها على منهج واحد. وقد يكون من أسباب ضعف تماسكها أنها تعتمد على الخبرة والذاكرة بدل البحث والتقصي والتنقيب.
والخلاصة، أن هناك ثلاث مراحل ظهر فيها النشاط الفكري، مرحلة ما بعد الدكتوراه، وهي الأبرز، ومرحلة ما بعد نقد العقل السياسي، وهي تكرار وتبسيط لمرحلة النقد، والأخيرة وهي محاولته دخول ميدان جديد، يضيفه للميدان السابق، ولكن في صورة مقالات أو كتابات سهلة ومبسطة ذات بعد إسلامي.
الحقيقة أنني لم اقرأ كتابه الأخير حول القرآن، فقد اكتفيت وقت نزوله بتصفحه سريعا، وقد وجدته مكتوبا على نسق المرحلتين الأخيرتين، كتابة من يثق في خبرته وذاكرته، وكتابة من يستصعب العودة للكتب والمكتبات والكتابة البحثية المعمقة، وطبيعة المرحلة العمرية تفسر ذلك.
إذاً، فالجانب المهم هو مرحلة كتبه النقدية الثلاثة، أما المرحلة الأخيرة فلا أظنها تغري أحدا من المثقفين، ومن تخوف من شطحاته العصرانية فهي من وجهة نظري أخف بكثير مما نجده عند قيادات إسلامية عصرانية، من رموز الفكر الإسلامي والفتيا الإسلامية وفق المنهجية العصرانية، بل إنني أتوقع أن الجابري قد استفاد منهم وإن لم يصرح بذلك.
وهذه المراحل المختلفة يمكن أن نخرج منها بأمرين مهمين:
1-الجانب الشرعي، ويقصد به ما ذكره من مسائل حول الإسلام، فهذه المسائل يطرحها بشيء من الحذر، ويجعلها من وجهات النظر، ولا يطرحها بجزم، واتخذ فيها طريقة تأويلية صريحة، وابتعد عن المهاترات والخصومة، واكتفى بالطرح الهادئ.
وهي لا تختلف عن الطرح العصراني التأويلي سوى أنهم أفضل منه في استيعاب الأدوات المنهجية الإسلامية، وهو ينسب منهجيته لأستاذه التاريخي: ابن رشد.
وهذه المسائل معروفة عند أهل الشريعة ، وتحتاج -بعيدا عن صاحبها- المناقشة العلمية الجيدة.
2-الجانب الفكري والفلسفي، ويقصد به ما أتى من ميدان الفلسفة والفكر والعلوم الإنسانية والاجتماعية.
ويمكن القول هنا بأن جزءا كبيرا يعدّ من الأمور المقبولة، وله دور مميز في تبسيطها وتقريبها من الثقافة العربية، وقد أسهم في تحريك مسار الفكر المعاصر إسهاما غير مجهول.
وهذا الجانب منه الجيد، وفيه سلبيات، ولكن تلك السلبيات قد عولجت كثيرا من قبل عدد من النقاد والمفكرين.

ويمكن هنا التوقف الموجز مع مصطلحين في المرحلتين المهمتين، الثالثة والخامسة: النقدية والعصرانية
أولا، ففي النقدية، يقدم مشروعه أنه نقد للعقل العربي، ولنا أن نتسائل: من ذاك القادر على نقد العقل العربي!!! وهي النموذج البارز الذي يطلقه الجابري دون تحفظ؛ لأننا نجده في بعض كتبه يتحفظ من المبالغة فيقول مثلا: وجهة نظر...، فهو لا يجازف، أما هنا فالأمر مختلف. ومثل ذلك من يقول عن مشروعه، أنه نقد العقل الإسلامي، أو من يقول بإعادة صناعة التراث وفق متطلبات الحداثة في مشروع ثالث بعنوان: التراث والحداثة.
فمن يقدم نفسه بأنه ناقد العقل العربي، قد ظهرت دراسات حوله تبين ثغرات حقيقية تكشف تهافت المشروع، وعند البعض ظهرت ثغرات أخلاقية تهبط بمستوى الناقد، فلا تجعله مؤهلا لنقد موضوع من موضوعات العقل العربي، فكيف بكل العقل العربي، وأسوأ منه من يزعم نقده العقل الإسلامي، أو إعادة النظر في الإسلام مع أنه لم يدرس الإسلام ولم يعرفه ربما إلا وقت انطلاقة مشروعه الفكري.
هذه أوهام فكرية حصلت مع مجموعة امتلكت أدوات فكرية كبيرة، فظنت أنها امتلكت زمام التحكم بكل المعرفة، ويذكر بعض العوام قصة طريفة لرجل كان يملك ثورين قويين يقدمان له خدمات عظيمة، ومرّ به شخص معه كبريت، يقدح به فتشتعل النار في طرفه، فانبهر صاحب الثورين بهذا الكبريت، وعرض عليه أن يشتريه بالثورين، ففرح حامل الكبريت وأخذ الثورين، وعاد الرجل حامل الكبريت يتوعد قريته أن يحرق كل جبالها.
ثانيا، أما القسم الأخير من مشروعاته، العصراني، فقد اشتهر الجابري ومن سار مساره بالتركيز على ترتيب السور وأسباب النزول وتاريخه والناسخ والمنسوخ، وذلك أنها مسألة سهلة مقارنة مثلا بمباحث دراسة الأسانيد ومعرفة العلل، أو فقه الأدلة وتفسيرها وبخاصة في صورة متكاملة يستوعب من خلالها المفسر كل النصوص، فيعرف علاقة الآية بغيرها من الآيات، حتى وإن اختلفت أوقات نزولها، وعلاقتها بالأحاديث، وعلاقتها بفقه اللغة، وليس لغة النحاة فقط وإنما لغة العلم أيضا، وغيرها من المنهجيات المعروفة.
وقد يكون سبب التركيز على هذه الأبواب هو توافقها مع المنهجية التاريخية التي برعوا فيها بسبب طول الاتصال بها، فأمكنهم توظيفها في دراسة نصوص الوحي من هذا الوجه.
وهذا الفقر المنهجي يوصل لنتائج خطيرة، وإن كانت سلاسة أسلوب الكاتب توهم بعض المتلقين بقوتها، أخطرها: النتائج الجزئية التي لا تتفق مع الوضع الكلي للتراث والعقل والعربي.
الجابريون وعبء التلمذة:
من المؤكد أن مفكرا مشهورا سيكون له جمهور من القراء والمتابعين، وقد يكون له في فترة زمنية فئة من المعجبين وربما المنبهرين، وبخاصة مع مفكر حظيت كتبه برعاية كبيرة من قبل دار نشر مشهورة.
أكتفي بالحديث عن فئة لم تحسن التعامل مع هذا المفكر، وبالأصح استغلت شهرته في طرح أفكارها إن لم تكن أهوائها.
1-أوهام النشاط النقدي:
أحد المفاهيم التي طاروا بها مفهوم "النقد"، وهو أداة خطيرة عندما تكون في يد الجاهل بها، وتكون أخطر عندما تكون مع صاحب هوى.
فما بالك إذا كان صاحب مشروع النقد ذاته يعيش وهما كبيرا، فمن ذاك الذي يمكنه في زمننا هذا القيام بنقد كل العقل العربي!!! فحتى المشاريع النقدية الغربية تكون في موضوعات محددة أو قريبة من المفكر، دون أن نجد الزعم بنقد عقل ضخم، مثل العقل اليوناني والروماني، مع أنه عقل من تكوين بشري ولا يعتمد على نص مقدس.
بل قد وجد من بعضهم من ينتقد عالما كبيرا كابن تيمية مقدما عليه الجابري ومستفيدا منه كما يقول، مع أن مقارنة بسيطة بين ما يملكه ابن تيمية عن التراث وبين ما يملكه الجابري تكشف ضحالة ما عند كل المفكرين المعاصرين حول التراث مقارنة بما عند ابن تيمية، فضلا عما عند هذا الإمام من منهجية اعترف بها خصومه قبل أصحابه. وبحق فإن النقد الضخم والحقيقي الذي توجه للتراث هو النقد الذي على شاكلة ما قام به ابن تيمية وعنده مث ما عند ذاك الإمام أو قريبا منه، وهو الذي يجب الاستفادة منه، ولا يمنع هذا من أن نستفيد من المناهج الحديثة، وإضافة ما يناسب منها لمناهجنا.
لا شك أن المنصف يعرف أن أي مقارنة تهدف لانتقاص ابن تيمية مقارنة بهؤلاء المفكرين هي من السخافات الفكرية، ولا أظن الجابري في داخله أثناء حياته يصدق بها.
لقد استهلك هؤلاء كلمة النقد حتى أصبحت سمجة، نقدوا التراث، ونقدوا العلماء، ونقدوا الدعاة، ونقدوا الفقه الذي لا يعجبهم، والعقائد التي لا يحبونها، وتفسيرات النصوص التي لا تروق لهم، ومظاهر التدين في المجتمع، حملة واسعة من النقد، ولم يسلم منهم ألا المؤسس لهذا النقد، وذواتهم.
قد يقال بالفرق الكبير بين النقد الجابري القائم على أدوات فكرية معتبرة وبين هؤلاء المخاصمين لتراثهم وتدين المجتمع، وهذا صحيح، ولكن المقصود بيان الاستثمار الأيدلوجي للمفاهيم حتى وإن وضعت في غير موضعها أو طبقت بطرق فوضوية.
2-التقية الفكرية والتبجح الفكري:
بالرغم من مشاركة الجابري في قسم فكري يساري (اشتراكي)، ومعروف أن هذا الاتجاه بالجملة يعد برزخا لإخراج الوقاحة الفكرية تجاه الدين، وأغلب من مرّو بذاك البرزخ خرجوا بأوسخ الألفاظ وأشد الصراخ في نقد الدين.
ولكن الجابري لم يقع في ذلك، بل كان محافظا على الألفاظ المعتدلة مقارنة بغيره، وموازنة مع البيئة التي كان فيها....
أيضا فقد حافظ على ألفاظ معتدلة مع الاتجاه الإسلامي وبخاصة السلفي الذي عاداه أغلب مفكري العلمنة، بل تجرأ بأقوال لم يقلها غيره، ويعدها المتطرفون في العلمنة من زلات الجابري، فلم ينتقد بصراحة ابن تيمية وتجاوز الحديث عنه معتذرا بأعذار مختلفة، ورأى في دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب انعطافا تصحيحيا مهما للعالم العربي، ومثل انتشار السلفية في المغرب منافسا قويا للصوفية ومنهجها اللاعقلاني، ومن حسناتها أنها أخذت بيده نحو العقلانية، ولا يعني أنه يقبل بها، أو أنه لم يتعرض لها بصور غير صريحة، ولكن مع أنه يمكنه القول فيها بأشياء سيئة دون أن يلام، بل وقع عليه اللوم من عكس ذلك.
لا شك أن تماسكه الأخلاقي هذا مع خصمه الأساسي هو مما يحسب له، وياليت أتباع الجابري المشهورين في كتابات الرأي والمنتديات والمدونات وأمثالها، يستفيدون من هذا الخلق حقا إن كانوا من أهل الفكر والثقافة.
3- رحم الله امرأ عرف قدر نفسه:
رحل الجابري بعد نشاط ضخم، وكان له ما له وعليه ما عليه، قدم جوانب فكرية سيئة، ولكنها من وجهة نظري أخف ما نجده في الفكر المتغرب، ولا تمثل خطرا حقيقيا، وبخاصة بعد ظهور مشاريع نقدية حول كتاباته كشفت أخطائها الشرعية ومشكلاتها الفكرية، وقدم جوانب فكرية جيدة، وهي متنوعة، ويمكن الاستفادة منها، وذلك بعد تعديلات مهمة لها، وبخاصة في المجال الفكري المحض، فمن المهم الاعتدال في الأحكام، فالمسلم يشعر بخطورة القول، فلا يمدح ضالا أو ضلالة يؤاخذه الله عليها، ولا يتجرأ بقول دون علم، وقد وجدت في الساحة الثقافية أقوالا مرسلة تعود مشكلتها إلى عدم التفريق بين حيز العلم وحيز الفكر، وإلى عدم التفريق بين المفكرين والتيارات الفكرية، وإلى عدم التفريق بين القناعات والمقترحات، وإلى عدم التفريق بين المفكر والمستفيدون من فكره.
ومشاريع المفكرين المعاصرين المشهورة تحتاج لدراسات نقدية مع إبراز المواقف العلمية المحققة، وليست المسألة خوفا منهم ومن مشاريعهم، بل خوفا عليهم، فالميت من المسلمين قد يفرح –بعد موته- بمن ينقد أفكاره الباطلة أو الخاطئة ويبين خطرها وخطأها؛ حتى لا يضلّ بها أحد، فإنه كما أن من الصدقة الجارية العلم المنتفع به، فإنه في المقابل هناك أفكار ذات أوزار، نسأل الله السلامة منها، ولا يخرج عن ذلك طائفة من المفكرين زلّت أقلامهم في أبواب دينية عظيمة.
وأسوأ ما نجده اليوم هم أولئك الذين يتطاولون على العقل الإسلامي أو الديني أو العربي كما يقولون، أو على علوم الأمة، أو على علماء الإسلام، كل ذلك: بحجة النقد، وحرية الفكر، وأهمية الرأي، وحاجة الأمة للتجديد والاجتهاد والإصلاح والنهضة. فهذا التطاول يختلف عن النقد المفيد، فالتطاول يكون من أصحاب الأهواء الذين لا يُعرَفون بعلم أو فكر، وإنما يتناقلون أفكارا مكررة يمكنك من خلال البحث في الشبكة بنص أو بمقطع أن تكتشف كم يتكرر ذاك النص أو المقطع بأسماء مختلفة.
قد ينقد "الجابري" العقل العربي، و"أركون" العقل الإسلامي، ويسعى "حنفي" لإعادة تركيب الإسلام ليتوافق مع الحداثة، وهم وإن فعلوا ذلك فعندهم عدّة فكرية وإن أساؤا استخدامها، وميدان نشاطهم –وهو التراث الإسلامي- لم يتعرفوا عليه إلا بعد ذهاب الحيوية في طلب المعرفة، فهيهات هيهات أن ينجحوا في مشاريعهم وهم مفلسون من استيعاب حقيقي للتراث، ولكن ما القول في الذين لا يملكون علما شرعيا ولا عدة فكرية إلا أن نقول: رحم الله امرأ عرف قدر نفسه.

http://taseel.com/display/pub/defaul...=787&ct=6&ax=5