[SIZE="5"]وقفات مع الأخ عدنان البخاري –سدده الله-:
أولاً: قولك : «فهذه المرَّة احتجُّوا أيضًا بأنَّهم إخوانهم كانوا معهم، يعرفونهم بصلاةٍ وصيام وحجٍّ وجِهادٍ؛ لأنَّه قال: ((ثم يعودون فيتكلَّمُون))، يتكلَّمون بماذا؟! لم يبيِّن!» إلخ.
قلت: إذا لم يبيّن! فما دليلك مِن الوحيين –والمسألة غيبية- على قولك: «يتكلَّمُون بما تقدَّم، وهو ((أنَّهم كانوا يصلُّون ويصومون ويحجُّون ويجاهدون)) »!
أليس مِن السلامة في الديِّن والعقيدة الوقوف على ظاهر النّص وعدم التطرق للنّص باحتمالات مَبْنية على: (يحتمل) ، و (قد) ، و (يمكن)، و (لعل)!!!
قال الإمام الألباني: «وفي الحديث رد على استنباط ابن أبي جمرة من قوله –صلى الله عليه وسلم- فيه: «لم تغش الوجه»، ونحو الحديث الآتي بعده: «إلا دارات الوجوه»: أن من كان مسلماً ولكنه كان لا يصلي لا يخرج؛ إذ لا علامة له! ولذلك تعقبه الحافظ بقوله (11/457):
«لكن يحمل على أنه يخرج في القبضة؛ لعموم قوله: «لم يعملوا خيراً قط»، وهو مذكور في حديث أبي سعيد الآتي في (التوحيد)». يعني هذا.
وقد فات الحافظ رحمه الله أن في الحديث نفسِه تعقباً على ابن أبي جمرة من وجه آخر؛ وهو أن المؤمنين كما شفَّعهم الله في إخوانهم المصلين والصائمين وغيرهم في المرة الأولى، فأخرجوهم من النار بالعلامة، فلما شُفِّعوا في المرات الأخرى، وأخرجوا بشراً كثيراً؛ لم يكن فيهم مصلون بداهة، وإنما فيهم من الخير كل حسب إيمانه. وهذا ظاهر جدًّا لا يخفى على أحد إن شاء الله تعالى». [«السلسلة الصحيحة» (7/131-132)].
ثانياً: قولك: «فإذن.. انتيهنا من هذه المرار الأربعة، وبقيت شفاعة ربِّ العالمين»!
قلت: لماذا أخفيتَ المرة خامسة؟! ونصها -بعد المرة الرابعة-: «فيقولون: ربنا! قد أخرجنا مَن أمرتنا، فلم يبق في النار أحد فيه خير. قال: ثم يقول الله : شفعت الملائكة وشفع الأنبياء وشفع المؤمنون وبقي أرحم الراحمين..... »إلخ [انظر «الصحيحة» (3054) ]
ثالثاً: قولك: «فما الفارق بينهم وبين غيرهم من أهل النَّار كالكفرة الذين لا آثار سجود لهم؟!».
قلت: وهل كل مَن دخل النار مِن المسلمين يجب أن يكون مِن المصلين؟!!
سبحان الله!
رابعاً: قولك: «وإليك بيان هذا بجلاء من رواية البخاري».
قلت: رواية البخاري مجملة، والأصل جمع الروايات، وإلا كانت النتيجة قاصرة! كيف وأنت القائل عن أهل السنة والجماعة أنهم: «بنَوا مذهبهم على مجموع النُّصوص وليس على أفرادها».
خامساً: قولك: «يُردُّ هذا على ما تقدَّم بيانه في إخراج الملائكة؛ إذ يُقال يحتمل أنَّ الملائكة إنَّما يخرجون...»، وقولك: « وبأنَّ هذا ممَّن لم يدخل فيمن قبضهم الرحمن من النَّار قبضةً أوقبضتين، وهم الذين -على احتمالٍ- عرفتهم الملائكة بآثار السُّجود».
قلت: دعكَ مِن (يحتمل) ، و(لا يحتمل) وَ... ، وَ....
سادساً: قولك: «.... فيردُّ المتشابه إلى المحكم. والعقائد والقواعد لا تنبى على شُذَّاذ النُّصوص أو مجملها، والإعراض عن مبيِّنها، فتأمَّل».
قلت: جاء في كتاب «برهان البيان» (ص334): « أما قول الشيخ (ص159) عن حديث أبي سعيد الخدري «لم يعملوا خيراً قط» : «نفهم من هذا أنه عام، وأن أدلة كفر ترك الصلاة خاصة...».
فنقول:فهذا قول قال به قبل فضيلته مَنْ رأى كفر تارك الصلاة، ولكن ألا يقال: إن قول الشيخ قد ينعكس؟! بمعنى أن أحاديث كفر تارك الصلاة عامة خصصتها أحاديث الشفاعة وغيرها؛ وبخاصة أن أحاديث الشفاعة هي تطبيق ـ عملي ٌّـ في الآخرة لنصوص الوعيد المقولَة في الدنيا، كما فعل كلّ من سبق ذكرهم من الأئمة الذين لم يكفروا بترك الصلاة...».
فتأمل.
وختاماً:
« ومن العجيب أنْ يقع الإصرار على التكفير مع وجود الأحاديث الكثيرة المخالفة لذلك، نكتفي بقوله –صلى الله عليه وسلم-:
«إنّ للإسلام صُوىً ومناراً كمنار الطريق؛ منها أنْ تؤمن بالله ولا تشرك به شيئاً، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأنْ تُسلّم على القوم إذا مررت بهم، فمَن ترك من ذلك شيئاً؛ فقد ترك سهماً من الإسلام، ومن تركهن كلهن، فقد ولّى الإسلام ظهره».
ثانياً: قول بعض علماء أهل السنة: إنّ الأقوام الذي يخرجون من النار لم يعملوا خيراً قط، لا يتصادم مع نقل ولا عقل، فربنا -تعالى - الجواد الكريم ينجي أولئك الذين لم يعملوا خيراً قط، ويثيبهم على ما في قلوبهم؛ مما يزن مثقال الذرة أو البُرّة، أو أدنى من ذلك.
وتصوُّرُ هذا المقدارِ مع عدم تحريك الجوارح - كما ثبت في النصوص الصحيحة - أمرٌ لا غرابة فيه، وقد أعجبنا في تقريب تصوُّر هذه الحالة وتصويرها - في كتاب «ظاهرة الإرجاء» (2/529) -وهو من هو! - حيث قال:
«ولهذا تحصل حالة شاذة خفية؛ وهي أن يضعف إيمان القلب ضعفاً لا يبقى معه قدرة على تحريك الجوارح لعمل خير، مثله مثل المريض الفاقد للحركة والإحساس، إلا أن في قلبه نبضاً لا يستطيع الأطباء معه الحكم بوفاته - مع أنه ميؤوس من شفائهِ؛ فهو ظاهراً في حكم الميت، وباطناً لديه القدر الضئيل من الحياة الذي لا حركة معه، وهذه هي حالة الجهنميين الذين يخرجهم الله من النار، مع أنهم لم يعملوا خيراً قط...».
ولو تأمل هذا الرجل ما خطّته يداه - ها هنا - لكان ذلك كافياً لهدم كتابه كله، فهل يعقل ذلك المقلدون له، الفرحون لكتابه؟
ولا يظنَنَّ عاقل أنّ قولنا بتحريم الخلود في النار لتارك الأعمال شهادة له بأنه صاحب إيمان حقيقي أوتصديق قوي وكامل، ألم يعلموا أنّ التصديق والإيمان بالقلب قد يكون ضعيفاً ذاوياً كما ذكر ابن رجب في «شرح كتاب الإيمان» (134):
«فجعل قتادة الإسلام الكلمة، وهي أصل الدين، والإيمان ما قام بالقلوب من تحقيق التصديق بالغيب، فهؤلاء القوم لم يحققوا الإيمان في قلوبهم، وإنّما دخل في قلوبهم تصديق ضعيف بحيث صحّ به إسلامهم، ويدل عليه قوله تعالى: {وإن تطيعوا الله ورسوله لا يَلِتكم من أعمالكم شيئاً} [الحجرات : 14]».
وكما قال الحَليميّ - رحمه الله -:
ووجه هذا أنْ يكون في قلب واحد توحيد، ليس معه خوف غالب على القلب فيردع، ولا رجاء حاضر له فيطمع، بل يكون صاحبه ساهياً قد أذهلته الدنيا عن الآخرة.... فإذا كان ذلك خفّ وزنه وإذا تتابعت شهاداته ثقل وزنه.
ولـه وجه آخر وهو أنْ يكون إيمان واحد في أدنى مراتب اليقين حتى إنْ تشكك تشكك».
وقد يستشكل مستشكلٌ دخولَ الجنّة بدون العمل؟
فنقول: إنّ دخول الجنّة لمن لم يعمل خيّراً قط، هو من باب الإحسان من الخالق، بخلاف دخول النّار الذي لا بدّ فيه من العصيان من المخلوق.
وشبيه هذا ما قاله شيخ الإسلام - رحمه الله - في «الفتاوى» (16/47):
«وأمّا الجنّة فإنّ الله ينشئ لها خلقاً فيدخلهم الجنّة، فبيّن أنّ الجنّة لا يضيّقها -سبحانه -، بل ينشئ لها خلقاً فيدخلهم الجنّة، لأنّ الله يدخل الجنّة من لم يعمل خيراً؛ لأنّ ذلك من باب الإحسان، وأمّا العذاب بالنّار فلا يكون إلا لمن عصى، فلا يعذب أحداً بغير ذنب. والله أعلم».
فالقول - إذاً - بالخروج من النّار لتارك العمل - إحساناً - من المنّان، ليس بكذب، ولا بهتان». [«برهان البيان» (ص47-49)][/SIZE]