لم يقل علماء الشريعة فحسب: إنَّ الغناء رُقْية الزِّنا، بل قاله أيضًا الحُكَّام والشعراء، فقد جاء عن يزيد بن الوليد بن عبدالملك أنه قال: يا بني أميَّة، إياكم والغناء، فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشَّهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السُّكْر، فإن كنتم لا بدَّ فاعلين، فجنِّبوه النِّساء، فإن الغناء داعية الزِّنا[1].

وقال شاعر الهجاء (الحُطَيئة): جَنِّبوا المُغَنِّي مجلسكم، ولا تُسْمعوني أغاني شبيبتكم، فإن الغناء رُقية الزنا[2].

قال ابن القيِّم - عقب حكاية هذه الأقوال -: "فإذا كان هذا الشاعر المفتوق اللِّسان، الذي هابَتِ العرب هجاءه - خاف عاقبةَ الغِناء، فما الظَّنُّ بغيره؟ ولا ريب أنَّ كل غَيُور يجنِّب أهله سماع الغناء، كما يجنبهن أسباب الرِّيَبِ.

ومن الأمر المعلوم عند القوم أنَّ المرأة إذا استعصت على الرَّجل، اجتهد أن يُسمعها صوت الغناء، فحينئذٍ تُعطي اللِّيان.

وهذا؛ لأنَّ المرأة سريعة الانفعال للأصوات جدًّا، فإذا كان الصوتُ بالغناء، صار انفعالُها من وجهين: من جهة الصوت، ومن جهة معناه...

أما إذا اجتمع إلى هذه الرُّقية: الدُّف، والشبَّابة، والرقص بالتخنُّث والتكسُّر، فلو حَبِلَت المرأة من غناء، لَحَبِلَت من هذا الغناء"[3].

بل إن الغناء بَرِيد الكُفْر وذريعةٌ إليه، وبالجملة فإنَّ كلَّ المعاصي بريد الكفر، إلاَّ أن الغناء باعثٌ على ارتكاب السيِّئات، كما قال ابن رجب: "والغناء المشتمل على وصف ما جُبلت النفوس على حُبِّه، والشغف به من الصور الجميلة - يُثير ما كَمَنَ في النفوس من تلك المحَبَّة، ويُشوِّق إليها، ويُحرِّك الطَّبع ويزعجه، ويخرجه عن الاعتدال، ويَؤُزُّه إلى المعاصي أزًّا؛ ولهذا قيل: إنه رقية الزِّنا، وقد افتتن بسماع الغناء خلْقٌ كثير، فأخرجهم استماعُه إلى العشق، وفتنوا في دينهم.."[4].

وأشنع من ذلك أن الغناء مُنبِت النفاق؛ ولهذا لم يأمر بسماع الأغاني والألحان إلاَّ مأبون في دينه من الزنادقة والمنافقين، كابن الرَّاوندي، والفارابي، وابن سينا[5].

فقد ورد عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: "الغناء يُنبت النفاق في القلب"[6].

قال ابن بطة معلقًا: "فهذا عبدالله بن مسعود - رحمه الله - يُعلِّمك أن استماع الغناء يُنبت النفاق، فما ظنُّك بارتكاب الفواحش والإصرار على الكبائر، والاستهانة بالموبقات التي تسخط الربَّ تعالى؟!"[7].

وبيَّن ابن القيم وجه إنباته للنِّفاق في القلب، فكان مما قاله: "اعلم أنَّ للغناء خواصَّ لها تأثير في صَبغ القلب بالنفاق، ونباته فيه كنبات الزَّرع بالماء، فمِن خواصِّه أنه يُلْهِي القلب ويصدُّه عن فهم القرآن وتدبُّره والعمل بما فيه، فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدًا؛ لما بينهما من التضادِّ، فإن القرآن ينهى عن اتِّباع الهوى، ويأمر بالعفَّة، ومُجانبة شهوات النُّفوس، والغناء يأمر بضدِّ ذلك كله.

والإيمان قول وعمل: قول بالحق، وعمل بالطاعة، وهذا ينبُت على الذِّكر، وتلاوة القرآن، والنفاق قول الباطل، وعمل الغيِّ[8]، وهذا ينبُت على الغناء.

وأيضًا فمن علامات النفاق: قلَّة ذكر الله، والكسل عند القيام إلى الصلاة، وقلَّ أن تجد مفتونًا بالغناء إلاَّ وهذا وَصْفه.

والنِّفاق مؤسَّس على الكذب، والغناء من أكذب الشعر، والغناء يُفْسِد القلب، وإذا فسد القلب، هاج فيه النِّفاق"[9].

والغناء يُحرِّك العواطف ويؤجِّجها، ويثير كوامن النُّفوس ومشاعرها، ويهيج الطباع البشرية والشهوات الجبِلِّية، لكن هذا التحريك والإزعاج بلا علم ولا فقه ولا برهان؛ ولذا فإنَّ النفوس الصغيرة كالصبيان وأشبهاهم يستهويهم الغناء والإنشاد[10].

كما أنَّ الطوائف التي يستحوذ عليها الجهل والسَّفسطة، فتفقد العلم والبرهان، ويغيب عنها الحجَّة والسلطان، وينطمث تفكيرها وتحريكها الأذهان، فإنَّها تستعيض عن ذلك بالإنشاد والغناء وتلحين القصائد وترنيمها، كما هو ظاهر عند الرافضة والصُّوفية الغُلاة، فَدِين القوم قائمٌ على تأجيج العواطف وإزعاجها، لكن دون علْمٍ ولا هُدى ولا كتاب منير.

فهذه القصائد المُلَحَّنة في الموالد والحسينيات تُحرِّك كوامن النفوس، وتثير ما فيها من الأهواء والشهوات والرعونات، كما تحقِّق تخديرًا للأتباع والمريدين (الهمج الرِّعَاع أتباع كلِّ ناعق)، فلا تسأل هذه الدَّهماء عن دليل أو اعتبار، ولا تعي نقلاً صحيحًا، ولا عقلاً صريحًا.

وقد تفاقمت هذه الرَّزية في السنوات الأخيرة، لا سيَّما بعد ظهور آراء وأهواء في تجويز سماع غناء المُجون، وما أُلْحِق بـ "الأناشيد الإسلامية" من تبديل ومسخ، حتى أفضتْ إلى مُحاكاة غناء المجون ولحونه حَذْو القُذَّةِ بالقُذَّة.

وأسوأ من ذلك أنَّ في تلك القصائد والأغاني ما يُصادم الشرع المُنَزَّل، ويناقض المعتقد الصحيح، لكن الاسترسال في التطريب، والولَع بالإنشاد والترنيم قد غيَّب العقول عن تلك المَحاذير، ومثال ذلك أنشودة (يا طيبة يا دوا العيَّان[11])، فقد تداولها أطفالُ المسلمين في المنازل والمدارس الدينيَّة، والقنوات الإسلامية، والألعاب والدُّمى! مع أنَّ هذه العبارة لا تنفكُّ عن غلو ظاهر في الأماكن والبقاع، فإنَّ المدينة النبوية - على ساكنها أفضل الصَّلاة والسلام - قد كان فيها اليهود والمنافقون وفي عهد النُّبوة، فلم يحصل لهم شفاء بمجرَّد السُّكنى والجوار؛ قال تعالى: ﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾ [التوبة: 101].

والذمُّ والمدح إنما يكونان للحالِّ والساكن دون المحَلِّ والمسكن، وإن كانت البقاع تتفاضل.

ولما كتب أبو الدَّرْداء - رضي الله عنه - إلى أخيه سَلْمان الفارسي - رضي الله عنه -: أنْ هَلُمَّ إلى الأرض المقدَّسة، فأجابه سلمان: إن الأرض لا تُقدِّس أحدًا، وإنما يقدِّس الإنسانَ عملُه[12].

ومن قبل ذلك أن الكثير من المتصوِّفة يردِّدون قصيدة "نظم السُّلوك" لابن الفارض، ولا يعرفون ما فيها من الزندقة والإلحاد، والحلول والاتحاد.[13]

بل إن العوامَّ - آنذاك - قد انخدعوا بنظم الشكوك والزندقة، كما حكاه ابن تيميَّة بقوله: "ولهذا تجد كثيرًا من عوامِّ أهل الدِّين والخير والعبادة ينشد قصيدة ابن الفارض، ويتواجد عليها ويعظِّمها، ظانًّا أنها من كلام أهل التوحيد والمعرفة، وهو لا يفهمها ولا يفهم مراد قائلها"[14].

وقد بعث إليَّ أحد الفضلاء أبيات أغنية رائجة في بلاد المغرب، وقد استفحل شرُّها، وتفاقم إدمانها عند العامة وأضرابهِم دون تحذير أو نكير، مع أنَّ في هذه الأغنية شركًا صريحًا، وكفرًا بواحًا كما في الكلمات التالية:
(عبدالقادر يا أبا علَم، ضاق الحال عليَّ، داوِ حالي يا أبا علم، سيدي، ارْأف بي يا سيدي، أبا مدين، وأنا في أرضك نتأمَّن، يا سيدي الهواري، سلطان غالي، واشفني عبدالله سطان الأعالي، داوِ حالي يا أبا علم، سيدي، ارأف بي...).

وإذا كان المشركون الأوائل يُخْلِصون في الشِّدة، ويُشْرِكون في الرَّخاء - كما جاء في غير موضع من القرآن - فإنَّ هؤلاء يشركون في السرَّاء والضَّراء، فهو يطلب الشِّفاء، ودفعَ البلاء، وحصول الأمن من عبدالقادر الجيلاني ونحوِه من الأموات العاجزين المرْبوبين!

وانظر إلى هذا الانتكاس وقلب الحقائق، فإن الأمن لا يتحقق إلا بتوحيد الله - تعالى - وعبادته وحده - عزَّ وجل - كما في قوله - تعالى -: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82].

والشِّرك لا يُخلِّف إلا اضطرابًا ورعبًا: ﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران: 151].

وقد سمَّى الله دعاء غيره شركًا وكفرًا في آيات كثيرة، كقوله - سبحانه -: ﴿ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾ [فاطر: 13 - 14].

يقول العلاَّمة حسين النعمي (ت 1187هـ): "ومن أمعن النَّظر في آيات الكتاب، وما قصَّ من مُحاورات الرُّسل مع أُمَمِهم، وجد أن أُسَّ الشأن، ومحَطَّ رحال القصد شيوعًا وكثرة، وانتشارًا وشهرة - هو دُعاء الله وحده، وإخلاص العبادة له"[15].

وقال ابن تيمية: "وأمَّا من يأتي إلى قبر نبي أو صالح، أو من يعتقد فيه أنه قبر نبي أو رجل صالح وليس كذلك، ويسأله حاجته مثل أن يسأله أن يُزيل مرضه، أو يقضي دَيْنه، أو ينتقم له من عدوِّه، أو يعافي نفسه وأهله ودوابَّه، ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله - عزَّ وجلَّ - فهذا شرك صريح، يجب أن يُستتاب صاحبه، فإن تاب، وإلاَّ قُتِل"[16].

وهكذا يتبيَّن للقارئ الكريم أنَّ الغناء ليس مجرَّد بريد للكُفْر فحَسْب، بل إنَّ في أبيات الغناء ما هو كفر وإلحاد، وشرك وتنديد، والله المستعان.

[1] انظر: "إغاثة اللَّهْفان"، لابن القيِّم، (1/369 - 370).
[2] المصدر السابق.
[3] "إغاثة اللهفان"، (1/370 - 371) باختصار.
[4] "نزهة الأسماع في مسألة السماع"، مجموع رسائل ابن رجب، (2/460 - 461).
[5] انظر: "الاستقامة" لابن تيمية، (1/238 - 240).
[6] أخرجه ابن بطة في "الإبانة الكبرى" الإيمان، (2/703).
[7] المصدر السابق: 2/704.
[8] المُثْبَت في المطبوع: "البَغْي"، ولعل الصواب ما أثبته، فإن الغيَّ ضدُّ الرُّشد، والرشد هو العمل بالحق، كما أنَّ الهُدى هو العلم بالحق.
[9] "إغاثة اللهفان"، (1/374 - 376)، باختصار.
[10] انظر: "الاستقامة" لابن تيمية، (1/277)، و"السماع" لابن القيم، ص 300، 301.
[11] العيَّان: المريض والعاجز.
[12] أخرجه: أبو نُعَيم في "الحِلْية، (1/205).
[13] انظر: "مجموعة الفتاوى"، لابن تيمية (2/366، 315، 297).
[14] "مجموع الفتاوى"، (2/379).
[15] "معارج الألباب"، ص 214.
[16] "مجموع الفتاوى"، (27/72).