بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فإن مما اشتهر من الأحاديث وانتشر: حديث: « اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين»، وقد عَدَّه غير واحدٍ من أهل العلم في الأحاديث المشهورة المنتشرة على الألسنة، وهو من أحاديث الرقاق التي تلين لها النفوس، فيتسارع تناقلها بين الناس.
وقد تكلم بعض أهل العلم في هذا الحديث، وصححه بعضٌ، ثم رأيت لـ(علي بن حسن الحلبي) رسالةً خصَّ فيها الحديثَ بالدراسة، وبدا لي فيها غير وجهٍ في النقد، فأحببتُ تحرير ذلك وبيانه.
والله المسؤول أن يوفق ويسدد ويعين.
أولاً: تخريج الحديث ودراسة أسانيده
جاء الحديث من حديث خمسة من الصحابة، فيما يلي تخريج رواياتهم ودراسة أسانيدها:
1- حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-:
# التخريج:
أخرجه الترمذي (2352) -ومن طريقه ابن الجوزي في الموضوعات (3/141، 142)- عن عبدالأعلى بن واصل، وأبو نعيم في الخامس مما انتقاه الوخشي من حديثه (66/مخطوط) من طريق جعفر بن محمد بن شاكر، وابن الحمامي في التاسع من الفوائد المنتقاة من حديثه (13/مجموع مصنفاته)، والبيهقي في الكبرى (7/12)، وشعب الإيمان (1380)، والخطيب في المتفق والمفترق (452)؛ من طريق أحمد بن حازم بن أبي غرزة الغفاري، والبيهقي في الشعب (10025) من طريق أحمد بن مهران، والذهبي في سير أعلام النبلاء (15/434)، وتذكرة الحفاظ (3/851)؛ من طريق أبي حاتم الرازي؛ خمستهم (عبدالأعلى بن واصل، وجعفر بن شاكر، وابن أبي غرزة، وأحمد بن مهران، وأبو حاتم) عن ثابت بن محمد الزاهد الكوفي، عن الحارث بن النعمان الليثي، عن أنس، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «اللهم أحيِني مسكينًا، وأمِتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة». فقالت عائشة: لِمَ يا رسول الله؟ قال: «إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفًا، يا عائشة؛ لا تُرَدِّي المسكين ولو بشِقِّ تمرة، يا عائشة؛ أحبِّي المساكين وقَرِّبيهم؛ فإن الله يُقرِّبك يوم القيامة»، لفظ عبدالأعلى بن واصل، وللباقين مثله.
# دراسة الإسناد:
قال الترمذي عقبه: «هذا حديثٌ غريب»([1]).
وقال الدارقطني: «تفرد به الحارث عنه»([2])، يعني: أنسًا -رضي الله عنه-.
وقال الحافظ أبو الفتح ابن أبي الفوارس: «هذا حديثٌ غريبٌ من حديث الحارث بن النعمان عن أنس»([3]).
وقال الذهبي: «تفرد به ثابت بن محمد الزاهد؛ شيخ البخاري»([4]).
فحَكَمَ الحفاظ بغرابة الحديث عن أنس؛ إذ يتفرد به: ثابت بن محمد، والحارث بن النعمان.
فأما ثابت بن محمد؛ فهو الكوفي الزاهد العابد الورع، قال فيه أبو حاتم: «صدوق»، وقال الحافظ مطيِّن: «ثقة»([5])، وقال الدارقطني: «ليس بالقوي، لا يضبط، وهو يخطئ في أحاديث كثيرة»([6])، وقال ابن عدي: «وثابت الزاهد هذا هو عندي ممن لا يتعمَّد الكذب، ولعله يخطئ...، وفي أحاديثه يشتبه عليه، فيرويه حسب ما يستحسنه والزهاد والصالحون؛ كثيرًا ما يشتبه عليهم، فيروونها على حُسن نِيَّاتهم»([7])، وقال الخليلي: «ثقة متفق عليه»([8]).
وقد روى عنه البخاري في صحيحه شيئًا يسيرًا.
والجرح الذي جُرِح به ثابتٌ جرحٌ مفسَّر، وقد صرَّح الدارقطني بأنه يخطئ كثيرًا، وابن عدي بأنه يشتبه عليه، ويروي على ما يظهر له وإن لم يكن له ضابطًا.
والظاهر أن توثيق من وثقه منصرفٌ إلى دينه وزهده؛ فقد أُثني عليه في ذلك كثيرًا، حتى عدَّه أبو حاتم الرازي في أورع من لقي من الشيوخ.
وكلامُ مَنْ لقي الشيخ وتحمَّل عنه ليس في مرتبة كلام من سَبَر حديثَه، وقارن بين رواياته وروايات غيره؛ فإنه قد يظهر للثاني ما لا يظهر للأول، ومن ذلك: كلام أبي حاتم في ثابتٍ هذا، ولهذا نظائر.
وأما تخريج البخاري له؛ فقال ابن حجر: «روى عنه البخاري في الصحيح حديثَين في الهبة والتوحيد لم ينفرد بهما»([9]).
فالراجح في ثابت: أنه ضعيفٌ غير ضابط.
وأما شيخه: الحارث بن النعمان الليثي؛ فقال فيه البخاري والأزدي: «منكر الحديث»، وقال أبو حاتم الرازي: «ليس بقويِّ الحديث»([10])، وقال النسائي: «ليس بثقة»([11])، وعدَّ له العقيلي أحاديث مناكير يرويها عن أنس -رضي الله عنه-.
وكلمة البخاري: «منكر الحديث» جرحٌ شديدٌ عنده -كما هو معلوم-، وتؤيده كلمات الأئمة، فالرجل شديد الضعف.
وتفرُّده بالحديث عن أنس -مع أن له مناكير عنه- منكر، وتفرُّد ثابت بن محمد عنه منكرٌ -أيضًا-؛ لضعفه، فالحديث عن أنس منكرٌ شديد الضعف.
وقد ضعَّف هذا الحديثَ أحمد بن نصر الداودي، والبيهقي -ويأتي نقل كلامهما-، وقال ابن كثير: «وفي إسناده ضعف، وفي متنه نكارة»([12]).
2- حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-:
ويرويه عنه عطاء بن أبي رباح، وجاء عنه من طريقَين:
أ- رواية يزيد بن سنان الرهاوي:
# التخريج:
أخرجه عبد بن حميد (1002)، وابن ماجه (4126)؛ عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعبدالله بن سعيد الأشج في حديثه (75) -ومن طريقه ابن ماجه (4126)، والسلمي في الأربعين في التصوف (15)، والخطيب في تاريخ بغداد (4/111)، وابن عساكر في معجمه (1190)، وابن الجوزي في الموضوعات (3/141)، وابن النجار في ذيل تاريخ بغداد (3/34)، وابن البخاري في مشيخته (671)، والذهبي في معجم الشيوخ (2/302)، وتذكرة الحفاظ (1/89)-؛ كلاهما (ابن أبي شيبة، والأشج) عن أبي خالد الأحمر،
والطبراني في الدعاء (1425) من طريق أبي فروة الأصغر: يزيد بن محمد بن يزيد بن سنان الرهاوي، والمؤمل بن أحمد الشيباني في السادس من فوائده (13/مجموع عشرة أجزاء حديثية) من طريق إبراهيم، والقضاعي في مسند الشهاب (1126) من طريق أحمد بن محمد بن يعقوب الدارمي؛ ثلاثتهم (أبو فروة الأصغر، وإبراهيم، والدارمي) عن محمد بن أبي فروة: يزيد بن سنان،
كلاهما (أبو خالد الأحمر، ومحمد بن أبي فروة) عن أبي فروة يزيد بن سنان، عن أبي المبارك، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي سعيد الخدري، قال: أحِبُّوا المساكين؛ فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه: «اللهم أحيِني مسكينًا، وأمِتني مسكينًا، واحشُرني في زُمرة المساكين»، لفظ أبي خالد الأحمر. وقال إبراهيم عن محمد بن يزيد بن سنان: عن عطاء، قال: سمعت أبا سعيد يقول: يا أيها الناس؛ لا تحملنَّكم الفاقة والعسرة أن تَطلبوا الرزق من غير حِلِّه؛ فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «اللهم توفَّني فقيرًا، ولا توفني غَنيًّا، واحشُرني في زُمرة المساكين يوم القيامة؛ فإن أشقى الأشقياء من اجتَمَع عليه فقرُ الدنيا وعذابُ الآخرة». واختُصر لفظ أبي فروة الأصغر عن أبيه، ورُوي بالمعنى؛ فجاء فيه: «اللهم أحيِني مسكينًا، وتوفني مسكينًا، واحشُرني في زُمرة المساكين». واختُصر لفظ أحمد بن محمد الدارمي، فلم يجئ فيه إلا قوله: «إن أشقى الأشقياء: من اجتَمَع عليه فقرُ الدنيا وعذابُ الآخرة»، قال القضاعي عَقِبَه: «مختصر».
إلا أن ابن أبي فروة: محمد بن يزيد بن سنان= أسقط أبا المبارك من الإسناد، وجعله عن أبي فروة، عن عطاء مباشرة.
# دراسة الأسانيد:
قال خلف الواسطي الحافظ -عقب رواية محمد بن أبي فروة عن أبيه-: «هذا حديثٌ غريبٌ من حديث عطاء عن أبي سعيد، لا أعلم له وجهًا غير هذا»([13]).
و قال ابن عساكر -عقب إخراج رواية أبي خالد الأحمر-: «هذا حديثٌ غريب»([14]).
ويُستدرك على خلف الواسطي الطريقُ الثانية عن عطاء، وتأتي.
ويظهر أن ابن عساكر لم يكن يريد بغرابته: تفرد راويه به عن أبي فروة، وإنما أراد: غرابته عن عطاء بن أبي رباح، وعدم شُهرته عنه، ويأتي ما يوضح ذلك.
وقد اختُلف عن أبي فروة يزيد بن سنان الرهاوي في روايته هذه:
- فرواه أبو خالد الأحمر عنه، عن أبي المبارك، عن عطاء، عن أبي سعيد،
- ورواه ابنه محمد عنه، عن عطاء، عن أبي سعيد؛ بإسقاط أبي المبارك.
وحال أبي خالد الأحمر أحسن من حال محمد بن أبي فروة، إلا أن أبا زرعة الرازي راعى قرينة كون محمد ابنًا لشيخهما، فرجَّح في حديثٍ آخرَ روايتَه على رواية أبي خالد، بل وعلى رواية أوثقَ من أبي خالد، وهو الحافظ الثبت: وكيع بن الجراح، وقال: «حديث محمد بن يزيد أشبهُ عن أبيه؛ لأنه أفهمُ بحديث أبيه؛ أنْ كان كُتُب أبيه عندَه، ويزيد بن سنان ليس بقويِّ الحديث»([15]).
وكلام أبي زرعة صالحٌ للتطبيق في حديثنا هذا، فلعل أبا فروة حدَّث أبا خالد الأحمر من حفظه، فذكر أبا المبارك، وأما الحديث في كتبه؛ فبإسقاط أبي المبارك، وهي رواية ابنه محمد عنه.
ولا شكَّ أن الحديث في الكتاب هو الأصل، وأن التحديث من الحفظ مظنة الغلط.
وأشار أبو زرعة في خاتمة كلامه إلى ضعف أبي فروة، ولعله أراد احتمالَ كون هذا التلَوُّن والاختلاف من قِبَله، وهذا ما أشار إليه ابن عدي؛ حيث أخرج الحديثَ الذي تكلَّم عليه أبو زرعة من رواية أبي خالد الأحمر، ثم قال: «هذا الحديث يرويه يزيد بن سنان لونَين...»، ثم أسند روايةَ ابن أبي فروة: محمد بن يزيد بن سنان، وقال: «وهاتان الروايتان رواهما يزيدُ بن سنان؛ غير محفوظتَين»([16]).
والاختلاف على أبي فروة في حديثنا هذا يدلُّ على اضطرابه وتلوُّنه فيه -أيضًا-.
وأبو فروة -في أصله- متكلَّمٌ فيه: فقد ضعفه أحمد، وقال -في رواية-: «ليس حديثه بشيء»، وقال ابن معين: «ليس حديثه بشيء»، وقال -في رواية-: «ليس بشيء»، وقال -في رواية-: «ليس بثقة»، وضعفه ابن المديني، وقال محمد بن عبدالله بن عمار: «منكر الحديث»، وقال أبو داود: «ليس بشيء»، وقال النسائي: «متروك الحديث»، وفي موضع: «ليس بثقة»، وقال أبو زرعة: «ليس بقويِّ الحديث»، وقال أبو حاتم: «محله الصدق، والغالب عليه الغفلة، يكتب حديثه، ولا يحتج به»، وقال ابن حبان: «كان ممن يخطئ كثيرًا حتى يروي عن الثقات ما لا يُشبه حديث الأثبات، لا يعجبني الاحتجاج بخبره إذا وافق الثقات، فكيف إذا انفرد بالمعضلات؟»، وقال ابن عدي: «ولأبي فروة الرهاوي هذا حديثٌ صالح، ويروي عن زيد بن أبي أنيسة نسخةً ينفرد فيها عن زيد بأحاديث، وله عن غير زيدٍ أحاديثُ متفرقةٌ عن الشيوخ، وعامة حديثه غير محفوظ»، ولغير هؤلاء من الأئمة كلماتٌ أخرى في تضعيفه([17]).
ومجموعُ كلمات الأئمة تدل على ضعفه الشديد، وأنه صاحب مناكير وأخطاء كثيرةٍ دخلت عليه من غَلَبةِ غفلته عليه، وقلَّة ضبطه وعنايته، حتى صار عامَّة حديث مُنكرًا غيرَ محفوظ، فصار متروكًا.
وإن صحَّ في روايته أنه ذكر أبا المبارك في الإسناد؛ فأبو المبارك مجهول العين، قال الترمذي: «رجلٌ مجهول»، وقال أبو حاتم: «مجهول»، وقال -في موضع آخر-: «شبه مجهول»([18])، وقال ابن عبدالبر: «ليس بالمشهور»([19])، وقال ابن عساكر: «لا يُعرف له اسم»([20])، وقال الذهبي: «لا يُدرَى من هو»، وقال: «فأبو المبارك لا تقوم به حجة؛ لجهالته»([21]).
وقد صدق في هذا الحديث قول البخاري؛ حيثُ قال في أبي فروة: «ليس بحديثه بأس؛ إلا رواية ابنه محمد عنه؛ فإنه يروي عنه مناكير»([22])، وهذا الحديث من مرويات ابنه عنه([23])، ونكارته ظاهرة.
فهذا الإسناد معلَّلٌ بالضعف الشديد في أبي فروة، واضطرابه، وجهالة شيخه، وكونه من مرويات ابنه عنه، ولعل بعض هذه العلل كافية في إسقاط الإسناد وطَرحه، وهي هنا مجتمعة.
قال ابن كثير: «فأما الحديث الذي رواه ابن ماجه من حديث يزيد بن سنان، عن أبي المبارك، عن عطاء، عن أبي سعيد، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «اللهم أحيِني مسكينًا...»؛ فإنه حديثٌ ضعيفٌ لا يثبُت من جهة إسناده؛ لأن فيه يزيد بن سنان أبا فروة الرهاوي، وهو ضعيفٌ جدًّا»([24]).
___________________________
الحواشي:
([1]) كذا جاءت في طبعات كتاب الترمذي المعتمدة على عدَّة نسخ خطيَّة، وفي نسخة الكروخي -أصحِّ نُسَخ الكتاب- (ق153ب)، وفي تحفة الأشراف (1/163)، وفي نقل ابن كثير في البداية والنهاية (8/499). لكن نَقَل ابن حجر في أجوبته عن أحاديث المصابيح أن الترمذي قال: «حسن غريب»، وهذا مخالفٌ لكل ما سبق، وفيه نظر، والمعتمد ما في النُّسَخ والتحفة.
([2]) أطراف الغرائب والأفراد (1/184).
([3]) تخريج الفوائد المنتقاة من حديث ابن الحمامي (ص113/مجموع مصنفاته).
([4]) سير أعلام النبلاء (15/434).
([5]) تهذيب الكمال (4/376).
([6]) سؤالات الحاكم (ص192).
([7]) الكامل (2/97).
([8]) الإرشاد (2/573-منتخبه).
([9]) هدي الساري (ص394)، وله في التوحيد حديثٌ آخر أورده البخاري متابعة، وله في المناقب حديثٌ -أيضًا-.
([10]) تهذيب التهذيب (1/338).
([11]) الضعفاء والمتروكين (115).
([12]) البداية والنهاية (8/499).
([13]) السادس من فوائد المؤمل بن أحمد (ص325/مجموع فيه عشرة أجزاء حديثية).
([14]) معجمه (2/935).
([15]) العلل (1647).
([16]) الكامل (7/270).
([17]) انظر: تهذيب التهذيب (4/416)، التذييل على تهذيب التهذيب (ص472).
([18]) سنن الترمذي (5/180)، الجرح والتعديل (9/446)، علل ابن أبي حاتم (2009).
([19]) الاستغنا في الكنى (1901) -عن (التعليقة الأمينة)، للحلبي (ص21)-.
([20]) معجمه (2/935).
([21]) ميزان الاعتدال (4/569).
([22]) سنن الترمذي (5/180).
([23]) ولم يقف الشيخ الألباني -رحمه الله- على ذلك، فقال -عقب نقل كلمة البخاري في إرواء الغليل (3/361)-: «وهذا ليس من رواية ابنه عنه».
([24]) البداية والنهاية (8/499).