المتنمرون

فالناظر في عنوان الموضوع يرجم بالغيب حدساً بعيد عن الواقع أحياناً فالعنوان لا ينمىء عن مضمون المحتوى ، وربما لجذب القارئ كما قصدت فالتنمر أيها الأحباب موجود منذ عصر التأريخ وله من اسمه نصيب


فهو مأخوذ من النمركما قال المتنبي :

شديد الخنزوانة لا يبالي ... أصاب إذا تنمر أم أصيبا

الخنزوانة في الأصل ذبابة تطير في أنف البعير فيشمخ لها بأنفه واستعيرت للكبر فقيل بفلان خنزوانة ومعنى تنمر صار كالنمر في الغضب والمعنى إذا غضب على أعدائه وقاتلهم لم يبال أقتلهم أم قتلوه.


والتنمر : بالمعنى الحديث الاستقواء هو استخدام العنف اللفظي أو الجسدي ضد الغير، والتعدي على حقوقهم ولست أتكلم عن العنف الجسدي فهذا ليس مجاله ولكني سوف أتحدث بإذن الله تعالى عن العنف اللفظي يعني بين قوسين (الغطرسة).



فالطبقية الموجودة في بعض إدارتنا الحكومية تصنع هذا العُضال ... فصغار الموظفين دائماً يشكون من اضطهاد مرؤوسيهم والنظر إليهم بفوقية بغضيه فقد حدثني بعضهم أن مديره في العمل يقول له بلغات الإشارة المختلفة:


أنت ، هذا ، هيه ، ومن أنت حتى تقول كذا وكذا ، وأنت تشبه الموظف الفلاني المراسل أو الفرّاش أو (.... ) ومهما علوت في الدرجات والمراتب فأنت فلان ابن فلان ولن تعدو قدرك وغيرها من الكلمات الجارحة من هذا المتنمر فضلاً عن النظرات السخرية والحركات .



ولقد حدثني أحدهم بسنده أنه جاء لمديره صاحب الأنجم اللامعة والخيول الجامحة من التهكمات الزائفة والبروج المتهالكة .


فقال له : يا طويل العمر أبوي مريض وأبي أوديه للأردن لعلاجه .


فرد باستعلاء وفوقيه : أنت تكذب .


فما كان من هذا الأخ إلا أن ركبه الغضب وقاد زمامه فقام مشكوراً مأجورا بضرب مديره بعد أن أقفل المكتب حتى سمع القاصي والداني صراخ هذا المدير المحترم وجعل الأنجم بعد أن كانت على كتفه تلمع متناثرة على الأرض بكل إذلال وخر برجه العاجي على رأسه الموقر .



فالسؤال لماذا ذللت نفسك أيها المحترم وأنت غنيٌ عن ذلك ؟



بل السؤال لما كل هذا قد جعلك الله في هذا المكان وجعلتك الدولة مشكورة لتخدم الخلق وليس لتجعلهم خُداماً عندك ؟


وهذا جزاء سنمار ...!


وهذا أيها الكرام خاصة يحدث في كل الدوائر وللأسف بل لعل الإدارة التي يمسك زمام أمورها رئيسان يكون التنمر واضح المعالم وإن زخرفوا القول بالعدل وعدم التفريق بين الموظفين ، وكل حزب بما لديهم فرحون والغالب على بعضهم من حديثي التخرج من الكليات الشريعة أو العسكرية فيرون أن لهم فضلاً على غيرهم أو أنهم طبقة مخملية تأنف من زملاءهم وأصبح ينظر لمن تحت في التربة أوالمرتبة على أنهم مجرد بشر رعاع ليس لهم حظ في الدنيا إلا خدمة سعادتكم الموقر وذاك المتنمر المسكين شابه الطاووس وما ذاك إلا لأن يرى كبيره يفعل ذلك ، ويرى من قبله يفعله وإن دل ذلك فإن يدل على دناءة النفس وخساستها وضعف الشخصية لما لم تكن كالنخلة بل كن أصغر منها وشابه النحلة بل لعله كان كالذباب لا يقع إلا على الجروح ويريد أن يُفتح له الممرات والأبواب.



وقد ذكرت بذلك قول الشاعر :



مشى الطاووس يوما باختيال **** فقلد شكل مشيته بنوه


فقال علام تختالون قالوا **** سبقت به ونحن مقلدوه


فخالف مشيك المعوج **** واعدل فانا ان عدلت معدلوه


أما تدري أبانا كل فرع **** يجاري بالخطى من أدبوه


وينشأ ناشئ الفتيان فينا **** على ما كان عوده أبوه



بل لعله شابه الدخان ولم يشابه شجرة الإيمان لأنه ترك التواضع ولبس شعار التنمر ودثاره وبورك فيما قاله أبو تمام :



تواضع تكن كالنجم لاح لناظر **** على صفحات الماء وهو رفيع


ولاتك كالدخان يعلو بنفسه **** إلى طبقات الجو وهو وضيع



قال بعض الحكماء: المتكبر كالصاعد فوق الجبل، يرى الناس صغاراً، ويرونه صغيراً.



يقول ابن القيِّم في "أصْل الأخلاق المذمومة كلِّها الكِبرُ والمهانة والدناءة، وأصْل الأخلاق المحمودة كلِّها الخشوعُ وعلو الهِمَّة، فالفخر والبَطر، والأَشَر والعُجب، والحسد والبغي، والخُيلاء والظلم، والقسوة والتجبُّر، والإعراض وإباء قَبول النصيحة، والاستئثار، وطلب العلو، وحب الجاه والرِّئاسة، وأن يُحمَد بما لم يفعلْ، وأمثال ذلك، كلها ناشئةٌ مِن الكِبر"؛ا.هـ (الفوائد: ص: 143) .



وعن أبي سلمةَ بن عبدالرحمن بن عوْف قال: "الْتقَى عبدالله بن عمر، وعبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهم - على المروة، فتحدَّثَا، ثم مضَى عبدالله بن عمرو، وبقي عبدالله بن عمر يبكي، فقال له رجل: ما يبكيك يا أبا عبدالرحمن؟ قال: هذا؛ يعني: عبدالله بن عمرو، زعَم أنه سمِعَ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((مَن كان في قلْبِه مثقالُ حبَّة مِن خرْدل مِن كِبْر، كبَّه الله على وجْهِه في النار))؛ رواه أحمد (2/215)، وحسنه الشيخ الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (2909).



وقال بعضُ البُلغاء: الناس في الولاية رجلان: رجلٌ يُجِلُّ العمل بفَضْله ومروءته، ورجل يجلُّ بالعمل لنَقْصه ودناءته، فمَن جلَّ عن عمله ازداد به تواضعًا وبِشرًا، ومَن جلَّ عنه عملُه ازداد به تجبُّرًا وتكبُّرًا"؛ ا.ه من أدب الدنيا والدين للماوردي .


وقال أحد السلف: من كرامة الإنسان على الله أن يجعله سعادة لخلقه، ومن هوان الإنسان عند الله أن يجعله تعاسة لخلقه.



فبماذا يفخر ويفرح المتنمر بعد هذا؟!


سل نفسك يا سعادة المتنمر وأجب ..؟

محبكم في الله محمد كياد المجلاد