بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نزَّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا ، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمد بن عبد الله الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، وعلى آله وأصحابه ومَن استنَّ بسنَّته واهتدى بهديه إلى يوم الدين ، وبعد :
فهذا بحث مختصر ، حللتُ فيه الإشكال الذي وقع فيه البعض مِن إخواننا ، ورددتُ على مَن ينسبُ لشيخ الإسلام ابن تيمية ما لم يقلهُ أو يعتمدهُ في مذهبه ، وذلك في مفهوم أصول الدين ، حيث إنَّهم زعموا – وما زَعْمُهُم إلاَّ تقعُّرٌ وتقعيب – أنَّ ابنَ تيمية رحمه الله يُنكرُ تقسيم الدين إلى أصول وفروع ، والبعض الآخر منهم زعمَ أنَّ ابن تيمية عندهُ اضطرابٌ في مفهوم أصول الدين ، فهذا البحث المختصر موجَّهٌ للفريقين على حدٍّ سواء ، والله المستعان .
-(())-
فصلٌ : معنى أصول الدين لغةً واصطلاحًا :
بما أننا نتكلم عن أصول الدين فلابد أولاً مِن تعريفه حتى يسهل علينا الخوض فيما يتعلق به ، فالأصلُ له عدة معان في اللغة ، مِنها : أنَّهُ ما يُبنى عليه غيرهُ ، أو هوَ ما يستند وجود الشيء إليه ، وجمعها أصول ، جاءَ في تاج العروس : ( الأصلُ : أسفلُ الشيء ، يُقالُ : قعد في أصل الجبل ، وأصل الحائط ، وقلعَ أصلَ الشجر ، ثم كَثُرَ حتى قيل : أصل كل شيء : ما يستندُ وجودُ ذلك الشيء إليه ، فالأبُ أصل للولد ، والنهر أصلٌ للجدول ، قاله الفيومي ، وقال الراغب : أصل كل شيء قاعدته التي تُوهِّمَت مرتفعةً ارتفعَ بارتفاعها سائرهُ ، وقال غيرهُ : الأصلُ ما يُبنى عليه غيره . ) أهـ .
وإذا أُضيفَ "الأصول" إلى "الدين" فيكونُ حينئذٍ على معنًى آخر ، وقد اختلف العلماء في تعريف أصول الدين على أقوال لا يهمنا ذكرها ، لكن نذكر الراجح منها ، فالأقربُ منها إلى الكتابِ والسنة والأسلمُ باعتبار المعنى اللغوي للأصل ، أن نقول في تعريف أصول الدين : أنَّها مسائلُ الدين الهامَّة التي يُبنى عليها الدين ، والتي أجمع عليها السلفُ مِن الصحابة والتابعين سواءً كانت عقليةً أم خبرية علميةً أم عمليَّة ، ويحرم المخالفة فيها ويترتب على المخالفة فيها القدحُ في الدين أو العدالة .
ذلكَ لأنَّنا نجِدُ أنَّ كلَّ مسألةٍ تكون المخالفة فيها قادحة فإنَّها مِن مسائل الدين المهمة التي يحتاجُ إليها الدين والتي أجمع عليها السلف ، ولا يلزمُ مِن هذا التعريف تكفير المجتهد في أصول الدين أو تأثيمهُ كما يظن البعض ، ذلك لأنَّ هذه الاصطلاحات هدفها الترتيب والتقريب والتبسيط ، فلا تُبنى عليها الأحكام ، فإذا كان ذلكَ كذلك فلا مُشاحة في الاصطلاح ، أمَّا أحكامُ التكفير والتفسيق والتبديع فهيَ تُبنى على حسب الفِعل والفاعِل والقرائن المصاحبة للحال ، لا على هذه الاصطلاحات ، كما يقول شيخُ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله : ( ... فإنَّ نصوصَ "الوعيد" التي في الكتاب والسنة ، ونصوصَ الأئمةِ بالتكفير والتفسيق ونحو ذلك ، لا يستلزمُ ثبوت موجبها في حق المُعيَّن ، إلاَّ إذا وُجِدَت الشروط وانتفت الموانع ، لا فرقَ في ذلك بينَ الأصول والفروع ... ) انظر مجموع الفتاوى (10/372) .
وقد وجدتُ كثيرًا مِن الأئمة قد ذكروا "أصول الدين" معَ مراعاتهم الوصف الذي ذكرتُ لكَ ، فدعنا ننهل مما قدَّموا ، فقد نقلتُ لك ما تيسر لي الوقوف عليه مِن كلامهم ، فما نقلتُه ليس على سبيل الحصر :
* ما رُويَ عن أبي زرعة وأبي حاتم الرازيين ، فقد روى اللالكائيُّ : ( 321- أخبرنا محمد بن المظفر المقري قال حدثنا الحسين بن محمد بن حبش المقري قال حدثنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم قال : سألتُ أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنَّة في أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار وما يعتقدان مِن ذلك ؟ فقالا : أدركنا العلماء في جميع الأمصار – حجازًا وعراقًا وشامًا ويَمَنًا – فكان مِن مذهبهم : الإيمانُ قولٌ وعملٌ يزيدُ وينقص . والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته . والقدر خيره وشره مِن الله عز وجل ... ) . ثم ذكرَ بقية أصول أهل السنة التي أجمع عليها السلف والتي كان الخلاف فيها قادحًا في الدين والعدالة ، ولولا طولها لذكرتها كلها ، وليرجع لها مَن كانت له جِدة . فانظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لأبي القاسم اللالكائي (1/198) دار طيبة .
* وقال الإمام الصابوني رحمه الله في مقدمتهِ لكتاب "عقيدة السلف" : ( سألني إخواني في الدين أن أجمعَ لهم فصولاً في أصول الدين التي استمسَكَ بها الذينَ مضوا مِن أئمةِ الدين وعلماء المسلمين والسلف الصالحين ، وهدوا ودعوا الناسَ إليها في كل حين ، ونهوا عمَّا يُضادها وينافيها جملة المؤمنين المُصدِّقين المُتقين ، ووالوا في اتباعها وعادوا فيها ، وبدَّعوا وكفَّروا مَن اعتقدَ غيرها ... ) انظر "عقيدة السلف أصحاب الحديث" (ص159) .
* وقال شيخُ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمهُ الله لما سئل عن حكم الخوض في مسائل أصول الدين : ( ... فإنَّ المسائل التي هي مِن أصول الدين التي تستحق أن تُسمَّى أصول الدين - أعني الدين الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه – لا يجوزُ أن يُقال : لم يُنقَل عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها كلام ، بل هذا كلامٌ متناقضٌ في نفسهِ ، إذ كونها مِن أصول الدين يُوجِبُ أن تكونَ مِن أهمِّ أمورِ الدين ، وأنَّها مِمَّا يحتاجُ إليه الدين ... ) – حتى قال – ( وذلك أنَّ أصول الدين إمَّا أن تكونَ مسائل يجبُ اعتقادها ، ويجبُ أن تذكر قولاً أو تُعمَل عملاً ، كمسائل التوحيد والصفات والقدر والنبوة والمعاد أو دلائل هذه المسائل .
فأمَّا القسمُ الأوَّل : فكل ما يحتاجُ الناس إلى معرفته واعتقادهِ والتصديق به مِن هذه المسائل فقد بيَّنهُ اللهُ ورسولهُ بيانًا شافيًا قاطعًا للعذر ، إذ هذا مِن أعظم ما بلَّغَهُ الرسول البلاغ المبين ، وبيَّنهُ للناس ، وهو مِن أعظم ما أقامَ اللهُ الحجةَ على عبادهِ فيه بالرسل الذينَ بيَّنوهُ وبلَّغوهُ ، وكتابُ اللهِ الذي نقَلَ الصحابةُ ثم التابعون عن الرسول لفظهُ ومعانيهِ والحكمة التي هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي نقلوها أيضًا عن الرسول ، مشتملةٌ مِن ذلك على غاية المراد وتمام الواجب والمستحب ... ) – حتى قال – ( وأمَّا القسمُ الثاني – وهو دلائلُ هذه المسائل الأصولية – فإنَّهُ وإن كان يظن طوائف مِن المتكلمين أو المتفلسفة أنَّ الشرعَ إنما يدل بطريق الخبر الصادق ، فدلالتهُ موقوفةٌ على العلم بصدق المخبر ، ويجعلون ما يُبنى عليهِ صدق المخبر معقولات محضة . فقد غلطوا في ذلك غلطًا عظيمًا ، بل ضلوا ضلالاً مبينًا ، في ظنهم أنَّ دلالة الكتاب والسنة إنَّما هي بطريق الخبر المجرَّد ، بل الأمرُ ما عليه سلف الأُمَّة ، أهل العِلم والإيمان ، مِن أنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى بيَّنَ مِن الأدلَّة العقليَّة التي يُحتاجُ إليها في العِلم بذلك ، ما لا يقدرُ أحدٌ مِن هؤلاء قدرهُ ، ونهايةُ ما يذكرونهُ جاءَ القرآنُ بخلاصتهِ على أحسنِ وجه ... ) . انظر "درء تعارض العقل والنقل" تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم (1/87) ، وانظر كذلك مجموع الفتاوى (3/294) .
* وقال ابن قيِّم الجوزيَّة رحمه الله : ( إنَّهُ لا يُعلمُ آيةٌ مِن كتاب الله ولا نصٌّ صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب أصول الدين ، اجتمعت الأُمَّةُ على خلافه ... ) أهـ . الصواعق المرسلة (2/833) دار العاصمة . وهذا وغيره مِن المواضع التي ذكر فيها ابن القيِّم أصول الدين مع الضابط الذي ذكرتُ لك ، وقد تابعتُ ابن تيمية في مفهوم أصول الدين فتأمل ذلك جيِّدًا .
-(())-
فصلٌ : بعض النقول عن ابن تيمية التي يحتجُّ بها منكروا التقسيم ، والإجابة عن هذه النقول :
يظن الكثير مِن العلماء وخصوصًا المعاصرين أنَّ ابن تيمية يُنكر تقسيم الدين إلى أصولٍ وفروع ، والبعض الآخر وجد كلامًا لابن تيمية في إنكار التقسيم ، وكلامًا له في القول بالتقسيم ، فظنُّوا أن هناك ثمة اضطراب ، وهذا غير صحيح ، فكلٌ مِن الفريقين قد جانب الصواب ، ولو تأمَّلوا كلامه كله رحمه الله لعرفوا مراده .
وأنا الآن أنقل ما تمسَّك به الفريق الأول مِن كلام ابن تيمية ، ثم أجيب عنه وأوضح مراده الصحيح الذي خفي عليهم ، وبه يتضح للفريق الثاني أن لا اضطراب :
(1) النص الأوَّل :
قوله رحمه الله : ( ... وأصلُ هذا ما قد ذكرتُهُ في غير هذا الموضع : أنَّ المسائل الخبرية قد تكون بمنزلة المسائل العملية ، وإن سُمِّيت تلك "مسائل أصول" وهذه "مسائل فروع" فإنَّ هذه تسمية محدثة ، قسمها طائفةٌ مِن الفقهاء والمتكلمين ، وهو على المتكلمين والأصوليين أغلب ، لاسيما إذا تكلموا في مسائل التصويب والتخطئة ... ) انظر مجموع الفتاوى (6/56) .
توضيح النص :
لقد استعجل الكثير ممن يقتصون هذا النص ويحتجون به على أنَّ ابن تيمية لا يرى تقسيم الدين إلى أصولٍ وفروع ، وعدم مراعاتهم للسياق الذي جاء فيه النص دليلٌ كاف على هذا .
فنقول : إنَّ ابن تيمية يُنكر على مَن يَجعلُ المسائل الخبرية "أصول" والمسائل العمليَّة "فروع" ، فهو يُريد القول بأنَّ هناك مِن المسائل العملية تستحق أن تكون أصولاً في الدين ، ومِن المسائل الخبرية التي قد تستحق أن تدرج في الفروع إذ الخلاف فيها سائغ ، وهذا مفهومٌ في كلام الإمام الموجود في النص المستخرج من سياقه الصحيح ، وذلك في قوله : ( ... أنَّ المسائل الخبرية قد تكون بمنزلة المسائل العملية ... ) . فهو إذًا لا يريد نفي أنَّ في الدين أصولاً وفروعًا ، وهذا هو ظاهر كلامه ولا حاجة إلى تأويله ، حيث قال : ( وإن سُمٍّيت تلك "مسائل أصول" ... ) فقوله "تلك" يعود على ( المسائل الخبرية ) ، ثم قال : ( ... وهذه "مسائل فروع" فإنَّ هذه تسمية محدثة ، قسمها طائفةٌ مِن الفقهاء والمتكلمين ... ) فقوله "وهذه" يعود على ( المسائل العملية ) ، فلا إشكال إذًا ، فإنَّه يُنكر على مَن يُقسِّم الدين إلى أصول وفروع باعتبار الأصول هي المسائل الخبرية ، والفروع هي المسائل العملية .
ويشهد على ذلك أيضًا السياق ، فبعدَ النص الذي نقلتُه تكلَّم عن الصواب في إطلاق العبارة ، فقال : ( ... بلِ الحقُّ : أنَّ الجليلَ مِن كلِّ واحدٍ مِن الصنفين "مسائل أصول" والدقيقُ "مسائل فروع" . فالعلمُ بوجوب الواجبات كمباني الإسلام الخمس وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة ، كالعلمِ بأنَّ الله على كلِّ شيءٍ قدير وبكل شيءٍ عليم وأنَّهُ سميعٌ بصير ، وأنَّ القرآن كلام الله ، ونحو ذلك مِن القضايا الظاهرة المتواترة ، ولهذا مَن جحد تلك الأحكام العملية المجمع عليها كفرَ ، كما أنَّ مَن جحد هذه كفر ) .
ولتوضيح هذا النص أقول : يُبيِّنُ شيخُ الإسلام أنَّ هناك مِن القضايا العملية ما يوازي القضايا الخبرية ، ومثَّلَ على ذلك بقوله ( فالعلم بوجوب الواجبات كمباني الإسلام ... ) ثم ساوى بينها وبين المسائل الخبرية بقوله : ( كالعلمِ بأنَّ الله على كلِّ شيءٍ قدير وبكل شيءٍ عليم وأنَّهُ سميعٌ بصير ، وأنَّ القرآن كلام الله ... ) ، وهذا واضحٌ لمن تأمَّلهُ ، بخلاف بعض المُتسرعين الذين يقرؤون كلام الأئمة بلا فهم .
ثم يُكمل شيخُ الإسلام رحمه الله كلامهُ ، فيقول : ( وقد يكونُ الإقرارُ بالأحكام العمليَّة أوجبُ مِن الإقرار بالقضايا القوليَّة ، بل هذا هو الغالب ... ) انظر مجموع الفتاوى ( 6/56 إلى 6/61 ) .
وبهذا يتبيَّن أنَّ شيخَ الإسلام لم يُنكر تقسيم الدين إلى أصول وفروع ، ولكنَّه أنكر التقسيم عند طائفةٍ مُعيَّنة ، لتضمن ذلك التقسيم على مفهوم باطل .
(2) النص الثاني :
قوله رحمه الله : ( ... ولم يُفرِّق أحدٌ مِن السلف والأئمة بين أصولٍ وفروعٍ . بل جَعْلُ الدين قسمين أصولاً وفروعًا لم يكن معروفًا في الصحابة والتابعين ، ولم يقل أحدٌ مِن السلف والصحابة والتابعين أنَّ المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق يأثم ، لا في الأصول ولا في الفروع ، ولكن هذا التفريق ظهر مِن جهة المعتزلة ، وأدخلهُ في أصول الفقه مَن نقلَ ذلك عنهم ، وحكوا عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنَّه قال : كل مجتهد مصيب ، ومُرادُهُ أنَّه لا يأثم . وهذا قول عامة الأئمة كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما ) انظر مجموع الفتاوى (13/125) .
توضيح النص :
نقول لمن يرى أنَّ ابن تيمية ينكر تقسيم الدين إلى أصول وفروع : أين إنكاره التقسيم في هذا النص ؟ إنَّما هو يقولُ بحادثيَّة التقسيم فحسب ، ويردُّ على من يجعل المجتهد في الأصول آثمًا ، فهو إذًا ينتقد أصول الدين عند طائفةٍ معيَّنة ، وهو رحمه الله في الأصل كان يتكلم عن الاجتهاد وهل كل مجتهد آثم أم لا ؟ وهل يُفرَّق في جواز الاجتهاد بين الأصول والفروع أم لا ؟ فتعرَّضَ لهذه المسألة وبيَّنَ مذهب السلف فيها . وبيان هذا في الآتي :
قوله : ( ... ولم يُفرِّق أحدٌ مِن السلف والأئمة بين أصولٍ وفروعٍ . ) فهذا نص مقتص مِن سياقه ، فنقول : لم يفرق السلف بين أصولٍ وفروعٍ في ماذا ؟ إذًا علينا أن ننقل النص كاملاً ، فهو رحمه الله يقصد أنَّ السلف لم يفرِّقوا في مسألة جواز الاجتهاد بين أصولٍ وفروع ، وهذا هو النص الذي قبله :
( فإذا أُريدَ بالخطأ الإثم ، فليس المجتهدُ بمخطئ ، بل كل مجتهد مصيبٌ مطيعٌ لله فاعلٌ ما أمرهُ الله به ، وإذا أُريدَ به عدمُ العِلم بالحقِّ في نفس الأمرِ فالمصيب واحدٌ وله أجران ، كما في المجتهدين في جهة الكعبة إذا صلوا إلى أربع جهات ، فالذي أصاب الكعبة – واحدٌ وله أجران لاجتهاده وعمله – كان أكمل مِن غيره ، والمؤمن القوي أحب إلى الله مِن المؤمن الضعيف ، ومَن زاده الله علمًا وعملاً زادهُ أجرًا بما زادهُ مِن العلم والعمل ، قال تعالى : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجاتٍ مَّن نشاء } ، قال مالك عن زيد بن أسلم : بالعلم . وكذلك قال في قصة يوسف : { ما كان ليأخذ أخاهُ في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجاتٍ مَّن نشاء وفوق كل ذي علم عليم } . وقد تبيَّن أنَّ جميع المجتهدين إنَّما قالوا بعلمٍ واتَّبعوا العلم ، وأنَّ "الفقه" مِن أجلِّ العلوم ، وأنَّهم ليسوا مِن الذين لا يتبعون إلاَّ الظن ، لكن بعضهم قد يكون عندهُ علمٌ ليس عند الآخر ، إمَّا بأن سمعَ ما لم يسمع الآخر ، وإمَّا بأن يفهم ما لم يفهم الآخر ، كما قال تعالى : { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهَّمناها سليمان وكلا آتينا حكمًا وعلمًا } . وهذه حال أهل الاجتهاد والنظر والاستدلال في الأصول والفروع ، ولم يُفرِّق أحدٌ مِن السلف والأئمة بين أصولٍ وفروعٍ ... ) .
وأمَّا قوله رحمه الله : ( ... بل جَعْلُ الدين قسمين أصولاً وفروعًا لم يكن معروفًا في الصحابة والتابعين ... ) ، فهذا لا يدل على أنَّ ابن تيمية يُنكر تقسيم الدين إلى أصول وفروع ، بل هو يحكي حادثيَّة التقسيم فقط ، فقوله بأنَّه حادث لا يدل على أنَّه ينكره ، فتقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام تقسيمٌ حادث لم يقل به السلف ولم ينفه شيخ الإسلام ، وسيتبيَّن لك ماذا يقصد ابن تيمية مِن هذا التقسيم الحادث .
فقوله : ( ... ولم يقل أحدٌ مِن السلف والصحابة والتابعين أنَّ المجتهد الذي استفرغ وسعه في طلب الحق يأثم ، لا في الأصول ولا في الفروع ، ولكن هذا التفريق ظهر مِن جهة المعتزلة ... ) ، فهذا بيان لما قبله فهو يبيَّن أن تقسيم الدين إلى أصول وفروع وتأثيم المجتهد في الأصول قولٌ باطل ، ونفاهُ عن السلف .
وقوله : ( ... ولكن هذا التفريق ظهر مِن جهة المعتزلة ... ) فالتفريق الذي ذكره هنا يعود على قضية التفريق بين الاجتهاد في الأصول والفروع .
الخلاصة : أنَّ هذا النص الذي يحتج به الفريق الأوَّل لا حجة فيه وهو واضحٌ جدًا للذي يمتلك التأصيل العلمي ويفهم كلام الأئمة ، فهو فالنصُّ في من يُفرق بين الاجتهاد في الأصول والفروع .
(3) النص الثالث :
قوله رحمه الله : ( فأمَّا التفريق بين نوعٍ وتسميتهُ مسائل الأصول وبين نوعٍ آخر وتسميتهُ مسائل الفروع ، فهذا الفرق ليس له أصلٌ لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام ، وإنَّما هو مأخوذٌ عن المعتزلة وأمثالهم مِن أهل البدع ، وعنهم تلقَّاهُ مَن ذكره مِن الفقهاء في كتبهم ، وهو تفريقٌ متناقض ، فإنَّهُ يُقال لمن فرَّق بين النوعين : ما حدُّ مسائل الأصول التي يُكفَّرُ فيها المخطئ ؟ وما الفاصل بينها وبين مسائل الفروع ؟ ... ) انظر مجموع الفتاوى (23/346) .
توضيح النص :
نقول أيضًا : أنَّ هذا النص مقتص مِن سياقه الصحيح ، وهو كالنص السابق ، فابن تيمية يردُّ على مَن يُكفِّر المجتهد في أصول الدين ولا يُكفِّرهُ في الفروع ، يعني كلامهُ أيضًا في حق طائفةٍ مُعيَّنة رتَّبت على أصول الدين أمورًا فاسدة ، والنص الذي قبله يُبيِّن هذا :
( ... فمن كان مِن المؤمنين مجتهدًا في طلب الحق وأخطأ فإنَّ الله يغفر له خطأه كائنًا مَن كان ، سواءً في المسائل النظرية أو العمليَّة ، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وجماهير أئمة الإسلام ، وما قسَّموا المسائل إلى مسائل أصول يُكفَّرُ بإنكارها ، ومسائل فروع لا يُكفَّر بإنكارها .
فأمَّا التفريق بين نوعٍ وتسميتهُ مسائل الأصول وبين نوعٍ آخر وتسميته مسائل الفروع ، فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام ، وإنَّما هو مأخوذٌ عن المعتزلة وأمثالهم مِن أهل البدع ... ) . هذا هو الكلام الذي جاء قبل النص المقتص مِن سياقه .
فقوله إذًا : ( ... فأمَّا التفريق بين نوعٍ وتسميتهُ مسائل الأصول وبين نوعٍ آخر وتسميته مسائل الفروع ، فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين لهم بإحسان ولا أئمة الإسلام ... ) فهو قطعًا يقصد بالتفريق هنا التفريقُ بين الأصول والفروع في الاجتهاد .
الخلاصة مِن هذه النصوص :
أنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يُبيِّن فساد مفهوم أصول الدين عند طوائف معينة ، ويُبيَّن فساد الأحكام التي رتبوها على تقسيمهم ، وكل النصوص المنقولة عنه في هذا الصدد هي شبيهةٌ بالنقول التي سبق بيانها ، فابن تيمية لا يُنكر أنَّ في الدين أصولاً وفروعًا ، بل يُقرُّ به ولكنَّه يعتمدُ في مفهوم أصول الدين على الأدلة من الكتاب والسنة والمعنى اللغوي لهذا المصطلح ، وهذا قد وضَّحهُ الإمام وبيَّنه خير بيان في فتواه المشهورة عن أصول الدين ، فقد قال رحمه الله :
( فقول السائل : "هل يجوزُ الخوضُ فيما تكلَّم الناس فيه مِن مسائلٍ في أصول الدين لم يُنقل عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيها كلامٌ أم لا ؟" : سؤالٌ وردَ بحسب ما عُهِدَ مِن الأوضاع المبتدعة الباطلة . فإنَّ المسائل التي هي مِن أصول الدين – التي تستحق أن تُسمَّى أصول الدين – أعني الدين الذي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه : لا يجوزُ أن يُقال لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها كلام ، بل هذا كلامٌ مُتناقضٌ في نفسه ، إذ كونها مِن أصول الدين يُوجِبُ أن تكونَ مِن أهمِّ أمور الدين ، وأنَّها مِمَّا يحتاجُ إليه الدين ، ثمَّ نفي الكلام فيها عن الرسول يُوجِبُ أحد أمرين .
إمَّا أن الرسول أهمل الأمور المهمَّة التي يحتاجُ إليها الدين فلم يُبيِّنها أو أنَّهُ بيَّنها فلم تنقلها الأمَّةُ ، وكلا هذين باطلٌ قطعًا ، وهو مِن أعظم مطاعن المُنافقين في الدين ، وإنَّما يظن هذا وأمثاله مَن هو جاهلٌ بحقائق ما جاء به الرسول أو جاهلٌ بما يعقله الناس بقلوبهم أو جاهلٌ بهما جميعًا .
فإنَّ جَهْلَهُ بالأوَّل : يُوجِبُ عدم علمه بما اشتمل عليه ذلك مِن أصول الدين وفروعه . وجَهْلُهُ بالثاني : يُوجِبُ أن يدخل في الحقائق المعقولة ما يُسمِّيهِ هو وأشكالهُ عقليَّات ، وإنَّما هي جهليَّات . وجهلهُ بالأمرين يُوجِبُ أن يَظنَّ مِن أصول الدين ما ليس منها مِن المسائل والوسائل الباطلة ، وأن يَظنَّ عدم بيان الرسول لما ينبغي أن يعتقد في ذلك كما هو الواقع لطوائف مِن أصناف الناس ، حُذَّاقهم فضلاً عن عامتهم .
وذلك أنَّ أصول الدين إمَّا أن تكونَ مسائل يجب اعتقادها قولاً أو قولاً وعملاً ، كمسائل التوحيد والصفات والقدر والنبوة والمعاد . أو دلائل هذه المسائل .
أمَّا القسم الأوَّل : فكل ما يحتاجه الناس إلى معرفته واعتقاده والتصديق به مِن هذه المسائل فقد بيَّنهُ الله ورسوله بيانًا شافيًا قاطعًا للعذر . إذْ هذا مِن أعظم ما بلَّغهُ الرسول البلاغ المبين وبيَّنهُ للناس ، وهو مِن أعظم ما أقام الله به الحجة على عباده فيه بالرسل الذين بيَّنوه وبلَّغوه ، وكتاب الله الذي نَقَلَ الصحابةُ والتابعون لفظه ومعانيه ، والحكمة التي هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي نقلوها أيضًا عن الرسول مشتملةٌ مِن ذلك على غاية المراد وتمام الواجب والمستحب ... ) انظر مجموع الفتاوى (3/294) ، وانظر كذلك درء تعارض العقل والنقل (1/87) .
ففي هذه الفتوى بيَّن رحمه الله المفهوم الصحيح لأصول الدين ، وبيَّن فساد هذا المفهوم عند بعض الطوائف ، وكلامهُ صريحٌ جدًا ، كما قال بعدها رحمه الله : ( وإنَّما الغرضُ التنبيهُ على أنَّ في القرآن والحِكمة النبوية عامَّةُ أصول الدين مِن المسائل والدلائل التي تستحق أن تكون أصول الدين . وأمَّا ما يُدخِلُهُ بعض الناس في هذا المُسمَّى مِن الباطل فليس ذلك مِن أصول الدين ، وإن أدخله فيه مثلَ المسائل والدلائل الفاسدة : مثل نفي الصفات والقَدَر ونحو ذلك مِن المسائل ... ) – حتى قال – ( وأمَّا الدين الذي قال اللهُ فيه : { أم لهم شركاء شرعوا لهم مِن الدين ما لم يأذن به الله } فذاك له أصول وفروع بحسبه . وإذا عُرِفَ أنَّ مُسمَّى أصول الدين في عُرف الناطقين بهذا الاسم فيه إجمالٌ وإبهام – لما فيهِ مِن الاشتراك بحسب الأوضاع والاصطلاحات – تبيَّن أنَّ الذي هو عند الله ورسوله وعباده المؤمنين أصول الدين فهو موروثٌ عن الرسول . وأمَّا مَن شرع دينًا لم يأذن به الله فمعلومٌ أنَّ أصوله المستلزمة له لا يجوز أن تكونَ منقولةٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إذْ هو باطلٌ وملزومُ الباطل باطلٌ ، كما أنَّ ملزوم الحق حق . ) أهـ . مجموع الفتاوى (3/306) ، وانظر درء التعارض (1/96) .
والله أعلم بالصواب ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم إلى يوم نلقاه ، والحمد لله رب العالمين ،،