تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: حجابي (أصل المقال قصة من الواقع)

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    155

    افتراضي حجابي (أصل المقال قصة من الواقع)

    حجابي

    (أصل هذا المقال قصة واقعية)

    (نشر في موقع الألوكة: الرابط)


    كانت تباشيرُ الفجر الجديد تملأ الأُفق ببساطٍ من البياض، يُخالط سُدْفة اللَّيل الراحل، فينعكس على الأرض بغبشٍ من النور، تتبيَّن فيه قسماتُ الوجوه، وتقاطيعُ الأشياء غامضة لا تبوح بمكنوناتها، كأنَّها ورثَتْ من الليل شيئًا مِن كِتمانه، وحديثًا من أسراره.

    وكأنَّ نسائِمَ الصباح الأولى تتراقَصُ ثائرةً في كلِّ مكان، مُنطلقة عن كلِّ قيد، تغازِلُ البِنَايات السامقة، وتجمش الأشجار المترنحة، ثم تتسلَّل بين الثياب والأجسام، فتلطِّف من حرارة الصيف الخانقة.

    وكانت المدينة تستيقظ من سباتها في بطءِ الكسلان إذ يصحو، ويبقى على فراشه لَقِسَ النَّفْس، ينبعثُ العضو منه تلو الآخر، ويتثاءَب بين كلِّ حركة وأختها، فلا تكتمل يقظتُه إلا بعد دقائق طويلة من المدِّ والجزر؛ بين ضيق الفراش وسَعة الكون مِن حوْله.

    كان كلُّ شيءٍ من حول "أسماء" ساكنًا مطمئِنًّا، مُقبلاً في يومه على تَكرار ما كان منه في أَمسه، قد عرَفَ الطريق التي سيسلكها فيما يستقبل من الساعات، وتبيَّنَ صورها، وأبصرَ معالمها.

    أما قلبُها هي، فكان مُضطربًا واجفًا، كما لو أنَّ صدرَها صارَ قفصًا لعصفور صغير، لا يفتأ يقفز بين أسوار سِجْنه، يحنُّ إلى الانطلاق والتحرُّر، ولا يجد إلى ذلك سبيلاً.

    وكان ذِهنُها الصغير مُزدحمًا بألف سؤال، ويضعُ لكلِّ سؤالٍ ألفَ جواب، ليس في واحد منها بردُ اليقين.

    كانت "أسماء" قد ودَّعتْ صاحباتها عبر أسلاك الهاتف على عَجَلٍ، فلم يكنِ السفر مُخطَّطًا له منذ مدة تكفيها في لقائهنَّ ومُجالَستهِنَّ.

    ولقد كانت تتمنَّى هذا اللقاء؛ لعلها تقتبسُ من دعابتهنَّ البريئة ما يُنير لها الطريق المظلِم الممتد من أمامها، أو تتنشَّقُ من أريج عبثهنَّ الساذج نفحةً تتضوَّع منها أنحاءُ رُوحها المضطربة.

    ولكنَّها اضطرتْ إلى أن تُسرعَ في مخاطبة مَن أَمْكنها منهنَّ قبيل صلاة الصبح بقليل، ثم ارتدتْ ثيابها، وأحكمتْ حجابَها من فوق رأْسها، وخَطَتْ أولى خُطواتها خارج البيت الذي عاشتْ فيه سنواتٍ طويلة من عُمرها.

    حملتْ "أسماء" حقيبتها، وأسرعت اللَّحاق بأبيها الذي كان يستحثُّ الجميعَ بكلماته المتلاحقة، وكان قد رسَمَ على شَفَتيه ابتسامةً عريضة، يحاولُ أنْ يُخفي بها ملامحَ القَلَق التي تسرَّبتْ من فؤاده إلى وجْهِه.

    لم يكن الأب راضيًا عن هذا السفر المفاجئ الذي فُرِض عليه، ولكنَّه لم يكنْ ليخالف رؤساءَه في مثل هذا، فليسوا هم مَن يتحكَّمون في الاختيار، ولا لهم القُدرة على التغيير أو الإلغاء، وإنَّما عَملُه يَقتضي أن يتنقلَ بين بلاد الأرض، لا يقرُّ له في أحدها قرارٌ، يستقرُّ في البلد أربع سنوات لا غير، فما يشرعُ في معاشرة أهْلها، والاعتياد على حضارتهم وتقاليدهم، حتى يُنقَل على وجْه السرعة إلى بلدٍ آخرَ، فإذا به يستأنف علائقَ جديدة، ومعرفة طارفة.

    فما كانت السنوات الأربع التي يقضيها في كلِّ بلد قليلة، بحيث لا يربط بأهْل البلد وشيجةً يُؤلمه قطعُها عند الفراق المحتوم، وما كانت كثيرة، بحيث تحبِّبُ له السآمةُ الانتقالَ، ويُهَوِّن عليه حبُّ التجديد مرارةَ الارتحال، وإنما كان كالشجرة الصغيرة التي تُنقلُ من مَهْدها بعد أن تنغرسَ بعضُ جذورها في الأرض.

    كانتْ حياتُه على هذه الحالة منذ سنوات طويلة، ولكنَّ سفرَ اليوم لم يكنْ كالأسفار التي سبقتْه.

    أما أولاً، فلأنَّه ما كان يتنقلُ من قبلُ إلاَّ بين البلاد الإسلاميَّة، فإذا اختلفتِ الثقافة، وتنوَّعت التقاليد، اتَّحد الدِّين، فلم يبقَ مِن الخِلاف إلا كما يكون بين الأخ وشقيقه، يجمعُهما كنفُ الأسرة الواحدة.

    أما الآن، فهو مُقبل على بلاد أوروبا؛ حيث الفِتنُ والمغْرِيات، وحيث الشهوات والشُّبهات، وحيث .. لا إسلام.

    وأما ثانيًا، فلأنَّ بِنتَه "أسماء" التي كانتْ من قبلُ طفلةً لا تَعي من أمور الدنيا غيرَ لعبها ولَهْوها البريء، قد صارت الآن فتاةً في ربيع شبابها، قد نضجتْ آمالُها، واكتملتْ تطلُّعاتها، فكيف يقتلعُ هذا الكيان الغضَّ من جذوره الراسخة في أرض الإسلام؛ ليرميه في أحضان هذه الحضارة العجيبة التي تَفْغَرُ فاها، فتلْتَهم كلَّ ضيفٍ يحلُّ عليها، ثم تَلْفِظه بعد أن تعيدَ عَجْنَه بلُعَابها؟!

    أجالتْ "أسماء" بصرَها في المدينة من حولها؛ من خلال زجاج السيَّارة، وشرعتْ تُراجِع بعضَ ما عَلِق بذاكرتها عن هذه المدينة التي شَهِدتْ أُوْلَى خُطواتها في الحياة.

    تذكَّرتْ مُدرِّستَها المتلفِّعة بِدثار البراءة والطُّهْر؛ حيث الألعاب البريئة، والدروس الجادَّة المفيدة، والتنافُس المشروع على أرْفَع الدرجات، وحيث الأساتذة الموقَّرون يَفرضون على مَن حولهم جَوًّا من الاحترام والهَيْبة.

    تذكَّرتِ المسجد المحاذي لبيْتهم؛ حيث يُرفع - خَمس مرات في اليوم والليلة - ذلك النداء العُلوي الخالد، يصدحُ بتوحيد الخالق وتعظيمه، ويجهرُ بتقرير الرسالة المحمديَّة السَّمْحة، فيخترق عنانَ السماء، وينتشرُ في أنحاء الأرض، ويعمُّ الناس بأَريجه الطاهر.

    تذكَّرتْ أرسالَ المصلِّين، وهم يتوجَّهون - في رمضان وفي غيره - إلى ذلك المسجد، يُلبُّون داعي الفلاح في ثَباتٍ وسكينة، تحدوهم لذَّةُ طلب المغفرة، ويجرُّهم البحثُ عن الرضوان، والنعيم المقيم.

    تذكَّرتْ دار القرآن التي كانت ترتادُها مرة أو مرتين كلَّ أسبوع، تُلقي على أُذُنَي أستاذتها البشوش الحازمة ما أَوْكَتْ عليه صدرَها من آيات الفرقان، فتصحِّح لها ما أخطأتْ فيه، وتشجعُها على المثابَرة على الطريق، وحثِّ الخُطى في السير عليها، وتبشرُها بما ينتظرها عند الوصول المرقوب.

    وتذكرتْ أصوات التاليات ترتفعُ من الحناجر الغضَّة، فتترعُ فضاء الدار بسِحْرٍ مِن عَبقها الفوَّاح.

    تذكرتْ جيرانَها وهم يتشاورون في مصالح الحي، ويتجاذبون أطرافَ الحديث فيما يَجِدُّ من أمور البيوت وأهلها، فإذا أُخبروا بواحدٍ منهم وقَعَ في حاجة، أو انْشَغَلَ بموت قريبٍ له، أو وليمة زواج أو نسيكة ولدٍ، إذا بهم يتسابقون إلى العَطاء، وينضُّون بالبذل بقلوبٍ مرتاحة، ووجوه مستبشرة، لا يعيش الواحد منهم إلا من حيث هو عضو في جماعة حَيِّه، يشاركها أفراحَها وأتراحَها؛ ولا يستسيغ الواحد منهم أن يغلقَ عليه بابَ داره، ويصمَّ أُذنَه عمَّا يَهْتَمُّ له جارُه وينصَبُ.

    تذكرتْ عائلتَها الكبيرة، حين تجتمع أيام الأعياد والعُطَل، تختلطُ فيها ابتساماتُ جيل الجدود بحوارات جيل الآباء، بألعاب جيل الأحفاد، يوقِّر الصغيرُ الكبير، ويحدبُ الكبيرُ على الصغير.

    وتذكرتْ صاحباتها، آه من ذِكْرى صاحباتها، وآه من فِراق صاحباتها!

    مسحتْ "أسماء" خلسة دمعة جادتْ بها عينُها، وقد أخفتْ نصف وجْهها في مُحاذاة نافذة السيَّارة، فتكوَّنتْ من أنفاسها الحرَّى فوق الزجاج الصقيل طبقةٌ حجبتْ عنها الرؤية، كما تحجِبُ الغيومُ زُرقة السماء، وكما يسترُ الغموضُ الكثيفُ سحنةَ المستقبل الآتي.

    أأتركُ هذا كلَّه؟ أتسمحُ نفسي بالعيش بعيدًا عن وطني وأحبابي؟ ألن ينفطرَ قلبي حين يَفقدُ أسبابَ بقائه؟ ألن يضيع فِكري بين خَيَالات الماضي، وآلام الواقع؟ ألن ...؟

    وتقفز "أسماء" مِن مقعدها، حين ينتزعُها صوتُ أبيها القادم من بعيد من أفكارها:
    ها قد وصلْنا إلى المطار.

    وانشغلتْ "أسماء" عن أفكارها السوداء، وحُزنها الممض بإجراءات الدخول وتفصيلات الركوب.

    لكن ما أنْ أقلعتِ الطائرة نحو وِجْهتها البعيدة، حتى شعرتْ أسماء بقلبها يُنتزعُ من صدْرها، كما انْتُزعتْ عجلات الطائرة من فوق أرض الوطن، وهو يخفقُ خَفقان العصفور الجريح الواقع في فخِّ الصياد.

    وألقتْ أسماء نظرةَ وداعٍ من النافذة على وطنها المتنائي، وأحسَّت بحُبِّه يكبرُ في قلبها بمقدار ما كان حَجْمه يتضاءَلُ في عَينها، وهي تبتعد عنه.

    نزلت الطائرة بعد نحو الساعتين من الزمان، هي كلُّ ما يفصِلُ بين إفريقيا وأوروبا، وبين حضارة الشرق وحضارة الغرب، وتأخَّرت أسماء قليلاً، حتى لم يبقَ من الرُّكَّاب غيرها، وظلَّتْ مُتشبِّثَة بالطائرة، كما يتشبَّثُ الغريقُ بطوق النجاة، إلى أنِ افْتقدَها أبوها فرجعَ إليها؛ لينتزعَها من آخر مكان - تشعرُ بارتباطها العاطفي به - كما تُقتَطفُ الوردة من حِضْن الثرى، فهل يبقى لها غيرُ الذبول؟! وكانتْ لحظة الولوج إلى المطار كالبرزخ الزمني بين حال وحال.

    كلُّ شيء تغيَّر؛ الوجوه غير الوجوه، وكلامُ الناس غير الكلام، وحركاتهم غير الحركات، حتى الطقس يستثيرُ أحاسيسَ الغُرْبة من مكامنها!

    ودخلتْ أسماء في دوَّامة من الأحداث المتسارعة، لم تتركْ لها مجالاً للتفكير، ولا لخيالها مجالاً للانطلاق، كانت الصوَر تمرُّ أمامَ عينَيها متلاحِقة، كما تمرُّ صوَر السينما أمام مشاهدها؛ ابتسامة باردة على وجهٍ حازم هنا، وامرأة نصف عارية تعانقُ صديقًا لها هناك، جماعة من الشُّبان العابثين بأثواب مُزرْكشة غريبة، يتمايلون على أنغام الموسيقا التي تخترقُ آذانَهم، رجل جالس في قاعة الانتظار وعلى رُكْبتيه حاسوب محمولٌ قد انشغلَ بالنظر فيه عن الدنيا كلِّها، شاب بسترة داكنة يحثُّ الخُطى نحو الباب وهو مشغول بمكالمته الهاتفيَّة عن الكون من حوله.

    أحسَّتْ أسماء بالدوار، فأغلقتْ عَينيها، واستسلمتْ لهذه البيئة الجديدة التي اكتنفتْها مِن كلِّ جانب، وأطلقتِ العنان لآمالها؛ لعلَّها تخفِّفُ عنها شيئًا من وطْأَة القَلَق الذي يساورها.

    لم تلبثْ أسماء إلاَّ أيَّامًا قلائلَ، حتى جاء موعد الدخول المدرسي، كانت تعلمُ حقَّ العِلم أنَّ أخطرَ ما سيواجهها من التحدِّيَات في حياتها الجديدة سيكون في المدرسة.

    كانتْ تنتظرُ مشكلاتٍ في مناهج الدراسة ومُقَرَّراتها، أو في التعامُل مع الأساتذة الأوروبيين، وكانتْ تَخْشى ألاَّ تجدَ لها بين زميلات الدراسة صديقةً توافقُها في طباعها وطريقة تفكيرها.

    كانتْ تتوقَّع أشياءَ كثيرة من السوء بمكان، ولكنَّ شيئًا واحدًا لم تتوقَّعه، ولا خَطَر ببالها قطُّ.

    دخلت المدرسة إلى جانب أبيها، تكادُ تحتمي بشخصه من النظرات العابرة، التي تجزمُ في باطن نفسها بأنها تلاحقُها، وتوجَّها معًا إلى الإدارة؛ لتكميل إجراءات التسجيل.

    كانت المديرة غارقة في كُرْسِيِّها الوثير، وأمامها كومة من الأوراق المتناثرة، وما أنْ دخلتْ أسماء وأبوها، حتى رفعتْ إليهما عينين باردتين، فارغتين من كلِّ إحساس، وألقتْ عليهما تحيَّة أبردَ وأفرغ، كأنَّها كانتْ قد استعدَّتْ للقائهما بقراءة ما في ملف التلميذة من المعلومات.

    وبعد كلمات مُجاملة مُقْتضبة طلبت المديرة من أسماء أنْ تُغادرَ المكتب، وتنتظرُ أباها في القاعة المجاورة؛ لأنَّ لَدَيْها ما تناقشُ والدها فيه، وخرجتْ أسماء، واستسلمتْ من جديد لهواجسها التي لا تُطاق.

    مرَّت ساعة قبل أن يخرجَ الأب من غُرفة المديرة؛ شاحب السحنة، مُمتقع اللّون؛ كأنَّ رُوحه قد اختُطِفتْ مِن جَسَده، وبَقِي منها شيءٌ يسيرٌ تتحرَّك به أطرافُه، وأسرع نحو الباب وأسماء تلحقُ به.

    وما أن دَلَفا إلى السيارة، حتى ألْقَى إليها الخبرَ المفجِعَ:
    أسماء، أخبرتني المديرة أنَّ عندهم قانونًا يلزمُنا، أقصد: يلزمُكِ.

    ورفعتْ أسماء عينيها إلى أبيها في تُؤَدَة، فالتقتْ عيناهما، ووجَدَ الأب الفرصة سانحة ليُلقي كلماته في ألْطَفِ ما يقدر عليه من التعبيرات، وبأرقِّ ما لَدَيه من الحنان:

    أسماء، عليكِ أنْ تخلعي حجابَك إنْ شئتِ الالتحاق بالمدرسة.

    نزَلَ الخبرُ على رأس أسماء كما تنزلُ المطرقة الحديديَّة الضخْمة، فلا تتركُ من ورائها غير الدمارَ في المشاعر، والشتاتَ في الأفكار، والغصَّة في الحَلْق.

    واستدارتْ مرَّة أخرى إلى زجاج النافذة تتأمَّل الكونَ من ورائه، وسكتتْ وسكتَ أبوها، فليس عنده من الكلام ما يُفيدُ، بل ما بَقِي للكلام مجالٌ أصْلاً.

    كان الليل ساكنًا؛ فيه وحْشَة القبور، وضيق اليأْس، وقُبْحُ الظلم.

    كانتْ أسماء تتقلَّب على فراشها، ولا تكتحلُ عيناها بنومٍ، تناجي نفْسَها بصوتٍ مسموع تارة، وتُخْفِي هواجسَها في نفْسِها تارة أخرى، ثم إذا ضاقتْ عليها منافذُ الأمل، توجَّهتْ إلى ربِّها بالدعاء.

    ما أقدرَ هذا الذهنَ الصغير على تحمُّل هذا القرارِ الكبير!

    وهل هي تملك القرارَ أصْلاً؟ أليس القرار مُعَدًّا من قبل، أعدَّه أساطين الحريَّة الشخصيَّة، وأربابُ المنافحة عن حقوق الإنسان؟!

    أُفٍّ لكم ولحريَّتكم التي تقِفُ عند حدود شُقر الرؤوس، وزُرق العيون، ولا تتجاوزها إلى الذين تعدُّونهم بالكلام بشرًا مثلكم، وبالفعل حشراتٍ مُؤذية تتنافسون في سَحْقها!

    أفٍّ لشعاراتكم الجوفاء عن حقوق الإنسان، ألا ليتكم توضِّحونها بقيدٍ يصرفُ الجُهلاء من بني جِلْدتنا عن الاغترار بها! ليْتَكم تقولون: حقوق الإنسان الغربي أو الأوروبي، أو ما شِئتم من القيود!

    أليس من حقِّي - في أعرافكم ودساتيركم - أنْ ألْبَسَ ما أشاء من الثياب، وأُنْشِئ ما يحلو لي من التصرُّفات؟!

    ألستم تزعمون أنَّ للفرد حريَّته التامَّة؛ في مُعتقده وفِكره، وتعبيره وهَيْئته، ولباسه وأكْله وشُرْبه، ما دامتْ حُريَّته لا تتعارضُ مع حريَّة الآخرين؟! وهل حجابي الذي أضعه على رأْسي يعارضُ حريَّة زملائي أو أساتذتي في الدَّرْس؟!

    أنتم تقبلون في مجتمعكم العاهرة التي تبيع عفافَها لكلِّ ذئبٍ بشري، وتقبلون الراقصة العارية التي لا تردُّ يدَ لامسٍ، وتقبلون الممثِّلة في الأشْرطة الداعرة البهيميَّة - ولتعذرني البهائم - ثم لا تقبلون فتاةً تضعُ على رأْسها حِجابًا؟!

    في مجتمعاتكم شبابٌ متعصِّبون، يحلقون رؤوسَهم، ويَشِمون على سواعدهم صليبَ النازيَّة المعقوف، ويُثنون على زعماء الفاشية الذين قُتِل بسبب حماقاتهم ملايين الأوروبيين، ومع ذلك لم تتحرَّكْ حكوماتكم لسنِّ القوانين، وتجريم هذه الأعمال، أضاقتْ عقولُكم وقلوبُكم عن تقبُّل فتياتٍ مُهذَّباتٍ مُحجباتٍ، ليس في هيئتهنَّ عليكم من ضررٍ؟! ولكن، لِمَ ألومُكم؟!

    ليس الخطأ منكم، ولا العتب عليكم، ومتى عوتِبَ الذئبُ على قرمه إلى لحوم النعاج؟! أم متى لِيمَتِ السباع على افتراسِها ضعافَ الأنعام؟!

    وهل أنتم إلا عدوٌّ من الأعداء، كشَّر عن أنيابه منذ زمان بعيد، وأظْهَرَ لُؤْمَه وعَدَاوته كلَّما تمكَّن من ذلك؟! ومتى كان الذي بين الأعداء عتابًا وعذلاً؟!

    أنا ألومُ بعضَ حُكَّام المسلمين الذين يضطهدون المحجَّبات في بُلدانهم، فيكونون للأوروبيين قدوةً في الشرِّ.

    وألومُ المفكِّرين المنتسبين للإسلام، حين يهوِّنون من شأْنِ الحجاب، كأنَّه ليس من شريعة الله.

    وألوم المجتمعات الإسلاميَّة التي تتهالكُ على حضارة الغرب، وثقافة الغرب، وكلِّ ما يأتي من الغرب، حتى صِرْنا محتاجين إلى الغرب في كلِّ ما نُبْقي وما نَذر، وصار الغرب عنَّا في غنًى.

    وألوم الآباءَ الذين يُرسلون أبناءَهم إلى بلاد الكفر، فيَسلم القليلُ منهم بعد سنوات من المجاهدة والمدافَعة، ويضيع الأكثرون في مَهَامه الفِسْق، وفيافي الشبهات، فإذا مرَّت السنوات صِرْتَ ترى الرجل المقيم هناك ليس فيه من الإسلام غيرُ الاسم والعنوان، وشيءٌ من التقاليد البالية التي حَزَمها مع أمْتعته حين قَدِم إلى هذه البلاد، وهو يحسبُها من الإسلام، أو يظنُّها الإسلام كلَّه!

    ألومُ الآباء حين يصمُّون آذانَهم عن صَرَخات المستضعَفَين من المسلمين الذين يُفتنون في دينهم صباحَ مساء، ولا يَملكون لردِّ العُدوان عنهم حِيلة، ولا يهتدون سبيلاً.

    فإذا بهم يحتجون بمن سَلِم من الفتنة، ونجا بدينه، وهم الأقلُّ، ويغمضون أعينهم عن رؤية الهالكين، وهم الأكثر!

    وما بهؤلاء الآباء إلاَّ الانبهار بالغرب وثقافته؛ حتى إنَّ كثيرين منهم يُرسلون أبناءَهم للدراسة في تخصُّصات مشهورة، يوجدُ نظائرُها في بلاد الإسلام!

    ولو أنَّ الآباء - وهم مُؤتَمنون على أولادهم - عَلِموا أنَّ في مكان ما وباءً يَستشري، أو مَرَضًا ينتشر، لَمَا دَفَعوا بفلذات أكبادهم إلى ذلك الأتُّون المستعر؛ مَخافة أن يلتهمَ صحة أبدانهم، فكيف يهون عليهم أن يُرسلوهم إلى بلاد الغرب، وهم يعلمون أنها تأكلُ أديانَهم، وتُمْرِض قلوبَهم، وتُسَمِّم أفكارَهم؟!

    صَدَق رسولُ الله حين تبرَّأ من الذي يقيمُ بين المشركين، وهل تكون إقامة اختياريَّة إلاَّ بمودَّة وإخاء، وبنقضٍ لعُرَى الوَلاء والبَرَاء؟! وهل تكون إلا بتنازُلٍ عن شيءٍ من الدِّين؛ صَغُرَ أو كَبُرَ، وليس في الدِّين صغيرٌ؟!

    باتتْ أسماء ليْلَتَها بشرِّ حال، ولَمَّا أضاءَ الكون بشمسِ الصباح الوديعة، كان قلبُها لا يزال في ظُلمة كئيبة.

    ذهبتْ بصُحبة والدها إلى المدرسة، وبعد أنْ نزلتْ مِن السيارة، وودَّعتْ والدها بكلمة آلية فارغة من كلِّ شعور، تسلَّلتْ في بطءٍ إلى باب المدرسة.

    وهناك على الباب مدَّتْ يدَها اليُمْنى إلى عروة حجابها لتفتحَها، ويدُها اليُسرى إلى خَدِّها؛ لتمسحَ دمعة مهراقة، وضجيج التلاميذ يقرع الأسماع.

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Mar 2008
    المشاركات
    66

    افتراضي رد: حجابي (أصل المقال قصة من الواقع)

    بارك الله فيكم شيخنا عصام البشير ...
    قال يحيى بن معاذ :
    العقلاء ثلاثة : من ترك الدنيا قبل أن تتركه ، ومن بنى قبره قبل أن يدخله ، ومن عمل لله قبل أن يلقاه .

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •