الهَوامِل الهَدْلقيّة ..
تولّاك الله - أبا حيّان - بلُطفٍ منه حيث كنت .. وأعاذك من فتنة الباطل , ونَصَر بك الحق , وجعل ماأنت فيه من رفعةٍ شاهداً لك على حضيض شانئك , وما أنت عليه من كريم الطبيعة ذابّاً عنك لؤم شاتمك , ودفع عنك بما تعلمتَه هذه الحزازات الحاكّة , وبما دريتَه هذه اللجاجات الصاكّة , نعم .. وألهمك مواقع رشدك في أمورك كلها , حتى تكون حالك مقرونةً بالأفضل من قولك , ومعقودةً بالأمثل من عملك , وبعد : فكتابي - أيدك الله - نصصتُه إليك أسألك فيه عما بليتُ به في أيامي الفارطة من هذه الأنفس الذّبابيّـة , لم كانت تقع على الشيء فتتركَ أذاها ؟ ماالحامل لها على الوقوع , والنازع بها إلى الأذى ؟
ولم كانت مع هذه النّحيزة البغيضة والعلّة الدَّوِيّة أضعف من أن تثبت , حتى إنها ربما هربت من شَبَه الظّلّ ؟ وما السّر في أن بعض من أكرمه الله من بني آدم يأبى هذه الكرامة فلا يزال في ثُغاءٍ ورُغاء , وهو يعلم أن ذلك إنما هو من حِلية ذوات الأربع من هذا الهَمَل ؟
وما السبب في أنك تجد الغَمَر من الصِّبْية أصرحَ عقلاً من بعض من شاب عُثنونه ؟ وما بال الرجل يُشامُّ أهلَ العلم ويشرَكهم فيه ماشاء له الله , ثم إنه إذا تحدّث بعدُ أو كتب كان هو والأكّار من نَبَط السّواد كفرسيْ رهان , أعني في الجهل والحمق لا في السَّبَق والمضمار ؟
ثم - أبا حيان - ماهذا الشرّ الثّاجُّ من ثعَب هذه الأنفس المريضة ؟ والقيحُ النّازُّ من ثبَج هذه الذوات الكريهة ؟
حتى لترى أحدهم يكدح ليله ويتعب نهاره ويبري حاله ؛ ثم لايجعل وَكْده إلا في حرب أهل الفضل , والشغبِ على أرباب المروءات , وهو لو صرف شيئاً مما هو فيه إلى أن يعمل كما يعملون إذن لأنجح كما أنجحوا .. ماشأنه - لحاه الله - تشتدّ قدماه فتمشي الفراسخ إذا كان حاسداً وَضِر النفس , ثم إنها ترتخي مفاصله وتتثنى أطرافه - عياذا ً- فلا يقوى على أن يطفر الخطوة والخطوتين إذا هو سلك سبيل الخير .. حدّثني ؛ من أين - حرسك الله - مدده القوّة في الأولى ؟ وكيف - حماك الله - خذلانُه في الثانية ؟
هذا ما أنهاه الخاطر - أبا حيان - في هذه النازلة , وأما سجال العلم كما علّمتنا فإنما يكون مع أهل العلم , وأما من يلحن لحنَ الصّبية في المكتب , ولا يعرف حاقّ الهمزة من موضعها ؛ ويورد البيت ذكره أهل العلم في كتبهم كحصى البطحاء ثم لايقيمه على وجهه ؛ فما أحراه بالزّجْر والتجاهل حتى لا يتقحّم فيما يؤذيه من كبار العلم وعُظْم مسائله , وهو - والله - لن يظفر منا بما يحلم به من هذا ولو صرخ إلى يوم يبعثون .. وإنما كنتُ - أبا حيان - حُدّثتُ أنك قد وافيتَ بغداد منصرفَك خائباً من بعض من كنتَ قصدتَه ؛ فأحببتُ أن أتحفك بهذه الطريفة وزندك وارٍ يقدح شرراً على أهل النقص , وخبيئتك تتلظى غضباً من حال الردى ؛ علّنا أن نظفر منك بنادرةٍ تخلّد بها صاحبنا كما كنت جعلت الوزيرين أُضحوكةً في فم الزمان .. وكتب : عبدالله الهدلق , من القرن الخامس عشر من الهجرة , والناس على ماعهدتَ منذ ألفٍ ونيّف , مازادهم أمد الأيام إلا سوءاً على سوء , والسلام ..