مقارنة بين حديث زيد وحديث عائشة
قال رحمه الله تحت هذا العنوان ما مختصره :
(قد وردت القصة من حديث عائشة ، [أي كحديث زيد المتقدم لفظه] ولكن في حديث زيد زيادتان :
الأولى : ما فيه من ذكر تنحنح القوم ورفعهم أصواتهم وحصبهم الباب وغضب النبي صلى الله عليه وسلم .
الثانية : ما فيه مرفوعاً (فعليكم بالصلاة في بيوتكم ، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ) .
والزيادة الأولى تُفهِم أن صنيعهم ذاك هو الذي خشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يعاقبوا عليه بفرض قيام الليل في المسجد ، عليهم ؛ وأشار إلى ذلك البخاري [أي في تبويبه للحديث] .
والزيادة الثانية تُفهِم أن سبب احتباس النبي صلى الله عليه وسلم عنهم هو إرادة صرفهم إلى الصلاة في بيوتهم ، لأنها أفضل .
ولو خلا الحديث عن هاتين الزيادتين لكان ظاهره أن الصنيع الذي خُشي أن يترتب عليه الفرض هو مثابرة القوم على الحضور ، وأن سبب احتباس النبي صلى الله عليه وسلم هو إرادة قطع المثابرة قبل أن يترتب عليها الفرض .
والظاهر أن خلو حديث عائشة عن هاتين الزيادتين سببه أنها كانت في البيت إذ كان زيد في المسجد شريكاً في القصة ، وأن ذلك أدى إلى هذا الفهم على ما فيه ---.
قد يقال : إن هذا وإن استقام بالنظر إلى بعض روايات حديث عائشة فلا يستقيم بالنظر إلى بعضها [أي مما فيه تصريح أو شبه تصريح بسبب خشية الفرض وأنه المداومة] ؛ فأما الأول ---- ؛ وأما الثاني فما في الصحيحين وغيرهما من رواية مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة (--- فلما أصبح قال : قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم ، وذلك في رمضان) .
ففي هذه الرواية جاء التعليل من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ، فكيف يستقيم أن يقال : إنه إنما فُهم من حديث عائشة لخلوه عن الزيادتين الثابتتين في حديث زيد ؟
ثم أورد المعلمي على هذه الرواية إشكالان :
حاصل أولهما أن الصحابة معذورون في حرصهم على الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ، والفرض الذي خشيه النبي صلى الله عليه وسلم كان عقوبة بدليل قوله (ولو كُتب عليكم ما قمتم به) ؛ فكيف تكون المداومة على عمل مشروع فاضل سبباً لمثل هذا الفرض [أي الذي يعجزون عنه ويقصرون فيه ] ؟!
والآخر – وهو مبني على فرض أن أصل ذلك العمل مشروع وإنما تركه النبي صلى الله عليه وسلم لمانع وهو خشية أن يُفرض - : لماذا تركه - وقد زال المانع - أبو بكر في خلافته وعمر إلا في أواخر خلافته ، بل هو لم يقم بالناس في قيام رمضان في المسجد قط ؟!
وقال المعلمي في حق الإشكال الأول : (وقد أجيب عن هذا الإشكال أجوبة لا تسمن ولا تغني من جوع) .
وضعف ما أجيب به عن الإشكال الثاني ثم قال عقب أشياء ذكرها] :
(وهذا كله يثبت أن الصواب ما دل عليه حديث زيد ؛ فأما ما في رواية عروة فقد فتح الله علي بجوابين :
الأول : أن يقال أن هذا اللفظ الذي وقع في رواية عروة منسوباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليس هو عين اللفظ النبوي ، بل قد يكون اللفظ النبوي هو الذي وقع في حديث زيد أو في رواية عمرة ، فأما ما في رواية عروة فتصرف فيه الراوي على وجه الرواية بالمعنى على حسب فهمه .
والجواب الثاني : أنه على فرض أن ما وقع في رواية عروة هو عين لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ، فالتوفيق بينه وبين حديث زيد مع تجنب الإشكالين متيسر بحمد الله ، بأن يقال إنه صلى الله عليه وسلم احتبس عنهم أولاً ليصرفهم إلى الصلاة في البيوت لمزيد فضلها كما في حديث زيد ، ثم كأنهم [الأحسن كأنه] لما صنعوا ما صنعوا من التنحنح ورفع الأصوات وحصب الباب همَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يستجيب لإلحاحهم فيخرج فيصلي بهم ، لكنه خشي أن يكون في ذلك ما يؤكد شناعة صنيعهم ، لأنه يثبت بذلك أنهم اضطروا النبي صلى الله عليه وسلم إلى فعل ما يكرهه ولعل هذا يوجب أن يعاقبوا بأن يُفرض عليهم ذلك العمل ، فلم يخشَ ترتب الفرض على المواظبة بل على إلحاحهم إذا تأكدت شناعته باستجابته لهم ؛ فتدبر .
ولم أر من نحا هذا المنحى مع ظهوره ومع استشكالهم ظاهر ما وقع في رواية عروة ، فكأنهم احتاجوا إلى المحافظة على ظاهر ما في رواية عروة ليدفعوا أن يكون ما أمر به عمر بدعة --- ، وستعلم قريباً إن شاء الله تعالى ما يُغني عنه في دفع البدعة .