هل يشتغل بالدعوة للتوحيد في المجتمعات الخالية من الشرك الظاهر؟ مجتمع الصحابة نموذجاً.
يتوهم بعض من لم يقدر التوحيد قدره أن التوحيد لا يدعى إليه إلا في ديار عباد القبور، وسبب ذلك جهل هؤلاء بحقيقة دين المرسلين وبُعدُهم عن تعلم التوحيد، ومن ذاق عرف؛ فهل يقوم العباد لربهم بحقه إلا بالتوحيد، وهل يقوم العدل والقسط إلا بالتوحيد، وهل تتحقق قضية الوجود بغير التوحيد، وهل ينكف الناس عن الإصرار على المعاصي أو -على الأقل- عن المجاهرة بها إلا بتحقيق التوحيد، شاهد ذلك أنه لا يصر أحد على معصيةٍ إلا من محبته لغير الله ومحبته لما يبغض الله وتعلقه بغير الله من الشهوات والذوات وذله لغيره وخوفه من غيره أن يطلع عليه أو يعاقبه، وكلها معان تنافي كمال التوحيد الواجب.
وأنا ضارب مثلاً بأعظم مجتمع عرفه التاريخ توحيداً لله ألا وهو مجتمع الصحابة، هل انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دعوتهم للتوحيد وإعادة القول فيه وتنويع الأوامر به، والنهي عن ضده الناقض لأصله وضده المنقص لكماله الواجب وضده المنقص لكماله المستحب إلى أن ختمت حياته بقوله صلوات ربي وسلامه عليه وهو في السياق: "لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا". متفق عليه.
ومن الأحاديث المقررة لما تقدم:
عن أبي مسلم الخولاني قال: حدثني الحبيب الأمين أما هو فحبيب إلي وأما هو عندي فأمين عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم تسعة أو ثمانية أو سبعة فقال : ألا تبايعون رسول الله ؟ وكنا حديث عهد ببيعة فقلنا قد بايعناك يا رسول الله ثم قال ألا تبايعون رسول الله ؟ فقلنا قد بايعناك يا رسول الله ثم قال ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال فبسطنا أيدينا وقلنا قد بايعناك يا رسول الله فعلام نبايعك ؟ قال: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا والصلوات الخمس وتطيعوا -وأسر كلمة خفية- ولا تسألوا الناس شيئا فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا يناوله إياه. رواه مسلم (1043).
وعن عُبَادَةَ بْن الصَّامِتِ قال: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي مَجْلِسٍ: تُبَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِك. رواه البخاري (7213) ومسلم (1709).
وعن معقل بن يسار قال: انطلقت مع أبي بكر الصديق ¢ إلى النبي ‘. فقال: "يا أبا بكر! للشرك فيكم أخفى من دبيب النمل"، فقال أبو بكر: وهل الشرك إلا من جعل مع الله إلهاً آخر؟ فقال النبي ‘: والذي نفسي بيده، للشرك أخفى من دبيب النمل، ألا أدلك على شيء إذا قلته ذهب عنك قليله وكثيره ؟، قال: "قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم". رواه البخاري في الأدب المفرد (716).
وعن أبي موسى الأشعري قال: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ ‘ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا هَذَا الشِّرْكَ فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، فَقَالَ لَهُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ: وَكَيْفَ نَتَّقِيهِ وَهُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: قُولُوا اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيْئًا نَعْلَمُهُ وَنَسْتَغْفِرُك َ لِمَا لَا نَعْلَمُ. رواه أحمد (19606).
وقد خاف رسول الله ‘ على أصحابه الشرك الأصغر خوفاً عظيماً؛ فكيف بالشرك الأكبر؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ‘ وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ : أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ؟ قَالَ: قُلْنَا : بَلَى، فَقَالَ: الشِّرْكُ الْخَفِيُّ، أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي ، فَيُزَيِّنُ صَلاَتَهُ، لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ. رواه ابن ماجه (4204).
وعنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ‘ قَالَ: " إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ " قَالُوا: وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللهُ ¸ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ : اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً ". رواه أحمد (23630).
فإذا كان ‘ يخافه على أصحابه الذين وحدوا الله على جهة التحقيق، وهاجروا وجاهدوا وعرفوا ما دعاهم إليه نبيهم أكمل معرفة، فكيف لا يخافه وما فوقه من لا يدانيهم، ومن لا نسبة له إليهم في علم أو عمل؟.
قد يجهل بعض عوام المسلمين تلكم المكانة لتوحيد العبادة وتحقيقه ، أما أن يجهله أو يتجاهلة دكاترة جامعيون ودعاة جماهيريون وحركيون إسلاميون -كما يصفون أنفسهم-؛ فهذا مما لا يقبل ما داموا يبتغون خدمة الإسلام العتيق الذي أراده الله لعباده المؤمنين، وإلا فكشف حال هؤلاء جزء من برنامج دعاة التوحيد، لأنهم قُطّاع طريق دعوة التوحيد شعروا أم لم يشعروا، بل بعضهم يصرح بأن دعوة التوحيد تفرق المسلمين وتناقض مقتضى ما سموه فقه الواقع (!) وتشغل عن خطر اليهود (!)، وما علموا أن المسلمين ما خضعت لهم الأمم إلا بإقامة التوحيد والسنة في القلوب قبل الجوارح، وأن أعظم أسباب الذل الذي خيم على الأمة في العصر الحديث إنما هو تهاونها بالمظاهر الشركية وضعف إنكارها والأخذ على أيدي الذابين عنها المزينين لها.