نقض أكبر شبهتين عند المعطلة؛ دليل التركيب ودليل الأعراض وحدوث الأجسام
الأول: ما يسمونه بدليل التركيب، وهو شبهة للفلاسفة تلقفه عنهم المعتزلة، وهو عندهم في أربع مقدمات ونتيجة:
- المقدمة الأولى: الله هو القديم وما سواه محدَث.
- المقدمة الثانية: التوحيد إثبات قديم واحد.
- المقدمة الثالثة: إثبات الصفات بتعددها يجعل القديم متعدداً؛ لأن القديم إن كان له صفات فهي أجزاء، وإن كان له أجزاء فهي قديمة؛ فيتعدد القدماء.
- المقدمة الرابعة: التعدد تركيب، أي يجعل الإله مركباً من الذات والصفات، والتركيب من خصائص المحدَث.
النتيجة: نفي الصفات توحيد؛ فالله ينزه عن إثباتها؛ بأن تُجعل الصفات هي عين الذات، أو الصفة هي عين الصفة الأخرى.
وهذا باطل من أربعة وجوه:
- أن الله الذي نفى عن نفسه الشريك والأنداد؛ يصف نفسه في كتابه بالصفات العديدة في السياق الواحد، وكتابه مليء بصفات كماله، وقد كان مشركو العرب الفاهمون للخطاب جاهدين في معارضة الكتاب الذي جاء به محمد ‘؛ ولو كان فيه ما يدل على التشريك لما قالوا: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) (ص: 5 ).
- أنه قد علم بالضرورة عدم وجود ذات مجردة عن الصفات؛ فإن من المحال وجود ذات في الخارج غير موصوفة، والصفة إذا ثبتت لموصوف– كالقدم على قولهم - ليست تستقل بذاتها، وليس القدم من خصائص الذات المجردة.
- أن الصفات ليست أعياناً قائمة بنفسها، بل هي معان تقوم بالذوات لا تنفصل عنها، ولهذا شرع للعبد أن يستعيذ بصفات الله تبارك وتعالى لأنها لا تقوم بنفسها؛ فوصفُ الصفات بالقدم لقدم الذات التي تقوم بها هذه الصفات؛ ذاتية كانت أم ذاتية فعلية؛ فإنه سبحانه متصف بها في الأزل.
- أن هذا الذي سموه تركيباً إصطلاح اصطلحوه من عند أنفسهم محدَثٌ؛ ولو صح تسميته بالتركيب؛ فلا دليل لهم على نفيه، وتعبيرهم بالقدم في حق الله لم يدل عليه دليل، وليس هو أخص وصف الإله كما يزعمون بل أخص وصفه مالا يتصف به غيره مثل كونه الأول و رب العالمين.
ثم هاهم هؤلاء المعتزلة يثبتون لله صفة الوجود ويجعلون له الوجود الواجب، وينفون عن وجوده مماثلة وجود الممكنات؛ فيلزمهم على قاعدتهم إثبات إلهين أو قديمين فيكونون مشركين؛ فوقعوا فيما فروا منه شأن كل معطل.
الثاني: ما يسمونه بدليل الأعراض وحدوث الأجسام، وهو عندهم في ثلاث مقدمات ونتيجة:
- المقدمة الأولى: الصفات أعراض وأفعال حادثة.
- المقدمة الثانية: الصفات لا تقوم الإ بجسم؛ فلو قامت الصفات بالله لكان جسماً ولقامت به الحوادث.
- المقدمة الثالثة: الله منزه عن قيام الحوادث به؛ لأن مالا يخلو من الحوادث فهو حادث.
والله منزه أن يكون جسماً؛ لأن الأجسام متماثلة، والله لا يماثل غيره.
النتيجة: الله ينزه عن الصفات لئلا يكون جسماً، ولئلا تقوم الحوادث به.
ويقررها على هذا النحو نفاة جميع الصفات وهم الجهمية والمعتزلة، ويقررها دون المقدمة الأولى والثانية نفاة أفعال الله الاختيارية وهم الأشاعرة، إلا أنهم يخصون استلزام التجسيم وقيام الحوادث بالله في إثبات الصفات التي ينفونها وهي ماخلا الصفات السبع التي يسمونها صفات المعاني.
و جوابه: أن العرَض لفظ مبتدَع، وتسمية الصفات أعراضاً ابتداع منهم.
وأما قولهم : إنا لا نجد في الشاهد موصوفاً بالصفات الإ ما هو جسم؛ فهي مقدمة فاسدة؛ إذ إنه ثمة أشياء توصفُ وليست أجساماً، كالملائكة و الجن وكما يقال: ليل قصير، وبرد شديد، وريح عاتية، ومحبة قوية، وعلى التسليم بها؛ فإن الله أثبت قيام الصفات والأفعال بذاته؛ فإن كانت هذه صفة الأجسام؛ فالله لا ينزه عنها؛ لانها معنى يجوز في حقه.
وأما عدم تماثل الأجسام وتباينُها فهو معلوم بالضرورة لكل عاقل، وقد لازمَ قول هؤلاء بتماثل الأجسام؛ تسميتهم مثبتي الصفات مشبهةً وإلزامهم بالتشبيه، لما سبق من أن إثبات الصفات عندهم تجسيم وما كان جسماً فهو يماثل جميع الأجسام، ولا عبرة بذلك؛ إذ لا حجة بإطلاق لم يأت به الشرع، كيف وهو مبني على اعتقاد باطل عقلاً وشرعاً.
ولفظ الجسم في حق الله نتوقف فيه؛ لأنه لم يرد في النصوص إثباته أو نفيه.
وأما قولهم: إن إثبات الصفات يستلزم قيام الحوادث بالله؛ فجوابه: أن الله أثبت لنفسه الصفات، ومما أثبت: صفاته الفعلية، وأفعاله سبحانه تتعلق بمشيئته؛ فتكون آحادها حادثة، كما قال الله تعالى: (وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)( الأعراف: 143)، و في حديث الشفاعة قول رسل الله عليهم الصلاة والسلام: " إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله "، فالله أخبر عن نفسه بالصفات الفعلية على معنى التجدد و الحدوث، وما كان حادثاً امتنع ان يكون قديماً، وما كان ممتنعاً لم يكن عدمه حال امتناعه نقصاً؛ لأن النقص هو فوات الكمال الممكن ليس هو فوات ما يمتنع.
وإنما سمي حادثاً بالنسبة للقديم عنه، كما دل لذلك قول الله تعالى: (مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (الأنبياء: 2 ).
وأما ما يفهمه المتكلمون من أن المحدَث هو المخلوق؛ فالله ينزه أن تقوم الحوادث به إن أُريد أنه يحل في ذاته شيء من مخلوقاته المحدَثة.