ورَحَلَ خليلُ العصر ورِئبالُ الدار
وأستاذُ الجيل

طالعتنا الأنباء بما يَقُضُّ المضاجع، ويُذْهِلُ العقولَ، ويُذهِبُ الكَرَى عن الأجفان، بمَوْتِ العالم الهُمام ، والذي ربا في عطائه على الغمام،الفارس المغوار، الذي لا يُشَقُّ له غبار، مات أستاذُ الجيل ، والعالم الكبير ، صاحب الرأي الحر، والشجاعة النادرة، والقلم الملهم، والفكر القويم.
رحل عالمنا وأستاذنا، وبقية السلف الصالح ،رحل الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين – رحمه الله تعالى-، فزلزل رحيلُه النفوسَ، وأتعب فراقه القلوبَ، وأبكى موتُه الأفئدة، لله أنت يا علامة العصر،وخليل الفكر، وسيبويه اللسان ، عهدناك فارسا رئبالا، حتْفَ الكلمة الشَّرُود، يا مَنْ أسعدْتَ المنابر، وأتحَفْتَ المجالس، بفيض علمك ، وواسع فكرك، وبُعْد نظَرِك، كم شنَّفْتَ الآذانَ في الندوات، والمؤتمرات، والمحاضرات، واللقاءات، وعلى المنابر، وخصوصا منبرَ جامعِ "عمرو بن العاص"، وكنا نستمع إليك تهزُّ المنابر هزا،وتتقاطر الفصاحة من بين ثناياك، ويأتيك اللفظ رقراقا يتباهى على فمك ،ويبسم على محياك، وأنت تصوغ العبارة بكل لون، ربِّي- سبحانه- آتاك، يا حسرتنا على رحيلك أيها الأسد الهصور، والغضنفر الذي عَبَّدَ طريق اللغة، وأنهَجَ سُبُلَها، فصارت متنا سهلا ذَلولا، يامَنْ ربَتْ مؤلفاته على السبعين، وجاءت في مختلف المجالات والفنون، فإذا رميْتَ بطرفك إلى الدراسات القرآنية وجدته متفرِّدا ، وإذا يمَّمْت وجهك تجاه القراءات القرآنية ألفيته رائدا، فإذا نظرت إلى الدفاع عن القرآن والسنة وجدته على القمة متوسدا، ، وإذا رمت فصيحا لسنا وجدته للسانة منجدا، والسيد الماجد، وللفصاحة وقمم البيان قائدا، وكتبه أمامه تراها عن اقتداره منبئةً، ودليلا ،وشاهدا، فمِنْ كتبه: (العربية لغة العلوم والتقنية)، و(مفصل آيات القرآن) في عشرة مجلدات، ومجموعة
( نساء وراءالأحداث)، وهو عشرة كتب كذلك، و(دستور الأخلاق في القرآن)، و(تاريخ القرآن)، وشارك زوجَهُ المَصُون"في التأليف ، إذ حيث أخرجا معا موسوعة "أمهات المؤمنين"،
و "صحابيات حول الرسول" وهو في مجلدين، ويُنسب إليه – وهذا حق - توليدُهُ وتعريبُه لمصطلح) حاسوب)، وهو المقابل العربيُّ لكلمة (كمبيوتر) ، والذي أُقِرَّ من قبَل مَجْمَعِ اللغة العربية.وله العديد من الأسفار المترجمة، والأحاديث المتلفزة ، وإذاعة القرآن الكريم خير شاهد على جهوده، حيث كنا ننتظر حديثه الذي يطوِّف فيه في البلاغة، والإعجاز، وبيان الحق من أقرب طريق، وأوضحه، وأفصحه.
وكان منذ سلوكه طريق العلم قد وقَفَ أنفاسَه على خدمة كتاب الله، وليس أدلَّ على ذلك من رسالته للدكتوراه التي حصل عليها فى موضوع "القراءات الشاذة في القرآن الكريم" حتىوصل إلى درجة الأستاذية،عن جدارة واحتراف، ويُعَدُّ راحلنا المفدَّى، ووالدُنا الكبيرُ من أشهر الدعاة والمفكرين بمصر والعالم الإسلامى،وكانت خطبته الأسبوعية الشهيرة التي كنا نستمع إليها بكُلَنا وبكامل ذواتنا- بمسجد عمرو ابن العاص أكبر وأقدم مساجد مصر- كانت خير زادٍ لنا على خوض طريق الحياة عن بصيرة وفهم.
كان الدكتور شاهين قمةً لا تُسامَى من قمم الفكر الإسلامي والإنساني، وله مواقف لا تُنْتَسَى ،وله بصماته العلمية والفكرية على الساحتين المصرية والعربية، وهو السبب الذي جعلني أصعد المنابر، حيث كلَّفني أن أخطب الجمعة في كبريات المساجد، وألَحَّ عليَّ في ذلك، وكنتُ يومها معيدا، لم أزل أدرج في دنيا المحاضرات، ولم أصعد قطُّ منبرا، إلا بعد أنْ شدَّ من أزري، وبيَّنَ لي خطورة عدم تبليغ الدعوة، وإثم البعد عن اعتلاء المنابر مع المقدرة، وأن يقول الإنسان لله كلمة قبل الرحيل، وحتى يلْقَى الله وقد قال له – جل جلاله - في الأرض كلمة، وكان قد أمدَّني ببعض كتبه في الخطابة، وتابعني إلى أن رسَخَتْ منِّي القدَمُ في هذا السيبل ، وما تأخَّر عن عقدي قراني على الرغم من أني كنت معيدا صغير السن ، مغمور الشهرة والذِّكْر، وكان الدكتور شاهين في قمة الشباب والزهو، وتتطلبه، بل تتخطفه الإذاعات من كل حدب وصوب، وتتزلف إليه أن يتحدث فيها دقائق معدودات إلا أن الأستاذ الكبير- رحمه الله- آثر أن يفرغ وقته وحضر ليعقد لي قراني، وتكلم كلاما أثلج الصدور ، وأسعد الحضور، وكان إذا زرته في مكتبه العامر بكليتنا العريقة- أحسست أنك أمام جبل من جبال العلم،وأسطون من أساطين الفكر، وبين يديْ والد حَنون،يداعبك باللفظ، ويُهديك من باقات العلم، وكان ينحت كلمات وجملا تُعَدُّ وقفا عليه، وكان الوقت يمضي معه كأسرع ما يكون، ولم تكن تشبع من حديثه حديثِ العلماء.
مات سيبويه العصر، وأسد دار العلوم، وصاحب اللسان القويم والفكر المتزن المستقيم، والرجل الذي فقدتْه – بحقٍّ وصِدْقِ- دارُ العلوم، دار الأسود الرَّآبيل، وراحَ منها ركنٌ ركين، فاللهم بحقِّ نُبْلِ هذا العالم، وبحقِّ ما قدَّم لأمته، ودينه أن تقبله في عِلِّيِّين، وأن تكتبه في المقرَّبين، وأن تجعله ممن قلت فيهم:" ياعبادي لاخوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون"، وممن قلت فيهم:" ادخلوها بسلام آمنين"، وممن قلت فيهم:" وسقاهم ربهم شرابا طهورا"، اللهم أنزل على قبره الضياء والنور، والفسحة والسرور، واجعله من المصطفيْنَ الأخيار الذين أخلصتَهم بخالصةٍ ذِكْرَى الدار ، واجعله من أهلك وخاصتك، يامجيب الدعاء، ويا محقق الرجاء، اللهم ألهمْ أهله، وأبناءه، وطلابه، ومدرسته الصبرَ والسلوان، وبارك فيمن بقي من أساتذتنا الكبار، ومُدَّ في حيواتهم ، وأطل في أعمارهم، وسدِّدْ خطواتِهم ، ووفِّقْهم في مسيرتهم ،وارفع منْ أقدارهم جميعا يا رب العالمين، ولا نقول إلا ما يُرْضِي ربَّنا :"إن العين لتدمع ، وإن القلب ليحزن، وإنا لفراقك يا أستاذنا لمحزونون، والحمد لله الذي لا يحمد على مكره سواه، وفي ذمة الله، يا خليل العصر،وأستاذ الجيل، ورِئبال الدار، وفارس القول.

د جمال عبد العزيز أحمد
قسم النحو والصرف والعروض
كلية دار العلوم -جامعة القاهرة