وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الأخ أبا زكريا: هل الإشكال في صحة التصريح بالسماع، أم في تعارضه -وهو صحيح- مع نفي السماع -وهو صحيح أيضًا-؟
هذا عرضٌ للمسألة -فيما ظهر لي-:
1- صحَّ عن شعبة بن الحجاج، وسفيان بن عيينة؛ نَقلُهما عن عمار الدهني حضورَه سعيدَ بنَ جبير، وسؤاله إياه، وصرَّح شعبة في روايته بقول عمار: (سمعت سعيدَ بنَ جبير).
2- نَقلُ هذين الإمامَين هذا عن عمار الدهني مقبولٌ صحيح، ولا يجوز ردُّه إلا:
- بتكذيبهما، وهذا باطل قطعًا،
- أو بتوهيمهما، وهو باطل -أيضًا-؛ لاتفاقهما وهما حافظان إمامان، وأحدهما من أعظم المعتنين بالسماعات واتصال الروايات والانقطاع، وهما يرويانه عن عمار الدهني مباشرةً دون واسطة، وليس شعبة مدلِّسًا -حاشاه-، وابن عيينة لا يدلِّس إلا عن الثقات،
- أو بتكذيب شيخهما (عمار الدهني) أو توهيمه، وهذان كَسَابِقَيهما؛ لأن عمارًا يحكي قصَّةً وَقَعت له، وسؤالاً وأخذًا وردًّا مع سعيد بن جبير، وهو ثقةٌ مقبولُ الرواية مُصَدَّق -باتفاق الأئمة (يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، والعجلي، والنسائي، وأبي حاتم، وابن حبان)-، ولم يُتَكَلَّم في حفظه بشيء.
3- لا توجد أي إشكالات في رواية ابن عيينة وشعبة، ولم يختلفا في شيءٍ إلا:
أ- في تسمية الصحابي؛ جعله شعبة حذيفة، وجعله ابنُ عيينة ابنَ مسعود، وخفّة حفظ شعبة للأسماء أمرٌ معلوم مشهور، وقد خالفه في هذه القضية بخصوصها -إلى جانب سفيان بن عيينة-: عبيدة بن حميد، فثبت أنه هو المخطئ، وهذا لا يؤثر على روايته بشيء، فالخطأ في موضعٍ من الرواية لا يلزم منه الخطأ في موضع آخر، وإن كان هذا قرينةً على ذلك في حال كونه مخالَفًا في الموضع الآخر -أيضًا-، وشعبة هنا موافَقٌ في الموضع الآخر، بل انفرادُه به كافٍ؛ لعنايته التامة بمسائل السماع والاتصال والانقطاع.
ب- واختلفا في تعيين السائل (في السؤال الأول فحسب)، وهذا لا يخلو من أن تكون كلا الروايتين خطأ، أو كلاهما صواب، أو إحداهما خطأ والأخرى صواب.
وسواءً حكمنا بأيٍّ من الاحتمالات الثلاثة؛ فإن هذا لا أثرَ له البتةَ على اتفاقهما على أن عمار الدهني حضر ذلك المجلس، وسمع سعيدَ بنَ جبير يجيب فيه على السؤال الأول، وسألَه السؤالَ الثاني، وسمع جوابه عليه.
وسبق توجيه اختلافهما بأن التجوُّز في مثل هذا معلوم لمن سبر الروايات وعاينها وجرَّبها، وأن الأرجح: كون السائل هو عمار الدهني نفسُه؛ لأن شعبة وابن عيينة متَّفِقان على أنه هو السائل في المرة الثانية.
4- لا يصحُّ -تجرُّدًا وإنصافًا- التعلُّق بأيٍّ من هذين الموضعَين اللذَين اختلف فيهما الراويان لإبطال الرواية من أصلها، أو التشكيك فيها.
ومن أبسط قواعد المصطلح: أنه لا يُحكَم بالاضطراب مع إمكان الترجيح.
5- توبع شعبة وسفيان بن عيينة على ذكر مجالسة عمار الدهني لسعيد بن جبير، وسماعه إياه؛ تابعهما أبو صخر الخراط، وعبدالله بن عياش، وإن كان الرجلان متكلَّم فيهما.
6- بعد صحَّة تصريح عمار الدهني بسماعه من سعيد بن جبير، وردت حكايةٌ حكاها عبيدالله بن عمر القواريري عن أبي بكر بن عياش، نقل فيها أنه سأل عمارًا الدهني: سمعتَ من سعيد بن جبير شيئًا؟ قال: (لا).
وهذه القصة صحيحةُ الإسناد إلى أبي بكر -كما سلف-، إلا أنه يَعتَوِرُها أمران -سبقت الإشارة إليهما-:
أ- عدم التسليم بصحَّة ما ذكره أبو بكر بن عياش:
فإن مؤدى حكايته: أن عمارًا الدهني يقول: (لم أسمع سعيدَ بنَ جبير)، بينما هو يقول في رواية شعبة وابن عيينة: (سمعت سعيدَ بنَ جبير).
وأبو بكر بن عياش لا يقاس بشعبة وابن عيينة أبدًا، بل هو إلى جانبهما في مَصافِّ الضعفاء، وهو صاحب أغلاط وأخطاء كثيرة جدًّا (كما نَصَّ عليه الإمام أحمد)، ثم لما كبر ساء حفظه، وازدادت أوهامه.
ومن ثم؛ فتوهيم أبي بكر بن عياش أولى من توهيم الثقتَين الحافظَين المتَّفِقَين شعبة وابن عيينة، خاصةً مع اهتمام شعبة بقضايا السماع -كما سبق مرارًا-.
ولا شَكَّ أن وهمَ أبي بكر احتمالٌ قائمٌ غير مُستَبعَد، ووجهه: أن يكون وَهِمَ في تسمية الرجل الذي سألَه عن سماعه من سعيد بن جبير في تلك الحكاية؛ فإن من القريب جدًّا أن يَهِمَ مَنْ كانت هذه حالُهُ في كثرة الخطأ والغلط في تَسمية مَنْ يَلقاهم وتجري له الحوادِث معهم، خاصةً إذا تباعَد عهدُه بالحادثة التي يحكيها -وهو أمرٌ محتمل في حكايته هذه (لم أجد روايةً للقواريري عن أبي بكر بن عياش إلا هذه الحكاية؛ فهل ترك الروايةَ عنه لأنه لما جاءه وَجَدَه فاحِش الغَلَط بعدما كبر؟ لهذا وجه، والذي لا يكاد يُشَكُّ فيه أن القواريري سمع أبا بكر بن عياش وعُمْرُ أبي بكر نحو 70 سنة أو أكثر، وبينه وبين وفاة عمار الدهني نحو 38 سنة على الأقل)-.
وأوهام الرواة في أسماء شيوخهم، وتعيينهم، وإدخال حديث بعضهم في بعض= أشهر من أن تُذكر.
فكيف وقد خالف أبا بكرٍ هنا إمامان حافظان؛ فنقلا بما لا لَبسَ فيه أن عمار الدهني يصرِّح بسماعه سعيدَ بنَ جبير، وحضوره مجلسَه؟
وربما اعتُرِض على هذا بأن أبا داود السجستاني حكى حكاية أبي بكر بن عياش، ومشَّاها، ولم يتكلَّم فيها، فلِمَ لم ينبّه على وقوع الخطأ فيها إن كانت خطأً؟
والجواب عن هذا: أن أبا داود إنما كان يصف جانبًا من حال أبي بكر بن عياش، وهذا ظاهرٌ جدًّا في سياقه النَّصّ، وفي تقديمه له بقوله: (كانت لأبي بكر بن عياش صولة)، ومن ثم؛ فقد حكى هذه الحكاية كما جاءت؛ لأن نظره لم يكن إلى ثبوت ما ورد فيها، بل إلى إفادتها أنه "كانت لأبي بكر بن عياش صولة".
ب- على التسليم بصحة ما ذكره أبو بكر بن عياش:
فالجواب عن هذه الحكاية ظاهر، وهو ما كان أبو داود يُلمِح إليه، بل كاد أن يُصَرِّح.
فـ"صَولَة" أبي بكر بن عياش، وجلالته، وهيبته، وجُرأته؛ هي التي جَعَلت عمارًا الدهني يجيب بنفي سماعه من سعيد بن جبير، ومن ثم قال له أبو بكر: (اذهب بسلام) -حسب سياقة أبي داود-.
وهذا مقصود أبي داود من سَوق هذه الرواية أصلاً، وإلا فليس ثَمَّ فائدةٌ من سَوقها تدليلاً على أنه "كانت لأبي بكر بن عياش صولة".
وإذا تقرَّر لدينا مما سبق أنه صحَّ أن عمارًا صرَّح بسماعه من سعيد بن جبير لشعبة وسفيان بن عيينة؛ فإنه لا شَكَّ في أن "صولة" أبي بكر بن عياش هي ما دعا عمارًا إلى أن يحكي خلاف الواقع:
فالخوف والرهبة مع المفاجأة قد توقِع في هذا عن غير قصد،
واحتمال التورية قائم، فربما أراد أنه لم يسمع منه كل حديثه، أو لم يسمع منه شيئًا معيَّنًا، أو نحو ذلك.
وهذه الاحتمالات لا تُساق هكذا ابتداءً، وإنما هي نتاجٌ لازمٌ للسياق الذي يبيِّن أن عمارًا الدهني كان في موضعٍ يَوْجَلُ لديه الرواة ويهتابون، مقرونًا بذلك تصريحُ عمار بالسماع في موضعٍ آخر لم يكن فيه وجِلاً ولا مُهتابًا.
وقد يُخالِف الراوي حكايةَ الواقع لأمرٍ يراه مسوِّغًا لذلك؛ كما فعل حميد حين سأله شعبة عن حديث: أسمعتَه؟ قال: (أحسب)، وهذا شكٌّ أوجب لشعبة أن يطرح الحديث ويتركه؛ حيث أشار بيده، يعني: (لا أريده)، فلما ذهب شعبةُ صرَّح حميدٌ بأنه قد سمعه، وقال: (ولكنه شَدَّد عليَّ فأحبَبتُ أن أُشَدِّد عليه)، وفي لفظ: (أحببت أن أفسده عليه).
فلهذا الغرض استجاز حميد أن "يفسد الحديث" على شعبة.
وبغضِّ النظر عن صحة هذا التصرف من عدمه؛ إلا أن هذا يدلُّ على إمكان وقوع مثل ذلك، وعدم استبعاده.
ومنه ما أشار إليه أبو داود، من أن عمارًا الدهني ترك التصريح بالسماع تَهيُّبًا لصولة أبي بكر بن عياش وجلالته.
تنبيه: تبيَّن لي أن الجواب الآخر على التسليم بصحة الحكاية (وهو أن عمارًا ربما لم يكن سمع سعيدَ بنَ جبير أولاً، وحكى ذلك لأبي بكر بن عياش، ثم سمعَه بعدُ) غلطٌ لا يصح؛ لأن من الثابت المؤكَّد: أن أبا بكر بن عياش لم يسأل عمارًا الدهني إلا بعد وفاة سعيد بن جبير بدهر، فلا يمكن أن يعود عمار فيسمع منه بعد ذلك.
هذا ما لدي، والله -تعالى- أعلم.