تمهيد
ويحتوي على :
· تعريف الكلام في: "اللغة"و "اصطلاح المتكلمين".
· كيف ظهرت الجهمية ؟
· كيف ظهرت المعتزلة ؟
· كيف ظهر القول بخلق القرآن ؟
· تعريف الكلام في: " اللغة "و " اصطلاح المتكلمين ".
· تعريف الكلام في اللغة :
الكلام في لغة العرب التي نزل بها القرآن كما يقول ابن فارس([1]) - رحمه الله تعالى - :
" يدلُّ على نطقٍ مُفهِم , تقول: كلّمته أُكلّمه تكليماً؛ وهو كَليمِي إذا كلّمك أو كلَّمتَه". ([2])
فقوله : "نطق" : للدلالة على أنه لفظ اللسان , وقوله : "مفهم" : للدلالة على كونه معنى .
· حقيقة المتكلم :
والمتكلم : اسم فاعل من "التكلم". وهو من قامت به صفة الكلام , فبها صار متكلما , والعقلاء متفقون على أن الحركة إذا قامت بمحل صح وصف المحل بكونه متحركا , وإذا قام العلم بمحل صح وصفه بكونه عالما , وكذلك كل صفة , فالكلام صفة , إذا قامت بموصوف سمي "متكلما".([3])
· أما الكلام في اصطلاح المتكلمين :
فقد عرفه ابن خلدون بقوله :
" علم الكلام : وهو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية، بالأدلة العقلية، والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة ". [ انظر : مقدمة ابن خلدون ]
· كيـف ظهـرت الجهـمية ؟
كان أساس البلاء وسبب الشقاء ، وحامل لواء مقدمي الآراء على كتاب الله وسنة رسوله r: هو الجهم بن صفوان الخرساني ، الذي توفي في نهاية الربع الأول من القرن الثاني الهجري .
والجهم بن صفوان استمد فكره من طريقين :
طريق يهودي والآخر وثني ، فقد تربّيَ الجهم بن صفوان على يد أستاذه الجعد بن درهم الذي أخذ أفكاره وآراءه من أبان ابن سمعان الذي تعلم من طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم وتلميذه ، ولبيد هو الساحر اليهودي الذي سحر النبي في مُشْطٍ ومُشَاطةٍ , فهذا الساحر اليهودي هو أحد المصادر الأساسية ، لفكر هذا الجهم وأتباعه الجهمية ، فعقائد الجهم ونظرياته تنبع من أسس يهودية ، بعيدة عن كل البعد عن العقيدة الإسلامية ، استقي أفكاره من الفلاسفة القدماء للديانات اليهودية .
أما الطريق الثاني الذي استمد منه الجهم بن صفوان فكره ، فهو طريق وثني ، فالجهم كان كثير الخصومة والكلام ، ولقي أناسا من المشركين ، فلما عرفوا الجهم قالوا له : نكلمك ونناظرك ، فإن ظهرت حجتنا عليك ، دخلت في ديننا ، وإن ظهرت حجتك علينا ، دخلنا في دينك ، - والجهم عامي مسكين ليس له باع أو قدم بين المتناظرين - فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له : ألست تزعم أن لك إلها ؟ قال الجهم : نعم ، قالوا له : فهل رأيت إلهك ؟ قال : لا ، قالوا : فهل سمعت كلامه ؟ قال : لا قالوا : فهل شممت له رائحة ؟ قال : لا ، قالوا : فوجدت له حسا ؟ قال : لا قالوا : فما يدريك أنه إله ؟ فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوما.
ثم استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى ، فقال الجهم لمن ناظره من السمنية : ألست تزعم أن فيك روحا ؟ قال السمني : نعم فقال له : هل رأيت روحك ؟ قال : لا ، قال : فسمعت كلامها ؟ قال : لا قال : فوجدت لها حسا ؟ قال : لا ، قال : فكذلك الله لا يري له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحه وهو غائب عن الأبصار وهو في كل مكان ، فالمخلوقات بمثابة الجسد والله في داخلها بمثابة الروح .
قال أبو القاسم اللالكائي : ( ولا خلاف بين الأمة أن أول من قال القرآن مخلوق جعد بن درهم ، ثم جهم بن صفوان ).
فالجهم بن صفوان إليه تنسب طائفة الجهمية , والجعد بن درهم قتل حدا وذلك لكفره الصريح بآيات الله وتكذيبها ، قتله خالد بن عبد الله القسري أمير بلاده في عيد الأضحى ، حيث خطب الناس وقال : ضحوا تقبل الله ضحاياكم ، فإني مضح بالجعد بن درهم ، فإنه يزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما ، ثم نزل فذبحه ، وكان ذلك بعد أن استفتي علماء زمانه من السلف الصالح .
ويذكر الذهبي : ( أن الجعد بن درهم هو أول من ابتدع بأن الله ما اتخذ إبراهيم خليلا ولا كلم موسى وأن ذلك لا يجوز على الله .... ) .
والجهم بن صفوان انتقل إلي ترمذ أحد البلدان في إيران ، وبدأ الدعوة لمذهبه ، فانتشرت فيها عقائد الإنكار والتعطيل لكلام الله ، ثم وجد لدعوته أتباعاً ومريدين من العامة والدهماء والجاهلين ، في مدن أخرى من مدن إيران ، ثم انتشرت أفكاره في بغداد وبقية البلدان .
فالجهمية فرقة ظهرت في أواخر الحكم الأموي مؤسسها الجهم بن صفوان الترمذي السمرقندي ، الذي تربي على يد أستاذه الجعد بن درهم ، وأخذ عنه أسس أفكاره ، وكانت جذور أفكار الجعد وآرائه يهودية، أخذها من أبان بن سمعان عن طالوت عن لبيد بن الأعصم ، والجهم مات مقتولا ، قتله سالم بن الأحوز في آخر أيام الدولة الأموية .
قال أبو نعيم البلخي وكان قد أدرك جهما : كان للجهم صاحب يكرمه ويقدمه على غيره فإذا هو قد هجره وخاصمه ، فقلت له : لقد كان يكرمك ، فقال : إنه جاء منه ما لا يتحمل بينما هو يقرأ سورة طه والمصحف في حجره إذ أتي على هذه الآية : } الرحمن على العرش استوي { ، قال : لو وجدت السبيل إلي أن أحكها من المصحف لفعلت فاحتملت هذه ، ثم إنه بينما يقرأ آية أخرى إذ قال : ما أظرف محمدا حين قالها ثم بينما هو يقرأ القصص والمصحف في حجره إذ مر بذكر موسي عليه السلام فدفع المصحف بيديه ورجليه ، وقال : أي شيء هذا ؟ ذكره هنا فلم يتم ذكره وذكره هنا فلم يتم ذكره .
هذا هو المنهج الذي اتبعته المعطلة إلي يومنا هذا ، أتباع الجهمية من المعتَزِلة والأشعرية وسائر المتكلمين أصحاب المدرسة العقلية ، تسمع أحد المشايخ الكبار جدا يقول لك أنا أفتخر أنني من أصحاب المدرسة العقلية ، هذا هو المنهج الذي يدرس في أغلب البلاد الإسلامية ، منهج أتباع الجهمية .
زعم الجهم بن صفوان أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو في سنة رسوله صلي الله عليه وسلم فهو مشبه ، وأن التوحيد يكمن في نفي هذه الصفات متمسكا بزعمه بقول الله تعالى : } ليْسَ كَمِثْلهِ شيء {سواء كان النفي نفيا واضحا أو كان بتأويل القرآن على غير معناه ولي أعناق النصوص بغير ما تحتمل .
وقد أضل الجهم بن صفوان خلقا كثيرا وتبعه على قوله رجل يقال له واصل بن عطاء ، ورجل آخر يقال له عمرو بن عبيد وإليهما ينسب مذهب المعتزلة ، فما هي قصة المعتزلة ؟ كيف نشأت وما هي أصولهم ؟ وكيف دعوا الناس إلي القول بخلق القرآن ؟ وكيف امتحنوا إمام أهل السنة وقتلوا آلافا من أهل الإيمان ؟
· كيـف ظهـرت المعتـزلة ؟
علمنا مما سبق أن الجهم بن صفوان أضل خلقا كثيرا من أتباعه الجهمية ، وقدم عقله على الأدلة القرآنية ، والأحاديث النبوية , وقد تبع الجهم على قوله وفكره رجل يقال له واصل بن عطاء وآخر يقال له عمرو بن عبيد وإليهما ينسب مذهب الاعتزال .
فالمُعْتَزِلة أتباع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد ، وواصل بن عطاء الغزال ( 80ه - 131هـ) كان تلميذ الحسن البصري ، وكان مفوها بليغا ، على الرغم من كونه كان عاجزا عن النطق ببعض الحروف ، فكان ينطق الراء غينا ، مثلا كلمة : شراب بارد ، شغاب باغد ، ومن عجيب ما كان من واصل ، أنه كان يخلص كلامه وينقيه من حرف الراء ، لقدرته العجيبة على الكلام .
كان واصل بن عطاء تلميذا يتعلم ضمن بقية الطلاب في حلقة شيخه الحسن البصري ، و الحسن البصري كان من علماء السلف ، فجاء إلي الحلقة رجل من عامة المسلمين يسأل الشيخ عن حكم مرتكب الكبيرة ، ماحكمه في الإسلام ؟
ومعروف إن أهل السنة والجماعة ، يقولون بأن مرتكب الكبيرة مسلم لا يخرج عن الملة ، وإن كان فاسقا بارتكاب الكبيرة ، ونعلم أيضا أن الخوارج تقول مرتكب الكبيرة كافر بالله العظيم ، وقبل أن يجيب الإمام الحسن البصري ، قام هذا الطالب المسمي واصل بن عطاء ، دون أدب ولا حياء ، وقال : إن الفاسق من هذه الأمة لا هو مؤمن ولا هو كافر ، هو في منزلة بين المنزلتين .
أجاب واصل بعقله دون احترام لشيخه ، ودون علم أو نظر في كتاب الله أو سنة رسوله r ، عند ذلك طرده الحسن البصري من مجلسه ، وبدلا من أن يرجع إلي شيخه ويعتذر عن سوء أدبه ، أخذته العزة بالإثم واعتزل عن الحسن البصري ، وجلس إلي سارية من سواري المسجد في البصرة ، وانضم إليه بعد ذلك رجل آخر يقال له عمرو بن عبيد ، وجمع واصل معه أراذل الناس من أتباع الجهم بن صفوان ، فكان الحسن البصري يقول : اعتزلنا واصل ، اعتزلنا واصل ، وكان بقية طلاب العلم من تلاميذ الحسن البصري يطلقون عليهم المعتزلة ، فارتسم عليهم هذا الاصطلاح عند عامة المسلمين .
وكان هؤلاء المعتزلة يدعون الزهد والصلاح ، والنصح والإصلاح ، وكان لهم صلة بالحكام في الدولة العباسية ، وقد أسس المعتزلة مذهبهم على خمسة أصول رنانة ، وشعارات فتانة ، اغتر بها كثير من المسلمين في الماضي , وكثير من العلمانيين في الحاضر ، وهي باختصار :
الأصل الأول : التوحيد :
وزعموا أنهم أهلُ التوحيد وخاصتُه وخلاصة رأيهم في التوحيد ، هو أن الله تعالى منزه عن الشبيه والمثيل ( ليس كمثله شيء ) ، وهذا حق لا مرية فيه ولكنهم بنوا على ذلك نفي الصفات ، وقد أداهم توحيدهم هذا إلي القول بأن بخلق القرآن وزعموا أنه مخلوق كسائر المخلوقات لنفيهم عنه سبحانه وتعالي صفة الكلام .
الأصل الثاني : العدل :
والعدل معناه على رأيهم أن الله لا يخلق أفعال العباد ، فعطلوا قوله تعالى : ( وَاللهُ خَلقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات:96).
الأصل الثالث : المنزلة بين المنزلتين :
ويقصدون به هو حكم مرتكب الكبيرة في الدنيا عندهم ، فمرتكب الكبيرة عندهم في منزلة بين الإيمان والكفر ، فليس بمؤمن ولا كافر ، وقد قرر هذا واصل بن عطاء شيخ المعتزلة .
الأصل الرابع : إنفاذ الوعيد :
ويقصدون به هو حكم مرتكب الكبيرة في الآخرة ، ويعني عندهم أنه يجب على الله أن يعاقب مرتكب الكبيرة من المسلمين ، ويخلده في النار أبد الآبدين ، ولا يجوز أن يخرجه من النار بشفاعة سيد الأنبياء والمرسلين أو غيره من المؤمنين الصالحين ، فهم يشبهون الخوارج في قولهم : إذا توعد الله بعض عبيده وعيدا فلا يجوز أن لا يعذبهم ويخلف وعيده ، لأنه لا يخلف الميعاد ، فلا يعفو عمن يشاء ولا يغفر لمن يشاء ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا .
الأصل الخامس :الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
وهذا الشعار الرنان الذي يفتن به كل إنسان ، يقصدون به الدعوة إلي أصولهم الخمسة ، وقد ساروا بهذا الأصل على مذهب الخوارج في الخروج على الحكام بالسيف.
· كيف ظهـر القول بخلق القرآن ؟
تعالوا نري كيف ظهرت البدعة الكبري :
لما ذاع أمر الجهم بن صفوان وانتشر خبره ، حتى تابع الفساقُ فكرَه وأيدوا حزبَه ، سار على نهجه واصل بن عطاء ، فقد انضم إلي طريقته وسار على دربه وبدعته ، وكذلك عمرو بن عبيد الذين ينسب إليهما مذهب المعتزلة كما تقدم ، فتأصلت فكرة الجهم عند المعتزلة في الاعتماد على العقل في إثبات الصفات أو نفيها ، وتشبعوا بالرغبة في تعطيل النصوص وردها ، بحجة أن إثباتها يدل على التشبيه وأنواع المحال ، وأن الدين لا يصح إلا بهذا بالتعطيل والضلال ، وقد بنوا على هذا الأصل نفي أوصاف الكمال ، واستحالت عندهم رؤية رب العزة والجلال ، فردوا الأخبار ، وأنكروا الآثار ، التي ثبتت في رؤية الله يوم القيامة ، وبنوا على ذلك أيضا نفي صفة الكلام عن الله فجعلوه عاجزا عن الكلام بالقرآن ، بحجة أنه لو كان متكلما في زعمهم لكان له جارحة الفم واللسان ، وأن إثبات صفة الكلام تشبيه لله بالإنسان ، وقد استفحل أمرهم ، وكثر عددهم ، وانتشر في البلاد خبرهم ، وللأسف قربهم خلفاء الدولة العباسية ، متعللين لهم بأنهم ، كانوا يجادلون المخالفين من الزنادقة والجبرية ، والشيعة والمجوس مجادلة عقلية .
وفي بداية القرن الثالث الهجري تصادق المأمون بن هارون ، وهو من أبرز خلفاء الدولة العباسية تصادق مع بعض دعاة الآراء الاعتزالية ، وذلك قبل أن يكون خليفة المسلمين ، فقرب إليه رجلا يقال له بشر بن غياث المريسي المولود من أب يهودي ، وكان هذا الرجل قد نظر في صفات الله بالفكر الجهمي ، فغلب عليه فكر الجهم بن صفوان وانسلخ من الورع والتقوى والإيمان ، وأعلن القول بخلق القرآن ، ودعا إليه حتى كان عينَ الجهمية في عصره ، وكان عالمَهم المقتدي بأمره ، فمقته أهل العلم وناظروه ، وحكم عليه بعضهم وكفروه ، يقول الإمام الشافعي عن هذا الجهمي :
ناظرت بشر بن غياث المريسي ، فكان مما قال : القرعة قمار ، وهي حرام ، فذكرت له حديث عمران بن حصين في القرعة فبهت ، وحديث عمران رواه مسلم في كتاب الإيمان عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ رَجُلا أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لهُ عِنْدَ مَوْتِهِ لمْ يَكُنْ لهُ مَالٌ غَيْرَهُمْ ، فَدَعَا بِهِمْ رَسُولُ اللهِ r فَجَزَّأَهُمْ أَثْلاثًا ثُمَّ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً وَقَال لهُ قَوْلا شَدِيدًا ) ، وفي رواية أن رجلاً من الأنصار أوصي عند موته فأعتق ستة مملوكين ، الوصية فيما دون الثلث ، ولذلك أجري النبي القرعة بينهم ، ومعني قال له قولا شديدا أي أنكر فعله وكرهه.
والشاهد أن أبسط الأمور في سنة النبي صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، لا يعرفها بشر المريسي ، فأصله كما قال هاشم بن القاسم يهودي ، والخليفة المأمون اختلط برجل يقال له أحمد بن أبي دؤاد الإيادي ، وكان من أشد المتعصبين للمذهب الاعتزلي ، قربه المأمون واتخذه صاحبا ، ومن شدة تعلق المأمون به عظمه الشعراء نفاقا للخليفة حتى قال بعض الشعراء من المعتزلة من بني العباس :
رسول الله والخلفاء منا ***** ومنا أحمد بن أبي دؤاد
فرد عليه بعض شعراء أهل السنة الذين يدركون خطورة هذا الرجل وفتنته للناس ، وقال :
فقل للفاهرين على نزار ***** وهم في الأرض سادات العباد
رسول الله والخلفاء منا ***** ونبرأ من دعي بني إيـــاد
وما منا إياد إذا أقـرت ***** بدعوة أحمــد بن أبي دؤاد
ومن شدة الترابط بين أحمد بن أبي دؤاد وبين الخليفة المأمون أشار على الخليفة أن يكتب على سترة الكعبة :
( ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم )
حرَّف كلام الله لينفي وصفه تعالى بأنه "السَّمِيعُ الْبَصِيرُ " ، كما قال هذا الضال جهم بن صفوان عن قوله تعالى : ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) ( طـه:5 ) قال : لو وجدت السبيل إلي أن أحكها من المصحف لفعلت .
وكذلك قرب المأمون إليه رجالا من المعتزلة حتى راودوه على مذهبهم فأقنعوه حتى أصبح ألعوبة في أيديهم ، ونصحوه أن يأخذ على أيدي الناس ليعتنقوه ، إصلاحا لدينهم على زعمهم ، وإرضاءاً لربهم بحمقهم ، وقد وقع المأمون في شباكهم وفرض على الناس بدعة جديدة لم تكن في أسلافهم ، وهي البدعة الكبري ، بدعة القول بخلق القرآن .
فما هي قصة خلق القرآن وما هي فكرتها ؟
فكرتها قائمة على منهجهم في نفي الصفات الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم ومنها صفة الكلام ، فهم زعموا أن الله لو كان متكلما لكان له فم ولسان ، ومن ثم لا بد من نفي صفة الكلام عنه .
وقد وصل الأمر ببعضهم إلي محاولته تحريف القرآن حتى لا يؤمن بهذه الصفة ، فقال لأبي عمرو بن العلاء أحد القراء السبعة : أريدك أن تقرأ هذه الآية : ( وَكَلمَ اللهُ مُوسَي تَكْليمَا ) (النساء : 164) بنصب لفظ الجلالة ، وذلك ليكون موسي عليه السلام هو المتكلم ، أما الرب عنده فلا يتكلم لأن الكلام لا يكون إلا بفم ولسان حسب زعمه ، فقال أبو عمرو : هب أني وافقتك في ذلك فماذا تفعل بقوله : ( وَلمَّا جَاءَ مُوسَي لمِيقَاتِنَا وَكَلمَهُ رَبُّه ) فبهت المعتزلي .
ومعلوم عند السلف أن الله يتكلم بكيفية تليق بجلاله نجهلها نحن ويعلمها هو فنحن ما رأيناه وما رأينا له نظيرا فهو سبحانه كما قال : ( ليْسَ كَمِثْلهِ شيء وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (الشورى:11) .
ولا يلزم من إثبات صفة الكلام التشبيه والتجسيم كما هو اعتقاد المعتزلة ، بل أخبرنا الله تبارك وتعالي أن بعض المخلوقات تتكلم بدون فم أو لسان فقال تعالى :
( اليَوْمَ نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون ) (يس:65) .
فنحن نؤمن أنها تتكلم ولا نعلم كيف تتكلم , فالله أنطقها كما أنطق كل شيء , ولذلك قال تعالى :
( وَقَالُوا لجُلُودِهِمْ لمَ شَهِدتُمْ عَليْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الذي أَنْطَقَ كُل شيء ) ( فصلت:21) .
فالأيدي والأرجل والجلود تتكلم بلا فم يخرج منه الصوت المعتمد على مقاطع الحروف ، ولكن قياس الخالق على المخلوق قياس فاسد لا يجوز .
كما أن صفة الكلام من لوازم الكمال , وضدها من أوصاف النقص , والله سبحانه له الكمال المطلق في أسمائه وصفاته ، ولهذا ذم الله بني إسرائيل لاتخاذهم عجلا لا يتكلم إلها من دون الله ، قال تعالى عنهم :
( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَي مِن بَعْدِهِ مِنْ حُليِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لهُ خُوَارٌ أَلمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً ) فعجز العجل عن الكلام من صفات النقص التي يستدل بها على عدم ألوهيته ، فإذا كان من شروط العظمة لدي المخلوق اتصافه بالكلام ، أليس الخالق أولي بذلك .
وقد صدق ابن القيم في قوله :
وله الكمال المطلق العاري عن التـ***ـشبيه والتمثيــل بالإنسـان
وكمال من أعطى الكمال لنفسه *** أولى وأقـدم وهو أعظـم شان
أيكون قد أعطى الكمـال وماله *** ذاك الكمـالُ أذاك ذو إمكـان
أيكون إنسـان سميعـا مبصـرا ***متكلمــا بمشيــئة وبيــان
وله الحيــاة وقــدرة وإرادة *** والعلـم بالكلي والأعيـــان
والله قد أعطاه ذاك وليـس هـ *** ـذا وصفه فاعجب من البهتـان
والله ربي لم يــزل متكلمــا *** وكــلامه المسمــوع بالآذان
صدق وعدلا أحكمت كلمـاته *** طلبــا وأخبــارا بلا نقصان
ورسوله قد عاذ بالكلمـات من *** لدغ ومن عيـن ومن شيطــان
أيعاذ بالمخلوق حاشاه من الـ *** إشـراك وهو معـلم الإيمــان
بل عاذ بالكلمـات وهي صفاته*** سبحانه ليســت من الأكـوان
وكذلك القرآن عين كلامه المـ *** ـسموع منه حقيـقة ببيــان
هو قـول ربي كله لا بعضـه *** لفـظا ومعنى ما هـما خلقـان
تنــزيل رب العالمين وقولـه *** اللفــظ والمعــنى بلا روغان
لكن أصـوات العباد وفعلهم *** كمدادهــم والرق مخلوقـان
فالصوت للقاري ولكن الكلا *** م كلام رب العرش ذي الإحسان
يتبع بإذن الله
5- "معجم مقاييس اللغة" (باب الكاف واللام وما يثلثهما) ( 5 / 131 ).
6- قال ابن منظور : كلـم : القرآنُ كلامُ الله وكَلِـمُ الله وكَلِـماتُه وكَلِـمته، وكلامُ الله لا يُحدّ ولا يُعدّ، وهو غير مخـلوق ، تعالـى الله عما يقول الـمُفْتَرُون علُوّاً كبـيراً. "لسان العرب" مادة " كلم".
7- بتصرف من : العقيدة السلفية , مرجع سابق ص 55- 64.