بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد...
فقد اطلعت على ما نشر في جريدة الوطن عدد 2567 وتاريخ 28/9/1428هـ، بقلم أحد الكتاب، والذي أعلن إنكار التهجد في مساجد المسلمين في ليالي رمضان، وقد نسي الكاتب أو تناسى ما جاءت به الأدلة على مشروعية صلاة الليل مطلقًا، وقيام رمضان خاصة، وإحياء ليالي العشر الأخيرة في رمضان، وادعى أن صلاة آخر الليل لا أصل لها، وأن الذي ابتدعها الشيخ/ عبدالله بن محمد الخليفي رحمه الله، حيث صلاها في المسجد الحرام، هكذا يدعي هذا الكاتب، وكذلك أيضًا ينكر صيام ستة أيام من شوال، وكان ينبغي عليه أن يسأل قبل أن يعلن مثل هذا، حتى لا يفهم بقلة اطلاعه وعدم معرفته بالأدلة، وأحب أن أورد بعض الأدلة على بعض ما ذكر، ليتضح له ولغيره أن ما قاله ليس بصحيح، وأنه وإن حفظ شيئًا فقد غابت عنه أشياء.
فأما قيام الليل فقد مدح الله تعالى المتقين بقيام الليالي، فقال تعالى: كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ الذاريات: 17 - 18 ، وهذا دليل على أن قيام الليل من فعل المتقين: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ الحجر: 45 ، فمن لم يكن كذلك نقص حظه من جنات النعيم، وقال تعالى في وصف عباد الرحمن: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً الفرقان: 64 ، وهذا مدح لهم حيث وصفهم بصفات فاضلة، ثم قال في ثوابهم: أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً الفرقان: 75 ، وظاهر الآيات أنهم يصلونها جماعات وفرادى، وهناك آيات أخرى ذكر الله فيها قيام الليل ومدح القائمين به في عدد من سور القرآن، وكذلك وردت السنة أن النبي قال: "أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام"، وقال : "إذا قام الرجل من الليل وأيقظ امرأته فصليا كتبا من القانتين والقانتات"، والقنوت دوام الطاعة، وبه فسر قول الله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ الزمر: 9 ، إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة في فضل قيام الليل.
وأما قيام رمضان ففي الصحيحين قول النبي : "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"، وظاهر القيام أنه الصلاة في ليالي رمضان في أول الليل وفي آخره، وفي حديث سلمان المشهور في صحيح ابن خزيمة في فضل رمضان: "شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعًا"، وفي حديث عبدالرحمن بن عوف الذي في السنن قوله : "إن الله فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه"، ولم يخص قيام أول الليل دون آخره، وذلك دليل على أن شهر رمضان تميز بأفضلية التهجد فيه، والذي هو الصلاة في أول الليل وآخره، مع أن ذلك عام في جميع الليالي لقول الله تعالى: وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ الإسراء: 79 ، والنافلة: التطوع.
ومن أفضلية رمضان أن فيه ليلة القدر، وقد مدحها الله تعالى وأنزل فيها سورة القدر، وقال فيها: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ القدر: 3 ، أي أن قيامها قد يكون خيرًا من قيام ألف شهر، أي نحو أربع وثمانين سنة، وهذا خير كثير، وثبت قول النبي : "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"، وقد كثرت الأحاديث التي في فضلها، واختلف في تعيينها، ويترجح أنها في العشر الأواخر، ولما كان كذلك شرع قيام هذه العشر الأواخر بزيادة تطوع وتهجد، وبالأخص في آخر الليل، لأن صلاة آخر الليل أفضل من صلاة أوله، لما تقدم من قوله : "وصلوا بالليل والناس نيام"، وقوله تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً المزمل: 6 ، والناشئ هو الذي يقوم بعد النوم، ولما كان هذا فضل هذه الليلة، واهتم الصحابة بمعرفة عينها، جاءت الأدلة ترجح أنها في العشر الأواخر، فقال : "تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان"، أي التمسوها واطلبوها، ويتأكد أيضًا الطلب في السبع الأواخر، ففي الصحيحين عن ابن عمر أن رجالاً أروا ليلة القدر في السبع الأواخر من رمضان، فقال النبي : "أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر"، وكذلك أيضًا جاء قوله : "تحروا ليلة القدر في الوتر من السبع الأواخر في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى، في ثالثة تبقى، في آخر ليلة"، فإن كان الشهر كاملاً فإن أوتار العشر ليلة إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، وإن كان ناقصًا فالأوتار ليلة ثنتي وعشرين وأربع وعشرين، وست وعشرين، وثمان وعشرين، وليلة الثلاثين، وهذا يستدعي الاهتمام بطلبها في العشر كلها.
ولما كان كذلك خصها رسول الله بمزيد من الاهتمام، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله إذا دخل العشر أحيا ليله، وأيقظ أهله، وجد وشد المئزر"، وظاهر إحياء الليل أنه يحي ليله كله، وجاء في بعض الروايات: "إذا دخل العشر طوى فراشه"، وفي بعضها: "لم يذق غمضًا" أي لم تغمض عيناه، يعني بالنوم، وثبت عن ابن مسعود ررر أنه صلى مع النبي في ليلة من ليالي العشر، فافتتح سورة البقرة واستمر فيها حتى هم ابن مسعود أن يجلس ويدعه لإطالته فيها، وصلى ليلة أيضًا ومعه حذيفة، فقرأ سورة البقرة كلها، ثم سورة النساء، ثم سورة آل عمران، يقرأ مترسلاً، وكذلك أيضًا ثبت أنه كان يصلي ليله وهو معتكف في آخر الليل، فاقتدى به جماعة، وجعل يرفع لهم صوته بالقراءة وبالتكبيرات، وهذه أدلة على أنهم كانوا يتهجدون في ليالي العشر.
وهذا ونحوه دليل على أنه صلى جماعة بأصحابه أو ببعضهم في ليالي العشر الأواخر من رمضان، التماسًا لليلة القدر، وقد روى الإمام أحمد رحمه الله عن عليّ ررر أن النبي قال: "اطلبوا ليلة القدر في العشر الأواخر، فإن غُلبتم فلا تغلبوا على السبع البواقي"، وعن عمر ررر قال: قال رسول الله : "التسموها في العشر الأواخر وترًا" رواه أبو يعلى والبزار، وعن معاذ ررر أن رسول الله سُئل عن ليلة القدر فقال: "هي في العشر الأواخر قم في الثالثة أو الخامسة" رواه الإمام أحمد، ولأحمد وغيره عن جابر مثله، وعن عبادة بن الصامت وعن أبي هريرة وبلال وابن عمر وغيرهم، وروى ابن أبي عاصم عن عائشة قالت: "أن النبي إذا كان رمضان قام ونام، فإذا دخل العشر شد المئزر، واجتنب النساء، واغتسل بين الأذانين، وجعل العشاء سحورًا".
وأما صلاتها جماعة ففي السنن عن أبي ذر قال: صمنا مع رسول الله فلم يقم حتى بقي سبع، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، وقام بنا في الخامسة حتى ذهب شطر الليل، فقلنا: يا رسول الله، لو نفلتنا بقية ليلتنا، فقال: "من صلى مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة"، ولما بقي ثلاث صلى بنا ودعا أهله ونساءه، حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح، وروى النسائي عن النعمان بن بشير مثله، وروى مالك في الموطأ عن السائب أن عمر بن الخطاب ررر أمر أبي بن كعب وتميمًا الداري أن يقوما بالناس، فكان القارئ يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العصي، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر، وروى مالك عن عبدالله بن أبي بكر بن محمد عن أبيه قال: كنا ننصرف من القيام فنستعجل الخدم بالطعام مخافة فوت السحور.
فهذه آثار رواها هؤلاء الأئمة، ومنهم مالك بن أنس الذي أدرك أولاد الصحابة وبعض التابعين، ذكر أنهم يصلونها جماعة إلى آخر الليل.
وهذا يخالف ما يدعيه الكاتب من إنكار صلاتها جماعة من الصحابة أو أبناء الصحابة أو التابعين أو من تبعهم وكأنه لم يلتفت إلى ما رواه الإمام مالك بن أنس من إلى الروايات التي في موطئه، ولم يلتفت إلى أمر عمر بن الخطاب وأُبي بن كعب، وفعل الصحابة الذين كانوا معهم، فقد كان الناس يصلون ثلاثـًا وعشرين ركعة ويطيلونها، وبعد كل أربع ركعات يستريحون نحو ربع ساعة بسبب الإطالة، ثم يقومون فيصلون تسليمتين في نحو ساعة أو ساعة ونصف، ثم يستريحون، ثم يقومون ويصلون أيضًا تسليمتين ويستريحون بعدها، وبذلك سميت هذه الصلاة بالتراويح، وكان أهل مكة إذا صلوا تسليمتين قاموا وطافوا بالبيت سبعة أشواط بدل الاستراحة، فيطوفون أربعة أطواف، فقال أهل المدينة: ليس عندنا بيت نطوف به، ولكن نجعل بدل كل طواف أربع ركعات، فأوصلوا التراويح إلى تسع وثلاثين ركعة، وبعضهم إلى إحدى وأربعين، وأدركهم الإمام مالك وهم على ذلك، يصلون إلى آخر الليل ولم ينكر عليهم، ولا بَدعَهُم كما فعل هذا الكاتب هداه الله.
ولما اختصت هذه العشر بهذه الميزة رأى العلماء الزيادة في العشر الأواخر بالصلاة آخر الليل، وإن لم يستغرقوا الليل كله كما فعل الصحابة وأبناء الصحابة، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، فصاروا يقومون في آخر الليل، ولكنهم كانوا يطيلون فيصلون عشر ركعات بعد صلاة العشاء في نحو ساعة ونصف أو قرب ساعتين، ثم يستريحون ساعة، ثم يجتمعون ويصلون أربع ركعات في ساعة ونصف، ثم يستريحون نحو ساعة، ثم يقومون ويصلون ست ركعات مع الوتر في نحو ساعتين أو ساعتين ونصف، وينتهون قرب وقت السحر.
ولما كان الوافدون إلى الحرم المكي قد لا يتحملون الإطالة صلى بهم الشيخ/ عبدالله الخليفي، والشيخ/ عبدالمهيمن أبو السمح في أول الليل عشرين ركعة والوتر، ثم صلى بهم الشيخ/ عبدالله الخليفي في آخر الليل عشر ركعات تستغرق نحو ساعتين أو ساعة ونصف، ليحصل له الاقتداء بالصحابة والتابعين، وليحصل له ولمن صلى معه فضل قيام تلك الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر، واقتداء بعلماء أهل السنة، فمن ادعى أنها بدعة فقد أنكر السنة، وأنكر فضل الليالي العشر، وأنكر اهتمام النبي وصحابته وحرصهم على إحياء تلك الليالي، وصلاة المسلمين أربعة عشر قرنًا لما يسمونه بالتراويح، فقيام آخر الليل داخل في مسمى التراويح التي ذكر العلماء أنها سنة مؤكدة.
وإذا كانت صلاة التراويح لا خلاف في مشروعية أدائها جماعة في المساجد، فلا فرق في صلاتها أول الليل أو آخر الليل، فإن الناس في هذه الأزمنة إنما يصلون أول الليل نحو ساعة ونصف، ومثل هذا لا يسمى إحياء هذه الليالي، وإنما يصدق الإحياء على الصلاة أكثر الليل، ولكن روي عن بعض السلف أنهم قالوا: (ما أغرب السنة، وأغرب منها من يعرفها)، ووصف النبي آخر الزمان وذكر فيه أن الناس يجعلون السنة بدعة، والبدعة سنة، فإذا غُيرت البدعة قالوا: غُيرت السنة.
وأما صيام ستة أيام من شوال فقد ورد في ذلك حديث أبي أيوب الذي في صحيح مسلم وغيره أن النبي قال: "من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله"، وهو حديث ثابت، والطعن فيه طعن في صحيح مسلم، وطعن في رواة الصحيحين، وقد رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طرق عن سعد بن سعيد بن قيس أخو يحيى بن سعيد، وهو من العلماء المشهورين، وقد روى عن ستة عشر من الصحابة والتابعين، وروى عنه تسعة وعشرون من العلماء، منهم شعبة، والثوري، وابن عيينة، وابن المبارك، وابن جرير ، وأخوه يحيى بن سعيد، وكلهم وثقوا به وتقبلوا روايته، وهذا الحكم لم يتفرد به أبو أيوب، فهناك حديث عن ثوبان ررر رواه الإمام أحمد برقم (22412)، وابن ماجة (1715)، وابن حبان كما في الإحسان (367)، والطبراني في مسند الشاميين (903)، والدارمي (1755)، والنسائي في الكبرى (2860)، وابن خزيمة في صحيحه (2115)، والطحاوي في مشكل الآثار (2348)، والطبراني في الكبير (1451)، والبيهقي (4/293)، والخطيب في التاريخ (200/362)، وصححه ابن حبان وابن خزيمة، ولما روى ابن حبان حديث أبي أيوب قال: (ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن هذا الخبر تفرد به عمر بن ثابت، ولفظه: "من صام ستة أيام بعد الفطر كان تمام السنة، من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها"، وروى الحديث أيضًا أبو هريرة عند البزار (1060) عن العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة، ولفظه: "من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر"، ثم رواه أيضًا برقم (1061) عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة).
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (3/183) وقال: رواه البزار وله طرق رجال بعضها رجال الصحيح، وقد رواه الإمام أحمد برقم (14302)، (14710)، (14477)، وصححه المحقق، ورواه أيضًا البزار كما في كشف الأستار رقم (1062) عن أبي زرعة عن عمر بن جابر الحضرمي عن جابر، ولفظه: "من صام رمضان وست من شوال كان كصيام الدهر"، وهو عند الإمام أحمد في الموضع السابق ورواه عبد بن حميد (1116)، والبيهقي (4/292).
وهذه الأحاديث دالة على شهرة هذه السنة، وكثرة من رواها، فلم ينفرد بها سعد بن سعيد، وأما العلة الثانية فإن النبي إنما نهى أن يتقدم أحد رمضان بصوم يوم أو يومين، حتى لا يختلط رمضان بشعبان، ومع ذلك فقد ثبت أنه قال لرجل: "هل صمت من سرر هذا الشهر شيئًا" يعني من شعبان يعني من آخره، قال: لا، قال:"فإذا أفطرت فصم يومين"، وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يكثر من الصيام في شعبان، كان يصوم شعبان إلا قليلاً ولم يرد أنه نهى عن الصيام في شوال، وأما العلة الثالثة، فلم يثبت أنه لم يصمه، ولا ثبت أنه نهى عنها، ولا ثبت عن أحد من الصحابة إنكارها، ولا عن أحد من التابعين، وقد كان النبي يسرد الصيام حتى يقول القائل لا يفطر، وإذا خفيت هذه السنة على مالك فقد عرفها غيره من العلماء، وكم من سنة خفيت على مالك وأبي حنيفة، كخيار المجلس وغيره، وإذا ثبتت في الأحاديث فلا عبرة بمن أنكرها. والله أعلم.
قاله وأملاه
عبدالله بن عبد الرحمن الجبرين
3/11/1428هـ