بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبوعبدالرحمن :
صح أن المشروع للأمة الإسلامية : أن تؤقت بالسنة القمرية ، وصح : أن ذلك فضيلة ومنقبة ، وهنا نريد أن نبين : أن هذاالهلال الذي يجب أن نؤقت به : إنما يترتب الحكم الشرعي على رؤيته ولا اعتباربالعدد والحساب وقد فرق الشوكاني في تفسيره (ج 2 ص 213 الطبعة لأخيرة) بين العدد والحساب ، وبيَّن القلقشندي في صبحه وابن تميمية في الرسالة الهلالية بعضا من طرقه الحسابية والعددية ، ولقد كان أبو الريحان البيروني :يستطلع كثيرا من الحوادث التاريخية بطرق حسابية تجدها في قانونه المسعودي ،ولقد تعرض الشيخ أبو تراب الظاهري لمسألة من ذلك ، وهي إنكار البيروني أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم دخل المدينة وهم يصومون يوم عاشوراء فكان في رده ـ حفظه اللّه ـ ما يقنع .
قال أبو عبد الرحمن : فلو لم ير الهلال ليلة الثلاثين لو جب إكمال عدة الشهر ثلاثين يوما بغض النظر عن تقويم أم القرى ـ مثلا ـ ، وكذلك لو قال أحد المنجمين : الهلال الليلة فلا عبرة بقوله ، وإنما العبرة بالرؤية وكذلك لو قيل : ثبت أن الشهور الثلاثة السابقة كانت كلها ناقصة فلا بد أن يكون الشهر تاماً.
قال بعضهم :
لا يتوالى النقص في أكثر من ... ثلاثة من الشهور يا فطن
كذا تـــوالي خمســـة مكملة ... هذا الصواب وسواه أبطله
وليس معنى عدم الاعتبار بالحساب : أنه لا يصح ، فقد يكون الهلال صحيحا ، ولكن الشرع إنما نصب لنا العلامة بالرؤية نصوم لرؤيته ونفطر لرؤيته ، لا حرج علينا إذا أفطرنا والهلال طالع فعلا ، لأننا لم نره ، فلنا من ديننا سعة ويسر .
وقد ذهب مطرف بن عبد اللّه بن الشخيرـ وهو من كبار التابعين ـ وابن قتيبة : إلى أنه يعول على الحساب عند الغيم بتقدير المنازل واعتبار حسابها في صوم رمضان ، وهو مذهب الروافض ودليلهما قوله ـ صلى اللّه عليه وسلم ـ : فإن غُم عليكم فاقدروا له : أي استدلوا عليه بمنازله ، وقدروا إتمام الشهر بحسابه ، وذهب إلى هذا أيضاً بعض أصحاب الشافعي وبعض أصحاب أبي حنيفة ، وقالوا : يعتبر في ذلك بقول المنجمين . قال ابن العربي : وقد زل بعض أصحابنا ، فحكي عن الشافعي : أنه قال : يعول على الحساب ، وهي عثرة لا لعا لها ، وقال ابن رشد : والمعروف له المشهور عنه : أنه لا يصام إلا برؤية فاشية أو شهادة عادلة كالذي عليه الجمهور .
قال أبو عبد الرحمن : وفي الأم علق الهلال بالرؤية ولم يذكر الحساب فعزو هذا المذهب إليه غير ثابت . وقال أبو إسحاق الشيرازي : وإن غم عليهم الهلال وعرف رجل الحساب ومنازل القمر وعرف بالحساب أنه من شهر رمضان ففيه وجهان : قال أبو العباس ـ يعني ابن سريج ـ : يلزمه الصوم لأنه عرف الشهر بدليل فأشبه إذا عرف بالبينة .
قال أبو عبد الرحمن : ودليلنا على عدم جواز الصيام بالحساب :
1ـ قوله ـ صلى اللّه عليه وسلم ـ : لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له . رواه البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عمر ، فصح بهذا : أن الصيام والإفطار منوطان بالرؤية ، فإن كانت صحوا ولم يُِر أوحال دون رؤيته سحاب : قدر له .
ومعنى اقدروا له : شامل لكل ما يحصل به معرفة مقدار الشهر من حساب أو عدد ، ولكن الروايات الأخرى (التي فيها : ثلاثون يوما ) . حددت المعنى المطلوب ، فاتضح :أن قوله اقدروا له : بمعنى أكملوا عدته ثلاثين يوما . . والروايات الآنفة الذكر (وإن اختلفت ألفاظها) : لا تحيل المعنى ، ولا يستبعد : أنه ـ صلى اللّه عليه وسلم ـ عبر بكل هذه الألفاظ ، فكل ما ذكر له رمضان ، أو كلما هل هلاله : ذكر أمته بهذا الحكم .
قال أبو عبد الرحمن : ولا يعجبنا ما ذهب إليه الإمام أبو جعفر الطحاوي في مشكل الآثار إذ يقول : إن أحسن ما قيل في قوله ـ صلى اللّه عليه وسلم ـ : " فاقدروا له " : أي اعرفو حسابه بمنازله ، وإن هذا يخفى على أكثر الناس ، فرد الأمر إلى ما يتساوون فيه ، وهو إكمال العدة ثلاثين يوما فصار هذا ناسخا . قال أبو عبد الرحمن : كلا ! فليس في الحديث ما يشعر بالنسخ ولم يعرف تاريخ الحديثين ليتميز المتقدم من المتأخر ، فهي دعوى عارية من البرهان ، وأرى أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم لم يقصدإلا إكمال العدة ثلاثين يوما ، لأن كلمة اقدروا له : محتملة ـ كما قلنا ـ عدة معان ، فجاء النص بإكمال ثلاثين يوما ، فتحدد المعنى المطلوب ولسنا ـ أيضاً ـ نذهب إلى قول ابن سريج : اقدروا له خطاب للخاصة الذين يعرفون الحساب . . وأكملوا العدة خطاب للعامة . أهـ قال أبو عبد الرحمن : لأنها دعوى بلا برهان ، وهي تقسم المسلمين : طائفة تصوم وطائفة تفطر ، وهذا يخالف قوله صلى اللّه عليه وسلم : صومكم يوم تصومون ، ويخالف مقصد الشريعة في الحظ على الجماعة .
2ـ روى البخاري في صحيحه عن ابن عمرـ رضي اللّه عنهما ـ عن النبي ـ صلى اللّه عليه وسلم ـ أنه قال : إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا ، يعني : مرة تسعة وعشرين ، ومرة ثلاثين . وهذا الحديث يستدل به شيخ الإسلام ابن تيمية : على أن الحساب محرم منهي عنه .
(أ)لأنه أخبر أن الأمة التي اتبعته هي أمة الوسط ، أمية لا تكتب ولا تحسب ، فمن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم ، بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين .
(ب) وليس المعنى : أن من كان هذه الأمة فلا ينبغي له أن يكتب ولا يحسب ، لأنه غير ظاهر اللفظ ، فإن ظاهره خبر والصرف عن الظاهر إنما يكون لدليل يحوج إلى ذلك .
(جـ ) ولا يقال : إن الحساب غير منهي عنه بنص هذا الحديث ، بل يدل على أنه ليس بواجب ، وإلا فهو جائز ، لأن ألأمية صفة نقص : فصاحبها بأن يكون معذورأ أولى من أن يكون ممدوحا ، وإنما لا يقال ذلك ، لأن من الأمية ما هو محرم ، ومنها ما هو مكروه ، ومنها ما هو نقص ، ومنها ما هو كمال والأمية هنا في الاستغناء بالرؤية عن الحساب صفة كمال ومدح من وجوه :
" من جهة الاستغناء عن الكتاب والحساب ، بما هو أبين منه وأظهر ، وهو الهلال . . ومن جهة أن الكتاب والحساب هنا يدخلهما غلط . . ومن جهة أن فيهما تعبا كثيرا بلا فائدة ، فإن ذلك شغل عن المصالح ، إذ هذا مقصود لغيره لا لنفسه" .
قال أبو عبد الرحمن : ولا يحسبن متسرع : أننا نسوق هذا الكلام (عن شيخ الإسلام ) مهاجمين علم الهيئة ، ومقللين من ثمراته الطيبة التي ارتقت في هذا العصر ، فلنا أن نستفيد من هذا العلم (إلا في مسـألة الصيام وما في حكمها ! ) لأنها أمور شرعية تعبدية . . والذي تعبدنا بالصيام ـ جل شأنه ـ اختار لنا أسهل الأمور : " وهو : أن نصوم إذا رأينا الهلال ، ونفطر إذا رأيناه ، فإن لم نره فعلينا أن نصوم ثلاثين يوما " .
ولو أن علم الهيئة : يرشدنا إلى أن الشهر يهل هذه الليلة ـ أخذا باليد ! ـ : لم يكن من الجائز أن نعتبر (إلا الرؤية أو أكمال العدة ) وإلا كنا معتسفين طريقا لم ‘يرد منا سلوكه ، واللّه لا يعبد إلا بما شرع ، والرسول صلى اللّه عليه وسلم يقول : " كل عمل ليس عليه أمرنا فهورد ! " وباللّه نتأيد .
قال أبو عبد الرحمن : سبق قول ابن سريج : أن من عرف الشهر بالحساب يلزمه الصيام لأنه عرفه بدليل . أهـ .
وجوابنا عليه : أن نقول : هبه عرفه بدليل ، ولكن هذا الدليل لم يكن في أثر ما مناطا للحكم بل قال صلى اللّه عليه وسلم : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته . أهـ . فإن لم تكن الرؤية : فإكمال ثلاثين يوما . . وأقل ما في الأمر : أنهم يعتبرون في العبادة ما هو غير معتبر شرعا (1) .
انظر مسائل الهلال (ص/ 45 ـ 54) للعلامة أبي عبدالرحمن بن عقبل الظاهري .
ـــــــــــــــ ــــ
(1) قال أبوعبد الرحمن : إذا دل اللفظ على معنيين فأكثر سمي مشتركا ، كالعين : لفظ واحد ، يطلق على عدة معان والأضداد داخلة في المشترك اللفظي ، (للفائدة يراجع المزهر للسيوطي ج 1 ص269 ـ 507)وللأصوليين خلاف طويل : في المعنى المراد من اللفظ المشترك أهو كل معانيه بمثابة اللفظ العام (كما يقول أصحاب الشافعي ) ، أم لا يمكن أن يشمل جميع معانيه ـ كما يقول أصحاب أبي حنيفة ـ أم انه يعم في النفي ولا يعم في الإثبات ـ كما قال آخرون ـ قال أبو عبد الرحمن : والذي نختاره : أن اللفظ المشترك لا يرد في كلام ويراد منه جميع معانيهإلا في عبارات يراد بها الإلغاز والتورية ، شريطة : أن لا تتضاد المعاني ، واللفظ المشترك يحمل على المعنى الظاهر الراجح : إما بحقيقة الوضع ، وإما بقرينة ظاهرة صارفة ، ومن ثم :فكلمة ـ اقدروا ـ شاملة للحساب والعدد وإكمال الثلاثين ، ثم تعين الحمل على إكمال الثلاثين للروايات الأخرى ، وباللّه التوفيق .
راجع :أصول الفقه للشيخ محمد أبي زهرة ص 160 ـ 162 ومباحث الآمدي ـ في أحكامه ـ في الفصل الرابع في الاسم ص 18 فما بعدها .
وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية جمع ابن قاسم ج 25 ص131 ـ 201 وفتح الباري للحافظ ابن حجر ط م الحلبي عام 1378 ج5 ص 23 ـ 29 .
والمنتقى شرح الموطأ للإمام أبي الوليد الباجي الطبعة الأولى ط م السعادة عام 1331هـ ج2 ص 28 وبداية المجتهد لأبي الوليد ابن راشد ط م دار الفكر ج1 ص207.
الاستقامة ج1 ص 275 والفروق لشهاب الدين القرافي وتهذيب الفروق لمحمد علي حسين ط م دار الحياة الكتب العربية الطبعة الأولى عام 1344 ج2 ص 178 ـ 189 والمهذب لإبي إسحاق الشيرزي ط م الحلبي عام 1379 ج1 العلمية عام 1313هـ ج 1 ص 261وسبل السلام للصنعاني ط م الحلبي عام 1379 ج 2 ص 152 ونيل الأوطار للشوكاني ط م الحلبي 1371 ج 4 ص 201 ـ202 وزادالمعاد لابن قيم الجوزية ط م الحلبي عام 1369 ج1 ص 157 والمعتصر من المختصر من مشكل الآثار لأبي المحاسن الحنفي ط م آباد الدكن عام 1362 ج 1 ص138 ـ 139 والجواهر للحكيم طنطاوي جوهري ط م الحلبي عام 1350 ج 17 ص 202 ـ 203 ج18 ص199 ـ 200 .
وأحكام القرآن للقاضي أبي بكر بن العربي ط م الحلبي عام 1378 ج1 ص 82 وتفسير الرازي ط م البهية الطبعة الأولى ج 5 ص 132 وتفسير المنار لمحمد رشيد ط م القاهرة عام 1380 ج 2 ص 202 وج 11 ص 303 والجامع لأحكام القرآن لأبي عبدالله محمد أحمد القرطبي ج2 ص 293 الطبعة الأخيرة مصورة .