الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد :
فقد استشكل بعض الناس ما يحصل في هذا الزمن من تغيير بعض أعضاء الجسم وزرع أعضاء أخرى ومن ذلك تغيير قلب إنسان بقلب إنسان آخر وقد يكون القلب المزروع قلب كافر وقد يبدل القلب بقلب صناعي فكيف يكون عقل الإنسان في قلبه ولا يتأثر بتغييره بقلب آخر والله عزوجل قال في محكم التنزيل : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا) [ سورة الحج، الآية: 46] , وقد شاهدت برنامج بالقناة الأولى عرض فيه طبيب القلب المعروف الدكتور خالد الجبير هذا الإشكال ونوقش هذا الموضوع وجرى الاتصال بفضيلة العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين –رحمه الله – فأجابهم بأن العقل في القلب واستدل –رحمه الله- بالآية المذكورة ولكنه لم يحل الإشكال, ثم إنه ولله الحمد ظهر لي بعد تأمل أن ليس هناك إشكال ولا تعارض سواء قلنا إن العقل في القلب أو الدماغ , لأن أعضاء الجسم لا تتحرك ولا تعمل أي عمل إلا بوجود الروح التي تحرك هذه الأعضاء , فلا يمكن للقلب أن يعقل إلا بوجود الروح فهي الأصل وهي التي تجعله يعقل أو لا يعقل , فهو مجرد آله تحركها الروح .
إذن فلا عبرة بتغير العضو مثل القلب مادامت الروح موجودة وهي روح هذا الإنسان فهي التي ينسب إليها الفعل حقيقة فتحرك كل عضو لعمل معين , فالرجل للمشي واللسان للنطق والعين للبصر والأذن للسمع إلى غير ذلك , ولا قيمة لهذه الأعضاء بدون وجود الروح , فإذا نقل قلب إنسان إلى آخر أصبح قلب ذلك الإنسان المنقول إليه ولا يمكن أن يقال هذا زيد وقلبه قلب عمرو , ولا يقال هذا رجل قلبه يعقل , بل يقال هذا رجل عاقل وهذا رجل مجنون , فينسب العقل إلى الرجل لا إلى عقله .
ثم بعد ذلك أطلعت على كلام لشيخ الإسلام بن تيمية – رحمه الله – قد يفهم منه ذلك فنسوقه للقراء الكرام وكذلك ما ذكره أهل العلم في الخلاف في كون العقل في الدماغ أو القلب .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في الفتاوى: "وَأَمَّا قَوْلُهُ : أَيْنَ مَسْكَنُ الْعَقْلِ فِيهِ ؟ فَالْعَقْلُ قَائِمٌ بِنَفْسِ الْإِنْسَانِ الَّتِي تَعْقِلُ وَأَمَّا مِنْ الْبَدَنِ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَلْبِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : بِمَاذَا نِلْت الْعِلْمَ : قَالَ : " بِلِسَانِ سَئُولٍ وَقَلْبٍ عَقُولٍ " لَكِنَّ لَفْظَ " الْقَلْبِ " قَدْ يُرَادُ بِهِ الْمُضْغَةُ الصَّنَوْبَرِيّ َةُ الشَّكْلِ الَّتِي فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مِنْ الْبَدَنِ الَّتِي جَوْفُهَا عَلَقَةٌ سَوْدَاءُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ } . وَقَدْ يُرَادُ بِالْقَلْبِ بَاطِنُ الْإِنْسَانِ مُطْلَقًا فَإِنَّ قَلْبَ الشَّيْءِ بَاطِنُهُ كَقَلْبِ الْحِنْطَةِ وَاللَّوْزَةِ وَالْجَوْزَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْقَلِيبُ قَلِيبًا لِأَنَّهُ أَخْرَجَ قَلْبَهُ وَهُوَ بَاطِنُهُ وَعَلَى هَذَا فَإِذَا أُرِيدَ بِالْقَلْبِ هَذَا فَالْعَقْلُ مُتَعَلِّقٌ بِدِمَاغِهِ أَيْضًا وَلِهَذَا قِيلَ : إنَّ الْعَقْلَ فِي الدِّمَاغِ . كَمَا يَقُولُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْأَطِبَّاءِ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد وَيَقُولُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : إنَّ أَصْلَ الْعَقْلِ فِي الْقَلْبِ فَإِذَا كَمُلَ انْتَهَى إلَى الدِّمَاغِ . وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الرُّوحَ الَّتِي هِيَ النَّفْسُ لَهَا تَعَلُّقٌ بِهَذَا وَهَذَا وَمَا يَتَّصِفُ مِنْ الْعَقْلِ بِهِ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا وَهَذَا لَكِنَّ مَبْدَأَ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ فِي الدِّمَاغِ وَمَبْدَأَ الْإِرَادَةِ فِي الْقَلْبِ . وَالْعَقْلُ يُرَادُ بِهِ الْعِلْمُ وَيُرَادُ بِهِ الْعَمَلُ فَالْعِلْمُ وَالْعَمَلُ الِاخْتِيَارِيّ ُ أَصْلُهُ الْإِرَادَةُ وَأَصْلُ الْإِرَادَةِ فِي الْقَلْبِ وَالْمُرِيدُ لَا يَكُونُ مُرِيدًا إلَّا بَعْدَ تَصَوُّرِ الْمُرَادِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْقَلْبُ مُتَصَوِّرًا فَيَكُونُ مِنْهُ هَذَا وَهَذَا وَيَبْتَدِئُ ذَلِكَ مِنْ الدِّمَاغِ وَآثَارُهُ صَاعِدَةٌ إلَى الدِّمَاغِ فَمِنْهُ الْمُبْتَدَأُ وَإِلَيْهِ الِانْتِهَاءُ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ لَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ . وَهَذَا مِقْدَارُ مَا وَسِعَتْهُ هَذِهِ الْأَوْرَاقُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ" .اهـ [الفتاوى 9 / 303 ] .

وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم ج11/ص29 في شرحه لحديث ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)) قال ((واحتج بهذا الحديث على أن العقل في القلب لا في الرأس وفيه خلاف مشهور مذهب أصحابنا وجماهير المتكلمين أنه في القلب وقال أبو حنيفة هو في الدماغ وقد يقال في الرأس وحكوا الأول أيضاً عن الفلاسفة والثاني عن الأطباء . قال المازري واحتج القائلون بأنه في القلب بقوله تعالى : (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها) وقوله تعالى : (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) وبهذا الحديث فإنه - صلى الله عليه وسلم - جعل صلاح الجسد وفساده تابعاً للقلب مع أن الدماغ من جملة الجسد فيكون صلاحه وفساده تابعاً للقلب فعلم أنه ليس محلاً للعقل. واحتج القائلون بأنه في الدماغ بأنه إذا فسد الدماغ فسد العقل ويكون من فساد الدماغ الصرع في زعمهم. ولا حجة لهم في ذلك لأن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة بفساد العقل عند فساد الدماغ مع أن العقل ليس فيه ولا امتناع من ذلك. قال المازري لا سيما على أصولهم في الاشتراك الذي يذكرونه بين الدماغ والقلب وهم يجعلون بين رأس المعدة والدماغ اشتراكاً والله أعلم)).ا.هـ شرح النووي على صحيح مسلم ج11/ص29
وقال ابن عثيمين – رحمه الله - قال بعض الناس في القلب وقال بعض الناس : في الدماغ، وكل منهم له دليل، الذين قالوا : إنه في القلب قالوا : لأن الله تعالى يقول: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [ سورة الحج، الآية: 46].
قال : قلوب يعقلون بها ثم قال: تعمى القلوب التي في الصدور . إذًا العقل في القلب، والقلب في الصدر فكان العقل في القلب.
وقال بعضهم : بل العقل في الدماغ لأن الإنسان إذا اختل دماغه اختل تصرفه ولأننا نشاهد في الزمن الأخير نشاهد الرجل يزال قلبه ويزرع له قلب جديد ونجد عقله لا يختلف ، عقله وتفكيره هو الأول. نجد إنسانا يزرع له قلب شخص مجنون لا يحسن يتصرف، ويبقى هذا الذي زرع فيه القلب عاقلا فكيف يكون العقل في القلب؟ إذًا العقل في الدماغ لأنه إذا اختل الدماغ اختل التصرف، اختل العقل.
ولكن بعض أهل العلم قال: إن العقل في القلب ولا يمكن أن نحيد عما قال الله - عز وجل - لأن الله تعالى وهو الخالق وهو أعلم بمخلوقه من غيره كما قال تعالى: { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } ولأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: « ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا » « فسدت فسد الجسد كله » . فالعقل في القلب والقلب في الصدر لكن الدماغ يستقبل ويتصور ثم يرسل هذا التصور إلى القلب، لينظر أوامره ثم ترجع الأوامر من القلب إلى الدماغ ثم ينفذ الدماغ . إذًا الدماغ بمنزلة السكرتير ينظم المعاملات ويرتبها ثم يرسلها إلى القلب، إلى المسؤول الذي فوقه . هذا القلب يوقع، يمضي، أو يرد ثم يدفع المعاملة إلى الدماغ ، والدماغ يأمر الأعصاب وتتمشى، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس وهو الموافق للواقع وقد أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في كتبه، والإمام أحمد أشار إليه إشارة عامة فقال : محل العقل القلب وله اتصال بالدماغ. لكن التفصيل الأول واضح جدا ، الذي يقبل الأشياء ويتصورها ويمحصها هو الدماغ ثم يرسل النتيجة إلى القلب ثم القلب يأمر إما بالتنفيذ وإما بالمنع لقول الرسول عليه الصلاة والسلام : « إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله » .ا.هـ
وفيما ذكرناه كفاية والله أعلم بالصواب وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
أملاه الفقير إلي ربه المنان
عبدالمحسن بن ناصر العبيكان