هذه قضيتنا ..
(عن هجوم جيش اليهود على قافلة الحرية)
بسم الله الرحمن الرحيم
خرج العشرات من شجعان المسلمين، ومعهم كثير من محبي الحرية، وأعداء الظلم، في رحلة بحرية، منطلقة من تركيا، وغايتها أن توصل إلى الشعب الفلسطيني المجاهد على أرض غزة، من المؤن الغذائية والطبية، ما يرفع عنه – ولو إلى حين – شيئا من لذع الجوع، ومرارة الفاقة، وهوان العزلة.
وكان أن تصدت لهذه القافلة البحرية المسالمة، شراذم من عساكر العدو الصهيوني الأثيم، فاستطالوا عليهم كما تستطيل جماعة الذئاب على الفريسة المنعزلة عن أهلها، فتتناولها بأنيابها ومخالبها، وهي آمنة من الرقيب أو العدو الأمنَ كله، مطمئنة إلى مودة الصديق الذي لا يسأل في النائبات برهانا، الطمأنينةَ كلها !
فكان أن ارتفع من أهل القافلة أقوامٌ، فعدوا من القتلى .. وأقوام آخرون احتسبوا من الجرحى. نسأل الله تعالى أن يتقبل القتلى عنده من الشهداء، وأن يعجل بشفاء الجرحى، ويردهم إلى أهلهم، على أفضل ما يحبون.
ولم يكن في كل ما وقع جديدٌ في أمور الوقائع السياسية، ولا مبتدَع من أحوال هذا الصراع الأبدي بين الحق والباطل، ولا مستحدث في خصوص هذا الصراع بين المسلمين واليهود، مذ أشرقت على الناس شمس الإسلام.
أما في وقائع السياسة، فلأنها تاريخ مستمر من الصراع بين الإرادات المتفاوتة في ما يعضدها من قوة مادية. ثم إن الغلبة تكون دائما للإرادة التي تستطيع أن تنتقل من ضيق الكلمة، إلى فسحة العمل؛ ومن ضوضاء الشعارات البراقة، إلى سكون الفعل الهادف. وهذا الذي فعله اليهود في هذا الزمن الذي نتلظى بأواره .. وهذا الذي أغفلنا أن نطبقه – جهلا من بعضنا وتعمدا من الآخرين - وجرينا لاهثين وراء الكلام المجرد، وأحلام العدالة الدولية، وسراب القانون الإنساني المنصف.
والحق الذي لا مرية فيه، أن العدل لا تقوم أركانه، وأن الحقوق لا ترد إلى أصحابها، إلا بمجالدة ومدافعة، وأن ما سوى ذلك حِلم مصطنع:
وأما في الصراع بين الحق والباطل، فلأن الباطل لا يمكن أن يرضى بعتبة يقف عندها ولا يتجاوزها، وإنما هو كالدود الذي ينخر الجثة الهامدة، لا يتوقف إلا عندما يحيلها عدما، أو كالعدم.ولا خير في حلم إذا لم يكن له = بوادر تحمي صفوه أن يتكدرا
وإذا استكان الحق، وترك مناجزة الباطل، وأهمل أن يطلبه في مواطنه ليقارعه وينتصف منه، لم يلبث أن يجد نفسه في موقف المدافع، الذي يستطيل عليه الباطل، ويذيقه صنوف الهوان.
كان المدافعون – من أهل الإسلام ومن التحق بصفهم – لا يرضون باليهود دولةً ولا كيانا، ويناوئون هؤلاء الدخلاء عسكريا وسياسيا وإعلاميا، وعلى كل ميدان، يصح فيه رفع راية المجاهدة والمغالبة.
ثم فاوضوا – أو قل: فاوض بعضهم، وأنكر بعضهم، وسكت الأكثرون - فتحولت القضية في بعض مظاهرها إلى قضية إنسانية محضة: كسر الحصار عن غزة، ومعالجة المرضى، وإنقاذ الشيوخ والأطفال.
ثم ما رضي العدو حتى جعل المسلمين – وهم في قضيتهم الإنسانية الصغيرة هذه - لا يصلون أيضا إلى ما يودون من الانتصار. بل هو يراوحون مكانهم، يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى، مع أن المطلب – بقياس الدين والسياسة معا – صغير جدا، لا يصلح أن يكون هدفا مرحليا، فضلا عن غاية عظمى.
وأما في خصوص الصراع بين المسلمين واليهود، فلأن اليهود جبلوا على الجبن، طبعا فيهم مستحكما، لا يرفعه عنهم دولة قائمة، ولا سلاح ذري، ولا دعم معنوي تغدقه عليهم دول النصرانية المتجبرة. بهذا الجبن عُرفوا مذ كانوا، فحكاه عنهم القرآن في غير موضع، ومن أصدق من الله قيلا !
ومن طبع الجبان أن ينازل الضعفاء، ويتجبر عليهم، ليرضي نفسه المهزوزة، ويثبت قلبه المرتعش، بانتصار – ولو أن يكون وهميا.
لم يحدث جديد إذن ..***
العدو الصهيوني يتجبر..
وقادة العالم بين متعاطف يستخفي بتعاطفه، ومستنكر يستعلن بإنكاره ..
وحكام المسلمين يستنكرون في كلام هو بالصمت أشبه ..
وشعوب الأمة تتحرق من شدة الغيظ، وتتلوى من تباريح الشوق إلى ميادين العمل المثمر، ثم لا تجد من العمل الممكن غير الكلام، الذي يبدأ صراخا، ثم يتحول – بسبب من اليأس أو السلوّ أو منهما معا - إلى حشرجة خافتة.
لا جديد؟
بلى !
في الحادثة جديد، أو قل: شيء يريد كثير من الناس أن يكون جديدا ..
سئمت الشعوب المسلمة من توالي الجديدين بسلسلة رتيبة من وقائع الذل وأحداث الاستكانة، فتطلعت إلى جديد ينقذها من هذه الرتابة الخانقة. وكان ذلك الجديد أملا غامرا في قائد، يسوس الأمة إلى سابق مجدها. وكان ذلك القائد في – خيال الشعوب – هو حكام دولة تركيا.
وانطلقت الشعوب تمجد هؤلاء الحكام، وتهتف لهم، وتتمثل فيهم غصن النجاة الذي سيخرج الأمة من أوحال الهزيمة التي تردت فيها.
بل قارن بعض الناس بسرعة عجيبة، بين حكام تركيا اليوم، وبين دولة العثمانيين التي قادت الأمة قرونا متطاولة، وتقدمت جحافل الجهاد الإسلامي في قلب أوروبا الصليبية !
ولست بطبعي متشائما. وكيف يجد التشاؤم سبيله إلى قلب عرف وعد الله الذي لا يتخلف، وتدبر سنن الكون التي لا تتغير؟ !
وأنا أيضا لست ممن يهوى مفارقة جماعة الناس، لا لشيء إلا لحب المخالفة، على قاعدة (خالف تعرف).
ولكنني لست ممن ينبهر بالكلام العاطفي، ولا أنا ممن يغتر بالشعارات الزائفة. وأعرف - من طول تقليب النظر في أحوال السياسة وأهلها – كيف أميز بين الكلام الذي هو كلام، والكلام الذي تأتي الأعمال على إثره سراعا.
وإذا تأملنا ما فعله قادة تركيا اليوم، وجدناهم أفضل من غيرهم في خصوص موقفهم هذا. ولكن ماذا وراء ذلك؟
لا ينبغي أن ننسى – وآفة شعوبنا ضعف الذاكرة إلى حد التبلد – أن هؤلاء القادة كانوا إلى أمد قريب جدا يصافحون قادة اليهود الغاصبين، ويضاحكونهم، ويتبادلون الزيارات الودية معهم.
ولا ينبغي أن ننسى أن العلاقات الدبلوماسية بين تركيا ودولة العدو قائمة مستقرة، مع شيء من التوتر، والمشاحنة اللفظية، توجد نظائره بين كثير من الدول الحليفة، التي تجمع بينها مصالح سياسية واقتصادية كبرى.
ولا ينبغي أن ننسى حقيقة هذا الموقف التركي الذي ارتفع به قادة هذا البلد – في طرفة عين - إلى مصاف المنقذين والأبطال: دولة توجه قافلة إنسانية، فيتعرض لها جنود دولة أخرى في المياه الدولية، ويقتلون ويجرحون العشرات من رعاياها، ثم يكون ردها خطابا حماسيا، واستدعاء للسفير، وتهديدا بقطع العلاقات الدبلوماسية !
أهكذا كانت ردود الخلفاء العثمانيين، الذين يشبه قادة تركيا اليوم بهم؟
ثم لا ينبغي أن ننسى الأخطر، الذي قد يضيع في هذا البحر المتلاطم من الكلمات والخطابات والشعارات.
الأخطر أن قادة تركيا إنما يتحدثون عن القضية من جانبها الإنساني فقط. فقضية فلسطين محجّمة عندهم في خصوص مأساة غزة، وضرورة كسر الحصار الظالم المفروض على أهلها. وتحجيم القضية في هذا الجانب الإنساني المحض لا ينازع فيه كثيرون ممن لا يحملون هم القضية الفلسطينية أصلا، من أهل أوروبا وأمريكا، ومن دعاة حقوق الإنسان، ومحبي الحرية في كل مكان.
جميل أن يقال: (لن ننسى غزة !).
ولكن الأجمل أن يقال: (لن ننسى القدس !)، بل (لن ننسى حيفا ولا يافا !). وبعبارة أخرى أكثر وضوحا: (لسنا نقبل بوجود شيء اسمه دولة إسرائيل، فضلا عن أن نفاوض هذه الدولة اللقيطة، فضلا عن أن نستجديهم أو نطالبهم – والفرق عند التحقيق يسير - ليرفعوا الحصار الاقتصادي عن أهل غزة).
بل الأجمل من ذلك كله، فعل تغني شرارته الملتهبة عن كثير من القول.
***
نعم، إن من الحق أن يقال إن تركيا عاشت عقودا تحت حكم علماني هو من أعتى ما وجد في هذا العصر تعصبا للعلمانية وحضارة الغرب الكافر، ومروقا من الإسلام وقيم الشرق. ومن الحق أيضا أن الخروج من هذا السرداب المظلم لا يكون إلا بكثير من الجهد، ووابل من التضحيات الجسام. ومن الحق أخيرا أن قادة تركيا الجدد قد خطوا في طريق الخروج من هذا السرداب، بعض الخطوات الخجولة التي تفتح بابا للأمل، في مستقبل زاهر.
أما أن تقتنع الشعوب أن هذه المواقف المعلنة خير ما يتوقع، وأفضل ما يكون، فوهم عريض، وترد في مهاوي القناعة بالذل، واستمراء الهوان.
وأما أن يقارن هؤلاء القادة من أصحاب الخطابات والكلمات، بالخلفاء العثمانيين، الذي غرسوا أعلام الجهاد في قلب الصليبية الحاقدة، فتطفيف عجيب في الموازين، وقلب خطير للحقائق، وتسمية للأشياء بغير أسمائها، إلا أن يكون ذلك على طريقة العرب حين يسمون اللديغ سليما .. تفاؤلا.
***
ليس يهمني كثيرا أن أحلل الموقف التركي، ولا أن أتنبأ بما سيؤول إليه فيما يستقبل من أيام الناس. فهذه أمور سياسية آنية، قد تتمخض عن العظيم، وقد ينتج عنها الحقير، بل قد تمحى وتزول، فكأنها ما كانت قط !
ولكن الذي يحزنني كثيرا، بل يملأ كياني كله قلقا وألما، أنني أرى الأمة لا تزال – بعد أحقاب متطاولة – غير قادرة على معرفة حقيقة غاياتها، وطبيعة ما يطلب منها للوصول إلى تلك الغايات.
ويحزنني أنها لا تمتلك – إلا عند قلة قليلة من أفرادها – الميزان العقدي الصارم الذي يوزن به الأشخاص، وتميز به الجماعات، وتمحص به الأفكار، فتطرح العقائد الفاسدة، والتصورات الفكرية المنحرفة، بدلا من أن ترفع إلى درجات القيادة والريادة.
ويحزنني أنها – بعد أن لدغت مرارا من جحر النفاق السياسي – لا تزال مستعدة للانخداع مرة ومرات، بل كلما نعق ناعق، أو صدح صادح.
ويحزنني أنها لا تقرأ تاريخها، ولا تاريخ الآخرين، وأنها إذا قرأت سرعان ما تصيبها آفة النسيان، فتقتلع من القلوب والأذهان جذور الفهم، وتكسر أدوات التحليل المنطقي السليم.
ويحزنني أنني أسمع عن غزة، وعن حصار غزة .. ولا أسمع – إلا لماما – عن محاولات تهويد القدس، وتخريب الأقصى .. ولا أسمع قط عن وجوب تحرير فلسطين كلها، من النهر إلى البحر.
هذه قضيتنا، فلا تنسوها ..
22/06/1431