الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أوّل ما أتصفّح كتابًا من مطوّلات النحو، أبدأ بقراءة شواهده الشعريّة. وأوّل ما أتصفّح مصدرًا قديما من مصادر تاريخنا الإسلامي، أبحث عن القصائد والمقطوعات الشعرية، ثم ألِج من خلالها إلى الكتاب. هي عادة قديمة تمكّنت منّي، وبفضلها قرأتُ معظَم "أزهار الرياض" على غير ترتيب ولم أبلغ الحلم بعد. وكذا كان الأمر مع مطوّلات أخرى...
وكنتُ أظنّني تعافيتُ منها؛ لكنني منذ أيام رجعتُ إلى كتاب "الإحاطة في أخبار غرناطة" للسان الدين ابن الخطيب، بتحقيق محمد عبد الله عنان، وإذا بي أتتبّع الأشعار قبل الأخبار.. وكأنّ لسان حالي يقرّر أنّ الشعر أصدق من التاريخ، وإن كان أعذبه أكذبه! فالشاعر يبالغ مجنّحًا بالخيال، لكنه يمنحنا لبَّ الحقيقة. أمّا المؤرّخ، فيبالغ في تحرّي الحقيقة، فيغرقنا في الخيال. وبين مدّعي الصدق والمجاهر بالكذب، أجدني أحيانًا أقرب إلى الثاني وأدنى –بفضله- إلى حقائق التاريخ والحياة.
فتحتُ "الإحاطة" التي حقّقها عنان، وأطلقت لعينيّ العنان، تتصيّدان ما عسى يضمّ هذا السفر الجليل بين دفّتيه. ورحت أنقل الطرف بِنَهَم مِن قصيدةٍ إلى أخرى، ومن بيت مفرد إلى مقطوعة مرقصة.. لكن سرعان ما كَلَّ الطّرف، واضطرب الفكر، وتعكّر المزاج؛ وذلك لأنّ المحقق اضطرني إلى الانتقال من الشعر إلى العروض، ومن التحليق في سماء الشعر إلى غبار أقبية التحقيق.
وما ندمت.. إذ عشقي لغبار المخطوطات لا يقل عن هوسي بالقصائد المطربات، وكلَفي بتصويب النصوص وضبطها ليس أدنى من رغبتي في الكشف عن معاني الأشعار.
ولست أدري إن كانت المصادر خانت المحقّق؟ وهو الذي سافر إلى الأندلس والمغرب وتونس عدّة مرّات... أم كان نتاجه غاية ما أمكنه بلوغه في صنعة التحقيق؟ أم كانت العجلة والرغبة في إخراج الكتاب إلى الناس وراء ذلك كله؟
ورحم الله ابن حمديس، الشاعر الأندلسي، القائل:
وأصْعَبُ مِنْ رُكوب البحر عندي --- أمورٌ ألْجأتْكَ إلى رُكوبِهْ
وكانت النيّة أن أجمع كلّ ما جانَبَ فيه المحقّقُ الصوابَ في ضبطه لأشعار الإحاطة؛ لكن عودتي إلى مقدمة الكتاب وما صادفته فيها من تصحيفات وأخطاء، صرفتني عن قصدي الأول، وأقنعتني بمراجعة التحقيق كلّه مراجعةً نقديّة. فألزمت نفسي بتفحّص التحقيق صفحةً صفحةً، من أوّل الكتاب إلى آخره، وجمع كل ما يقتضي التصويب أو الاستدراك، عساه يكون مفيدًا للباحثين والدارسين، ممّن لهم اهتمام بالدراسات الأندلسية.
وما أقدّمه اليوم إلى الأفاضل من أعضاء مجلس الألوكة هو باكورة العمل. وأسأل الله أنْ يبارك لي في وقتي، ويوفّقني إلى بلوغ الغاية.
وقد ألزمتُ نفسي بتجنُّب الحكم على قيمة التحقيق، والاكتفاء بعرض ما ترجّح لديّ أنه مجانب للصحّة، ثم تصويبه.
ولا أدّعي العصمة لنظري، بل هو اجتهادٌ متواضع ولّده اجتهاد جبّار. والمجتهد مأجور؛ لكنني أطمع في مضاعف الثواب، بحرصي على موافقة الصواب. والله ولِيُّ التوفيق.
(يتبع...)