أَنَلُوْمُ الْمُشَعْوِذِيْ نَ أَمْ نُنَبِّهُ الْمُغَفَّلِيْن َ ؟
طالما تعجبتُ كثيرا, وأبحرت في لُجَج الحيرة الّلجِيَّةِ, وسافرت في فيافي الشك, وقطعت القفار والصحراواتِ الفكريةَ , باحثاً عن جواب يرسو بسفينة أفكاري على شواطئ اليقين والحقيقة .....
وكثيراً ما تساءلتُ : أ نحن الآن نحيا في القرن الحادي والعشرين , أم أننا نعيش في الجاهلية وضلالها وخرافاتها وأوهامها, على الرغم من أحدث وسائل العلم والحضارة التي توصلنا لها ؟
وكم أشعرُ بالعجب عندما أنظر في شاشةٍ فأرى مشعوذاً يُتمتم بطلاسمَ ـ أنا على يقين تامٍّ أنه لا يعرف معناها, ولا يستطيع أن يفك أسرارها, أو أن يسبر أغوارها, ويحلل عبارتِـها ـ ....ثم أحدِّق وكُلِّي علامةُ استفهام عندما أرى أن هذا المشعوذَ قد أصبح طبياً يداوي المرضى عن طريق ذبذبات الهاتف, ولم أكن أتوقع يوماً ما أن أشاهد طبيباً يصف دواءً على الهاتف , فهذا الدواء اللاسلكيُّ ما سمعنا به في آبائنا الأولين, ولن نسمع به إلا عند الدجالين والمشعوذين....
على كل حالٍ, ليت الأمرَ اقتصر على الطب, بل أصبح المشعوذ يعلم السرَّ وأخفى, والجهر والنجوى, بل أصبح طبيباً يعلم الأمراض الظاهرة والباطنةَ, ولكل داءٍ عنده دواءُ, وهو أيضاً محلل نفسي, يُرشد الحيارى والتائهين الذين أثقلهم الهم والأسى, وأقعدهم الحزن والشقاء....وهو فيلسوفٌ يعالج الأمور بحكمة لم يسمع بها أفلاطون ولا سقراط ولا لقمانُ الحكيم.....وهو يتنبأ بالغيب, ويعلم ما يخبئ القدر, ويستطيع بقوته السحرية الفرعونية أن يحوّل مستقبلك الدامسَ المظلمَ إلى صباح مشرقٍ باسم, كما أنه إذا غضب منك, فكن على يقينٍ أن حياتَك ستصبح جحيماً يتلظَّى , وناراً مستعِرة, وليلاً حالكاً لا صبحَ بعده!
وهذا المشعوذُ ينجّم , ويقرأ الكفّ بل يقرأ الجوارحَ كلها , ويريك مستقبلَك مع بقايا كوب القهوة إن خيراً فخير, وإن شراً فشر,.... يسترق السمع فيتبعه شهابٌ ثاقبٌ , ولكنْ, ليس من السماء فحسبُ, بل من الفكر النيّر, والعقيدةِ الصحيحة, التي تكشف زيفه وكذبه, وترد كيدَه في نحره....
لكنَّ الاستفهام يظل متحفّزاً :
لماذا نعرفُ أنه مشعوذ وكذاب أشِرٌ , وساحرٌ أفّاكٌ ,وفي الوقت نفسِه نرى كثيراً من الناس يصدقون كلامه, وكأن ذلك الكلامَ لا ريب فيه, تنزيلٌ من الرحمن الرحيم ؟
لماذا نقرأ في كل يومٍ, ومع إشراق شمس كل صحيفة, أو بزوغ هلال كل مجلة شهرية, خبراً عن فضيحة مشعوذ, أو عن قبضٍ على دجال, أو عن فتاةٍ تعرضت للأذى على يد معتدٍ أثيم, أو امرأةٍ تبعت هذا الدجالَ, وشربت من كأس أفكاره المسمومة حتى فرقَ بينها وبين زوجها وأولادها...
أو عن رجل بدّد أمواله سدىً معتمداً على المنجمين والدجالين...نقرأ ذلك ونظن أن هذا آخرُ خبر سنقرؤه من هذا النوع , لأن السعيدَ من اتّعظ بغيره, والمؤمنَ لا يُلدغ من جحر مرتين...ولا يُطلّ علينا فجرٌ جديد إلا بخبر جديدٍ عن دجالٍ جديد وعن ضحيةٍ جديدة!!
لماذا نرى ـ على الرغم من التقدم العلمي والفكري, وعلى الرغم من المسافة الشاسعة التي تفصل بيننا وبين الجاهلية الأولى, وعلى الرغم من الثقافة التي نتعلمها من القرآن والسنة, والتي فضحت المشعوذين, وأظهرت كيد السحرة الكائدين, وعلى الرغم من الثقافة العصرية التي تحوط بنا من كل جانب, من برامجَ علمية إلى صحف فكرية, ومجلاتٍ منهجية وإذاعات هادفةٍ..... ـ لماذا نرى على الرغم من ذلك كثيراً من المغفلين الإمّعاتِ الذين إذا قيل لهم :
هناك رجلٌ بتمتماته وطلاسمه يجعل العقيمَ ولوداً, ويجعل الشقي سعيداً, والغني فقيراً, والعَزَبَ متزوجاً, والطالبَ الكسولَ متفوقاً, ويكاد يقول : أنا ربكم الأعلى, وأنا الذي أحيي وأميت, وأنا علام الغيوب ....وما إلى هنالك من عبارات التعظيم والتبجيل..., لماذا يصدقه هؤلاء المغفلون ؟....
يقول أحدهم :(عندي تيسٌ يحلب, وحليبُهُ شفاءٌ من كل داء) فنرى الناس أفواجاً أفواجاً, مزدحمين على بابه...والآخرُ يقول : (إنني سوف أطيرُ من غير جناح, وهذه من إحدى كراماتي) فيتهافتُ الناس إليه ذُرافاتٍ ووحداناً, ومن كل فجّ عميق !
والأمثلة كثيرة, والمشعوذون في تزايد, والمغفلون يصدّقون كل ما يسمعون, وليت الأمر اقتصر على العوامّ ,بل تعداه إلى بعض المثقفين مع الأسف ....
فعلينا ـ أيها القارئُ الكريم ـ أن نفتح عقولَنا وقلوبنا وبصائرنا وبصرَنا على الحقيقة , فالحقيقةُ بياضُها ناصع, وشمسُها واضحة, وفي طلعة الشمس ما يغنيكَ عن زُحَل, ولا تغترَّ بالمشعوذين ودجلهم, وبكثرة اللاهثين وراءَهم, ولكن كما قال الشاعر:
وليس يصحُّ في الأذهان شيءٌ إذا احتاج النهارُ إلى دليل
وكما قال الآخر:
وَهَبْني قُلتُ: هذا الصبحُ ليلٌ أيَعمى العالَمونَ عن الضياء ؟!
فعلينا ألا نلومَ المشعوذين فحسب, بل يجب أن نكافحهم ـ بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنىً ـ لأنهم مفسدون في الأرض, ويَعيثون فيها فساداً وجهلا وضلالاً وفوضى....
وعلينا أن نُنَبّهَ البسطاءَ, وننيرَ عقولهم بنور العلم والمعرفة, وأن نضعَ سياجاً منيعاً ,وحصناً رفيعاً يحول بين المشعوذين وبين تحقيق مآربهم من خلال المغفلين, حصنٌ مبنيٌّ من الهدى والفهم , على أُسٍّ متينٍ من الفكر الحرّ النيّر, وابتاعِ الحق والرشاد.
الكاتب: مصطفى قاسم عباس