بسم الله الرحمن الرحيم
العقيدة والوهن
بقلم الدكتور: احمد بن عبدالرحمن القاضي حفظه الله
الحمد لله وحده، والصلاة، والسلام على من نبي بعده. أما بعد :
تمر بأمتنا الإسلامية، وعلى وجه الخصوص، أرض فلسطين، فتن، ومحن، تدع الحليم حيراناً! لا يكاد يمر نهار حتى تجبهنا وسائل الإعلام بباقعة من غدرات يهود؛ مساجد تحرق، أشجار تقتلع، بيوت تهدم، بشر يطرد، وأعظم من ذلك كله أرواح تزهق في مواجهات غير متكافئة، بين أطفال وشبان لا يملكون إلا الحجارة في المقاليع، وجنود مدججين بالسلاح يحتمون بالمدرعات تقذف بحمم النار!
وأعجب من ذلك كله ذلك الصمت المطبق، أو الأنات الخافتة، تنبعث، على استحياء، من بين صفوف المتفرجين على جنبتي المسرح الدامي، وكأن الأمر لا يعنيهم، أو كأنما كممت أفواههم، وقيدت أيديهم، وأرجلهم، فلا يملكون حراكاً، ولا صياحاً! ما الأمر ؟! ما السر ياقوم ؟!
لم تزل هذه المنطقة، أرض فلسطين، منطقة ملتهبة على مر العصور. لم تزل محط أنظار أهل الأديان، ومحل أطماع طلاب الدنيا، على مر العصور. ومنذ أن أورثها الله الذين اصطفى من عباده، من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، باستلام الخليفة الراشد، عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، مفاتيح بيت المقدس، وهم يذودون عنها كل بعير أجرب، ويذبون عنها كل ذباب مزعج؛ من صنوف الكفرة، من اليهود، والنصارى، والمشركين، في مواقف مشهورة، ومواطن مذكورة. فرغم طول الاحتلال الذي جثم على بيت المقدس، وأكنافه، (نحو تسعين سنة) وسواحل الشام، وثغوره،(نحو مائتي سنة) إبان الحملات الصليبية المتلاحقة، لم تنقطع روح الجهاد، ولم يتوقف الكر، والفر، على الجبهات الساخنة. لكن آل الحال هذه الأيام إلى نوع من الغيبوبة أو الموات، وفقدان الكرامة، وهوان الذات، في صورة لم يسبق لها مثيل.
لقد فقد (العرب) الذين هم مادة الإسلام، وحاضنوه الأصليون، قواهم الإيمانية، بل حتى نخوتهم العروبية، حتى عبَّر عن هذا قائد شرطة (جنين) حين داهمها يهود، وأعملوا فيها الفتك، والقتل، بقوله : لو سمع صراخنا أبو جهل لأنجدنا، فأين الجوار يا عرب! وأين الدين يا مسلمون ! وحين (توسوس) إسرائيل أن أسلحة ما سربت إلى الجوار، تملأ الدنيا وعيداً، وترعد، وتزبد، وتوتر المنطقة بأسرها. وتنبري أمريكا، راعية محادثات السلام، زعموا، لتملأ الدنيا تأكيداً بالتزامها بحماية أمن إسرائيل، دون حياءٍ دبلوماسي، ولا حياد نفاقي، لبقية الأطراف التي تحسن بها الظن.
لقد بتنا نرى أمماً أقل شأناً، وعدداً، من العرب، والمسلمين، تشعر بعزتها، وتفتخر بقوميتها، تجابه الغرب المتسلط، وتقف بشجاعة، وتحد، أمام ضغوطاته، ودهاته. فمتى كان الكوريون، أو الفرس، أو دويلات في أمريكا الجنوبية، أكثر اعتداداً بأنفسهم من العرب، وإلى أي عقيدة يركنون، كما يركن المسلمون؟
لا يجد المتأمل في هذه المعضلة جواباً لهذا اللغز، إلا فيما حدث به من لا ينطق عن الهوى، صلى الله عليه وسلم ! فعَنْ ثَوْبَانَ، رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا ». فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: « بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ. وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِى قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ». فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهَنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ». رواه أبو داود، وصححه الألباني،وفي رواية عند أحمد: «حُبُّ الحياة، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ»
إنه من السهل أن يلقي أحد باللائمة على الأنظمة، والحكومات، ولا ريب أنها تتحمل مسؤولية القرار، ولكن ليس من الإنصاف أن يغفل حال الشعوب. إن هذا التشخيص النبوي للعلة المريرة: «حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ» ينطبق على الأفراد، والمجتمعات الإسلامية، أيضاً! ألم ينهمك كثير من الناس في ملاحقة الدنيا، والعكوف في البورصات؟ ألم يتبايعوا بالعينة، ويتبعوا أذناب البقر؟ ألم يعمروا الحانات والمراقص، ويهجروا المساجد، ودور العلم، ألم يفسحوا الأجواء لعدوهم أن يلقي في قعر بيوتهم الأفلام الماجنة، والأغاني الهابطة، ويقتلوا روح الفتوة والقوة في شبابهم؟ وبالجملة : ألم يركنوا إلى الدنيا، ويفروا من الموت؟ بلى ، والله. وما ربك بظلام للعبيد.
إن المخرج من هذه الورطة، والدواء من هذه العلة، إنما هو بإذكاء فتيل الإيمان، وبعث جذوة العقيدة التي تحي العظام وهي رميم، وتعيد تشكيل النفوس الخداج، لتعود سوية على منهج النبوة. وليس هذا دفقاً عاطفياً، ولا انفعالات حماسية. كلا والله! إنه الحق الذي تكفل الله به: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد : 7]، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنّ َ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنّ َهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور : 55].
إنه يتعين على الأمة بمجموعها، رعاةً، ورعيةً، أن تتماسك، وتراجع دينها، الذي هو حقيقة شخصيتها المميزة، وأن تكف عن الارتماء في أحضان الثقافات الطاردة لها، وأن تعتز بعزة الله، وتستقوي بقوة الله . قال تعالى:(فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)[النساء: 139]، و (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) [البقرة : 165