دروس مستفادة من حادثة بئر معونة
الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل

أيُّها الإخوة المؤمنون: تنطوي حادثة سرية بئر معونة، وما حصل للمسلمين فيها من عظيم الابتلاء على دروس مهمة، جديرٌ بالمسلم أن يتأملها، ويستفيدَ منها، ولا سيما في وقتٍ تعظم فيه المحن، وتشتد الأزمات.
فهذه الحادثة تبين بجلاء حقيقة المشركين، وشدة عداوتهم للمؤمنين، وغدرهم بهم حينما تسنح فرصة للغدر، كما تبرز حجمَ الابتلاء الذي ابتلي به هؤلاء النخبة من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد خرجوا يُعلمون الناس القرآن، فقُتلوا خيانةً وغدرًا.

وما كاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - يكفكفون دموعهم على شهداء أحد حتى ابْتُلُوا بقتل سبعين آخرين في هذه الحادثة المؤلمة، وليس بين الحادثين إلا قريبًا من ثلاثة أشهر[21]؛ فابتلاء يعقبه ابتلاء، وامتحان في إثر امتحان للطائفة المُؤْمِنَة، وليس المسلمون في هذا العصر بأكرم على الله - تعالى - من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام - رضي الله عنهم - الذين ابتلوا أشدَّ الابتلاء، ومن أراد ثواب الآخرة صبر على ابتلاءاتِ الدنيا. والابتلاءُ سنة ماضية يجريها الرب - تبارك وتعالى - على الأنبياء وأتباعهم.

ومن أهمِّ الدُّروس التي يحتاجها المسلم في هذا الزمن من تلك الحادثة: ثباتُ هذه العصابة المؤمنة على دينهم حتى لقوا الله - تعالى - وكان أشدَّ شيء حرصوا عليه وهم يلقون الله - تعالى - أن يبلغوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ويبلغوا إخوانهم رضاهم عن الله - تعالى - بما أكرمهم به من الكرامة والشهادة، وبما أسبغ عليهم من الرضى عنهم حتى قالوا: "اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا"[22]، وفي رِوَاية قالوا: "ربنا أخبر إخواننا بما رضينا ورضيت عنا فأخبرهم عنهم"[23].

إنهم ما نالوا هذا الرِّضَا عن الله - تعالى - إلا لأنه - سبحانه - أرضاهم، وقد استحقوا هذا الرضا برحمة الله - تعالى - ثم بسبب ثباتهم على دينهم رغم المحنة والبلاء، حتى بذلوا نفوسهم رخيصة في سبيل ذلك، وما كان لهم من هم إلا أن يعلم إخوانهم مصيرهم، ورضا الله - تعالى - عنهم؛ حتى يثبتوا على دينهم مهما كانت الصوراف والتبعات؛ ذلك أن رضى الله - تعالى - يستحق كل تضحية.

وثمة ملاحـظة لابـد أن نفطن لها، وهـي أن الخـوف عـلى الأنفـس لا يُسوِّغ وقف الدعوة إلى الله - تعالى - فإذا ما عظُم مكرُ الكافرين، وافتراء المنافقين على عباد الله المؤمنين، وآذوهم بسبب دعوتهم إلى الله - تعالى - فإن ذلك ليس عذرًا صحيحًا لتعطيل الدعوة، حتى ولو كان في ذلك مظنة ذهاب النفوس، فقد رأينا النبي - صلى الله عليه وسلم - كان خائفًا في بداية الأمر من إرسال هذه السرية، وصرح بخوفه عليهم من الغدر؛ ولكنه غلَّب جانب مصلحة الدعـوة، وتبليغِ الدين للنـاس على جـانب الخوف على أصحابه، فكان ما كان من أمر الله - تعالى - وقدره.

فإذا كان الخوف على النفوس لا يسوِّغُ وقف الدعوة إلى الله - تعالى - وتعطيلها فما دونه من باب أولى؛ كالخوف على الجاه والمال وغيره.
ألاَّ فاتقوا الله ربكم، واثبتوا على دينكم، وادعوا إلى سبيل ربكم بالحكمة والموعظة الحسنة؛ حتى تلقوا الله - تعالى - فيرضى عنكم وترضوا عنه، وذلك الفوز العظيم.
وصلوا وسلموا على خير خلق الله؛ كما أمركم بذلك ربكم.

وها هنا مسائل عدة يحسن الحديث عنها:
المسألة الأولى: قال بعض العلماء: "إن الدعاء على الكفار منسوخ بقول الله – تعالى -: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128].
وقال الحافظ في "الفتح" (11/199): وحكى ابن بطال أن الدعاء للمشركين ناسخ للدعاء على المشركين، ودليله قوله - تعـالى -: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}، قال ـ أي ابن بطال ـ والأكثر على أن لا نسخ، وأن الدعاء على المشركين جائز، وإنما النهي عن ذلك في حق من يرجى تألفهم ودخولهم في الإسلام. ويحتمل في التوفيق بينهما أن الجواز حيث يكون في الدعاء ما يقتضي زجرهم عن تماديهم على الكفر، والمنع حيث يقع الدعاء عليهم بالهلاك على كفرهم" ا هـ.

وأدلة من قال بالنسخ:

1. حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع، فربما قال إذا قال سمع الله لمن حمده: ((اللهم ربنا ولك الحمد، اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة ابن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، اللهم اشدد وطأتك على مُضَر، واجعلها سنين كسني يوسف))، يجهر بذلك، وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر: ((اللهم الْعَن فلانًا وفلانًا لأحياء من العرب)) حتى أنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} الآية [آل عمران: 128] الآية، أخرجه البخاري في التفسير باب {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (483)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة باب استحباب القنوت في جميع الصلوات إذا نزلت بالمسلمين نازلة (675)، وجاء في رواية مسلم: "ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما أنزل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}" وفي لفـظ آخـر لمسلم: قـال أبـو هريرة - رضي الله عنه -: "ثم رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الدعاء بعد، فقلت: أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ترك الدعاء لهم، قال: فقيل: ما تراهم قد قدموا؟".

2. حديث أنس - رضي الله عنه - قال: "قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهرًا بعد الركوع يدعو على أحياء من العرب ثم تركه"؛ أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة الرجيع (4096)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة باب استحباب القنوت في جميع الصلاة (677) واللفظ لمسلم.
فهذان الحديثان وما في معناهما تنسخ ما كان جائزًا في أول الأمر من الدعاء على المشركين ولعنهم.

والقول بالنسخ مردود بما يلي:

1. حديث أنس - رضي الله عنه -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه، فقال: ((كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم؟!)) فنزلت هذه الآية: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128]، أخرجه البخاري تعليقًا في المغازي باب: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] قبل الحديث (4069)، ووصله مسلم في الجهاد باب غزوة أحد (1791)، وأحمد (3/99).


فإذا كانت الآية قد نزلت في شأن غزوة أحد خاصة، وكان سياقها في الحديث عن تلك الغزوة وما جرى للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولصحابته - رضي الله عنهم - من عظيم الابتلاء؛ فإن دعاءه على المشركين وقع بعدها، فغزوة أحد كانت في السنة الثالثة، وحادثة بئر معونة التي كانت سببًا في دعائه على بعض قبائل العرب كانت في السنة الرابعة مما يدل على أنه لا نسخ، وانظر: "فتح الباري" (8/75).
وجُمْهُور المُفَسِّرِين والعُلَماء على القول بعدم النسخ هنا، وأن الدعاء على المشركين مشروع.


قال ابن عطية - رحمه الله تعالى - في "المحرر الوجيز" (3/327): "وما ذكر في هذه الآية من أن هذه الآية ناسخة لدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - على المشركين كلام ضعيف كله، وليس هذا من مواضع الناسخ والمنسوخ".
وقال القرطبي - رحمه الله تعالى - في "تفسيره" (4/129): "زعم بعض الكوفيين أن هذه الآية ناسخة للقنوت الذي كان يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع". وساق القرطبي حديث أبي هريرة في دعائه ثم نزول هذه الآية ثم قال: "وليس هذا موضع نسخ؛ وإنما نبه الله - تعالى - نبيه على أن الأمر ليس إليه، وأنه لا يعلم من الغيب شيئًا إلا ما أعلمه، وأن الأمر كله لله، يتوب على من يشاء، ويعجل العقوبة لمن يشاء، والتقدير: ليس لك من الأمر شيء ولله ما في السموات وما في الأرض دونك ودونهم، يغفر لمن يشاء، ويتوب على من يشاء، فلا نسخ والله أعلم"، وقد ذكر الطبري معنى الآية بما لا نسخ فيها (4/86).


وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى - في "الفتاوى" (21/156): "وليس لأحد أن يحتج على النسخ بما في الصحيحين عن ابن عمر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر يقول: ((اللهم العن فلانًا وفلانًا...)) بعدما يقول: ((سمع الله لمن حمده: ربنا ولك الحمد))، فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128]، فإن هذا إنما يدل على ترك اللعنة لهم؛ لكونه ليس له من الأمر شيء لجواز توبتهم، وهذا إذا كان نهيًا فلا فرق فيه بين الصلاة وخارج الصلاة، والكلام إنما هو في الدعاء الجائز خارج الصلاة؛ كالدعاء لمعينين مستضعفين، والدعاء على معينين من الكفار بالنصرة عليهم، لا باللعنة ونحو ذلك".


وقال ابن عاشور - رحمه الله تعالى - في "التحرير والتنوير" (4/81): "وروى الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا على أربعة من المشركين، وسَمَّى أناسًا، فنزلت هذه الآية؛ لنهيه عن ذلك، ثم أسلموا، وقيل: "إنه هم بالدعاء، أو استأذن الله أن يدعو عليهم بالاستئصال فنُهِيَ"، ويرد هذه الوجوه ما في صحيح مسلم (1792) عن ابن مسعود قال: "كأني أنظر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يحكى نبيًّا من الأنبياء ضربه قوم وهو يمسح الدم عن وجهه..." ا هـ.


وقال ابن عاشور - أيضًا - (4/82): "وأغرب جماعة فقالوا: نزل قوله – تعالى -: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] ناسخًا لما كان يدعو به النبي - صلى الله عليه وسلم - في قنوته على ذكوان وعصية ولحيان..." ثم قال ابن عاشور بعد أن نقل كلام ابن عطية: "وكيف يصح أن تكون نزلت لنسخ ذلك وهي متوسطة بين علل النصر الواقع يوم بدر، وتفسير ما وقع في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك الدعاء على المشركين بعد نزول هذه الآية" أخذًا بكامل الأدب؛ لأنَّ الله لما أعلمه في هذا بما يدل على أن الله أعلم بما فيه نفع الإسلام ونقمة الكفر ترك الدعاء عليهم؛ إذ لعلهم يسلموا" ا هـ.

2. ما رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (2/155) برقم: (1100) من حديث عروة ابن الزبير أن عبدالرحمن بن عبدالقاري وكان في عهد عمر بن الخطاب مع عبدالله بن الأرقم على بيت المال: "أن عمر خرج ليلة في رمضان... وفيه: "فكان الناس يقومون أوله، وكانوا يلعنون الكفرة في النصف: ((اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك، ولا يؤمنون بوعدك، وخالف بين كلمتهم، وألق في قلوبهم الرعب، وألق عليهم رجزك وعذابك إله الحق...)) ورواه البيهقي (2/493) دون ذكر اللعن والدعاء على الكافرين. وصحح إسناد ابن خزيمة الألباني.


وعلى هذا كان عمل أهل المدينة؛ كما قال الأعرج عبدالرحمن بن هرمز - رحمه الله تعالى -: "ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان" أخرجه مالك في "الموطأ" برقم: (253)، وعنه عبدالرزاق في "مصنفه" برقم: (7734).


وقال ابن عبدالبر في "الاستذكار" (5/172) : "والأعرج - وهو عبدالرحمن بن هرمز - أدرك جماعة من الصحابة، وكبار التابعين، وهذا هو العمل بالمدينة".

المسألة الثانية: أن الدعاء على الكفار ولعنهم مباح، وليس بواجب إن شاء فعله، وإن شاء تركه، والهدي النبوي في ذلك الدعاء للمسالمين منهم والدعاء على المحاربين منهم، كما نقل ذلك ابن عبدالبر - رحمه الله تعالى - في "الاستذكار" بعد أن ساق قول الأعرج (5/165) فقال: "ففيه إباحة لعن الكفرة، كانت لهم ذمة أم لم تكن، وليس ذلك بواجب؛ ولكنه مباح لمن فعله غضبًا لله في جحدهم الحق، وعداوتهم للدين وأهله،وأما قوله: "في رمضان" فمعناه: "أنهم كانوا يقنتون في الوتر في صلاة رمضان، ويلعنون الكفرة في القنوت؛ اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دعائه في القنوت على رعل وذكوان وبني لحيان، الذين قتلوا أصحاب بئر معونة".

وقال ابن عبدالبر - أيضًا - (5/172): "ومن فعل الصحابة وجلة التابعين بالمدينة في لعن الكفرة في القنوت أخذ العلماء لعن الكفرة في الخطبة الثانية من الخطبة والدعاء عليهم" ا هـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى - (21/154): "وأما الدعاء على أهل الكتاب - كما يتخذه من يتخذه سنة راتبة في دعاء القنوت في النصف الأخير من شهر رمضان أو غيره - فهذا إنما هو منقول عن عمر بن الخطاب، أنه كان يدعو به لما كان يجاهد أهل الكتاب بالشام، وكان يدعو في المكتوبة، وهو موافق لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقنت أحيانًا يدعو للمؤمنين ويلعن الكافرين، ويذكر قبائل المشركين الذين يحاربونه؛ كمُضَر ورعْل وذكوان وعصية، وعمر لما قاتل أهل الكتاب قنت عليهم في المكتوبة؛ فالسنة أن يقنت عند النازلة، ويدعو فيها بما يناسب أولئك القوم المحاربين".

المسألة الثالثة: حكم الدعاء على مُعَيَّنٍ ولعنه:
ظاهر الأحاديث الجواز: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد دعا على قبائل سماها، وعلى أشخاص ذكرهم بأسمائهم. ومن قال بأن قوله – تعالى -: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}، ناسخ لدعائه - عليه الصلاة والسلام - عليهم بأسمائهم منع ذلك، وبعضهم جعل دعاءه عليه الصلاة والسلام خاصًّا به؛ لأنَّ الله - تعالى - قد علمه أنهم لا يؤمنون، وبعضهم عكس الأمر فجعل منع لعنهم خاصًّا به - عليه الصلاة والسلام - لأنَّه مجاب الدعوة.

قال ابن العربي - رحمه الله تعالى - في "أحكام القرآن" (4/312): "دعا نوح على الكافرين أجمعين، ودعا النبي - صلى الله عليه وسلم - على من تحزب على المؤمنين، وألب عليهم، وكان هذا أصلاً في الدعاء على الكفار في الجملة، فأما كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه؛ لأن مآله عندنا مجهول، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة للسعادة، وإنما خصَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء على عتبة وشيبة وأصحابه؛ لعلمه بمآلهم، وما كشف له من الغطاء عن حالهم. والله أعلم".

وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - (8/335): "والدعاء على جنس الظالمين الكفار مشروع مأمور به، وشرع القنوت والدعاء للمؤمنين والدعاء على الكافرين. أما الدعاء على مُعينين كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلعن فلانًا وفلانًا، فهذا قد روي أنه منسوخ بقوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}. وذلك لِأَنَّ الْمُعَيَّنَ لَا يَعْلَمُ إنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَهْلِكَ؛ بل قد يكون ممن يتوب الله عليه، بخلاف الجنس فإنه إذا دُعِيَ عليهم بما فيه عز الدين وذل عدوه وقمعهم كان هذا دعاء بما يحبه الله ويرضاه؛ فإن الله يحب الإيمان وأهل الإيمان، وعلو أهل الإيمان وذل الكفار؛ فهذا دعاء بما يحب الله. وأما الدعاء على المعين لا يعلم أن الله يرضاه فغير مأمور به، وقد كان يفعل ثم نهي عنه؛ لأن الله قد يتوب عليه أو يعذبه".

وقال ابن مفلح - رحمه الله تعالى - في "الآداب الشرعية" (1/269): "ويجوز لعن الكفار عامًا، وهل يجوز لعن كافر معين؟ على رِوايتين. ونقل عن ابن تيميَّة قوله: "ولعن تارك الصلاة على وجه العموم جائز، وأما لعنة المعين: فالأولى تركها، لأنه يمكن أن يتوب".
وقال عن ابن تيميَّة في موضع آخر: "في لعن المعين من الكفار من أهل القبلة وغيرهم ومن الفساق بالاعتقاد أو بالعمل: لأصحابنا فيه أقوال: أحدها: أنه لا يجوز بحال وهو قول أبي بكر عبدالعزيز. والثاني: يجوز في الكافر دون الفاسق. والثالث: يجوز مطلقًا".

ونقل ابن مفلح (1/270) عن ابن الجوزي قوله: "وقد لعن أحمد بن حنبل من يستحق اللعن، فقال في رواية مسدد: "قالت الواقفية الملعونة، والمعتزلة الملعونة، وقال عبدالله بن أحمد الحنبلي: "سمعت أحمد بن حنبل يقول: على الجهمية لعنة الله، وكان الحسن يلعن الحجاج، وأحمد يقول: الحجاج رجل سوء. وقال ابن تيميَّة: "ليس في هذا عن أحمد لعنة معين لكن قول الحسن نعم" ا هـ.
وقال ابن مفلح (1/271): "وقال القاضي في "المعتمد": من حكمنا بكفرهم من المتأولين وغيرهم فجائز لعنتهم، نص عليه، وذكر أنه قال في اللفظية: على من جاء بهذا لعنة الله، عليه غضب الله، وذكر أنه قال عن قوم معينين: هتك الله الخبيث، وعن قوم: أخزاه الله، وقال في آخر: ملأ الله قبره نارًا، قال الشيخ تقي الدين: "لم أره نقل لعنة معينة إلا لعنة نوع، أو دعاء على معين بالعذاب، أو سبًّا له، لكن قال القاضي: "لم يفرق بين المطلق والمعين، وكذلك جدنا أبو البركات.

قال القاضي: فأمَّا فُسَّاق أهل الملة بالأفعال؛ كالزنا؛ والسرقة؛ وشرب الخمر؛ وقتل النفس؛ ونحو ذلك فهل يجوز لعنتهم أم لا؟ فقد توقف أحمد - رضي الله عنه - عن ذلك في رواية صالح. قلت لأبي: "الرجل يذكر عنده الحجاج أو غيره يلعنه؟ فقال: لا يعجبني، لو عم فقال: "ألا لعنة الله على الظالمين".
وقال ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (1/272) "قال أبو بكر الخلال في "كتاب السنة": "الذي ذكره أبو عبدالله في التوقف في اللعنة فيه أحاديث كثيرة لا تخفى على أهل العلم، ويتبع قول الحسن وابن سيرين فهما الإمامان في زمانهما.
ويقول: لَعَنَ الله من قتل الحسين بن علي، لعن الله من قتل عثمان، لعن الله من قتل عليًّا، لعن الله من قتل معاوية بن أبي سفيان، ونقول: "لعنة الله على الظالمين إذا ذكر لنا رجل من أهل الفتن على ما تقلده أحمد".

قال القاضي: "فقد صرح الخلال باللَّعْنة، قال: "قال أبو بكر عبدالعزيز فيما وجدته في تعاليق أبي إسحاق: ليس لنا أن نلعن إلا من لعنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن طريق الإخبار عنه" اهـ.
وقال ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (1/272) قال الشيخ تقي الدين: "المنصوص عن أحمد الذي قرره الخلال اللعن المطلق العام لا المعين كما قلنا في نصوص الوعيد والوعد، وكما نقول في الشهادة بالجنة والنار، فإنا نشهد بأن المؤمنين في الجنة، وأن الكافرين في النار، ونشهد بالجنة والنار لمن شهد له الكتاب والسنة، ولا نشهد بذلك لمعين إلا من شهد له النص أو شهد له الاستفاضة على قول. فالشهادة في الخبر؛ كاللعن في الطلب، والخبر والطلب نوعا الكلام؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الطعانين واللعانين لا يكونون شهداء، ولا شفعاء يوم القيامة))؛ أخرجه مسلم (2598)، وأحمد (6/488)، وأبو داود (4908)، وابن حبان (5746)، فالشفاعة ضد اللعن كما أن الشهادة ضد اللعن، وكلام الخلال يقتضي أنه لا يلعن المعينين من الكفار فإنه ذكر قاتل عمر وكان كافرًا، ويقتضي أنه لا يلعن المعين من أهل الأهواء فإنه ذكر قاتل علي وكان خارجيًّا، ثم استدل القاضي للمنع بما جاء من ذم اللعن، وأن هؤلاء ترجى لهم المغفرة، لا تجوز لعنتهم؛ لأن اللعن يقتضي الطرد والإبعاد، بخلاف من حكم بكفره من المتأولين فإنهم مبعدون من الرحمة؛ كغيرهم من الكفار، واستدل على جواز ذلك وإطلاقه بالنصوص التي جاءت في اللعن وجميعها مطلقة؛ كالراشي والمرتشي؛ وآكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه". ا هـ.

وقال ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (1/273): "قال الشيخ تقي الدين: "فصار للأصحاب في الفساق ثلاثة أقوال:
أحدها: المنع عمومًا وتعيينًا إلا برواية النص. والثاني: إجازتها. والثالث: التفريق وهو المنصوص.
وقد نقل عن أحمد لعنة أقوام معينين من دعاة أهل البدع؛ ولهذا فرق من فرق من الأصحاب بين لعنة الفاسق بالفعل، وبين دعاة أهل الضلال إما بناء على تكفيرهم، وإما بناء على أن ضررهم أشد".

ونقل ابن مفلح عن شيخ الإسلام قوله (1/274): "ومن جوز لعنة المبتدع المكفر معينًا فإنه يجوز لعنة الكافر المعين بطريق الأولى، ومن لم يجوز أن يلعن إلا من ثبت لعنه بالنص فإنه لا يجوز لعنة الكافر المعين. فمن لم يجوز إلا لعن المنصوص يرى أنه لا يجوز ذلك لا على وجه الانتصار، ولا على وجه الجهاد وإقامة الحدود؛ كالهجر؛ والتعزير؛ والتحذير".

وقال ابن مفلح (1/275): قال شيخ الإسلام: "وكذلك من لم يلعن المعين من أهل السنة أو من أهل القبلة أو مطلقًا، وأما من جوز لعنة الفاسق المعين على وجه البغض في الله - عزَّ وجلَّ- والبراءة منه، والتعزير فقد يجوز ذلك على وجه الانتصار أيضًا، ومن يرجح المنع من لعن المعين فقد يجيب عما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بأحد أجوبة ثلاثة:

1. إما بأن ذلك منسوخ؛ كلعن من لعن في القنوت على ما قاله أبو هريرة.
2. وإما أن ذلك مما دخل في قوله: ((اللهم إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر فأيما مسلم سببته...)) لكن يقال هذا الحديث لا يدل على تحريم اللعنة، وإنما يدل على أنه يفعلها باجتهاده بالتعزير فجعل هذا الدعاء دافعًا عمن ليس لها بأهل.
3. وإما أن يقال: اللعن من النبي - صلى الله عليه وسلم - ثابت بالنص فقد يكون اطلع على عاقبة الملعون، وقد يقال: الأصل مشاركته في الفعل ولو كان لا يلعن إلا من علم أنه من أهل النار لما قال: ((إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر، فأيما مسلم سببته...)) فهذا يقتضي أنه كان يخاف أن يكون لعنه بما يحتاج أن يستدرك بما يقابله من الحسنات؛ فإنه معصوم، والاستدراك بهذا الدعاء يدفع ما يخافه من إصابة دعائه لمن لا يستحقه وإن كان باجتهاد؛ إذ هو باجتهاده الشرعي معصوم لأجل التأسي به.

وقد يقال: نُصُوص الفعل تدل على الجواز للظالم؛ كما يقتضي ذلك القياس؛ فإنَّ اللعنة هي البعد عن رحمة الله، ومعلوم أنه يجوز أن يُدْعَى عليه من العذاب بما يكون مبعدًا عن رحمة الله - عزَّ وجلَّ - في بعض المواضع كما تقدم، فاللعنة أولى أن تجوز، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نهى عن لعن من علم أنه يحب الله ورسوله، فمن علم أنه مؤمن في الباطن يحب الله ورسوله لا يلعن؛ لأن هذا مرحوم بخلاف من لا يكون كذل" ا هـ.
من أدلة جواز اللَّعْن:

1. حديث عائشة في لعن المعين: "استأذن رهط من اليهود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: "السام عليكم"، فقالت: "عليكم السام واللعنة.."؛ أخرجه البخاري (6024)، ومسلم (2165)، وللبخاري (6030) قالت عائشة: "عليكم لعنة الله وغضب الله عليكم...".
قال ابن تيميَّة؛ كما في "الآداب الشرعية" (1/276): " والاستدلال بهذا الخبر في جواز لعن المعين وعدمه محتمل".

2. حديث ابن عمر: أن رجلًا كان اسمه عبدالله، وكان يلقب حمارًا جلده النبي - صلى الله عليه وسلم -... فقال رجل من القوم: "اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله))؛ أخرجه البخاري (6780). قال الشيخ ابن تيميَّة: "فهذا ظاهر الدلالة".

3. ولمسلم (1695) من حديث بُرَيْدَة أن خالد بن الوليد لما رمى المرجومة بحجر فنضح الدم على وجهه فسبها..
قال في "النهاية": اللعن من الله - عزَّ وجلَّ -: الطرد والإبعاد، ومن الخلق السب والدعاء.

فظاهره جواز السب لولا التوبة" ا هـ من "الآداب الشرعية" (1/277).
ويحتمل أن منع اللعن للنبي - صلى الله عليه وسلم- لأنه مجاب الدعوة، وقد يتوب الله – تعالى - على الملعونين من المشركين فلذلك نُهِي عنه. انظر: "تفسير الرازي" (8/191).
قال أبو بكر ابن العربي في "أحكام القرآن" (1/74): "قال لي كثير من أشياخي: "إن الكافر المعين لا يجوز لعنه؛ لأن حاله عند الموافاة لا تعلم، وقد شرط الله - تعالى - في هذه الآية في إطلاق اللعنة الموافاة على الكفر".

وقد رُوِي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن أقوام بأعيانهم من الكفار، وفي صحيح مسلم (2007) عن عائشة - رضي الله عنها -: "دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلان فكلماه بشيء فأغضباه فلعنهما"، وإنما كان ذلك لعلمه بمآلهما والصحيح عندي جواز لعنه لظاهر حاله، كجواز قتاله وقتله".
وفي الصحيحين: ((لعن المؤمن كقتله))؛ رواه البخاري (6652)، ومسلم (176)، وكذلك إن كان ذميًّا يجوز إصغاره فكذلك لعنه.
فأما العاصي المعين فلا يجوز لعنه اتفاقًا لما رُوِيَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم –: "جيء بشارب خمر مرارًا..."؛ رواه البخاري (6780) فجعل له حرمة الأخوة، وهذا يوجب الشفقة.

وأما لعن العاصي مطلقًا فيجوز إجماعًا لما روي في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لعن الله السارق يسرق البيضة))؛ رواه البخاري (6783)، ومسلم (1687)، وقد قال بعض علمائنا في تأويل هذه الآية: "إن معناه عليهم اللعنة يوم القيامة؛ كما قال – تعالى -: {ثُمَّ يَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت: 25]، والذي عندي صحة لعنه في الدنيا لمن وافى كافرًا بظاهر الحال، وما ذكر الله عن الكفرة من لعنتهم وكفرهم فيما بينهم حالة أخرى، وبيان لحكم آخر، وحالة واقعة تعضد جواز اللعن في الدنيا، وتكون هذه الآية لجواز اللعن في الدنيا، فيكون للآيتين معنيان، فإن قيل: فهل تحكمون بجواز لعنة الله لمن كان على ظاهر الكفر، وقد علم الله موافاته مؤمنًا؟ قلنا: كذلك نقول، ولكن لعنة الله له حكمه بجواز لعنه لعباده المؤمنين أخذًا بظاهر حاله، والله أعلم بمآله" ا هـ من "أحكام القرآن" (1/76).

وقال القرطبي - رحمه الله تعالى - في تفسيره بعد أن نقل كلام ابن العربي السابق (2/127): "قلت: أما لعن الكفار جملة من غير تعيين فلا خلاف في ذلك" ثم نقل القرطبي كلام الأعرج.. ثم قال القرطبي: "قال علماؤنا: وسواء كانت لهم ذمة أم لم تكن، وليس ذلك بواجب، ولكنه مباح فعله؛ لجحدهم الحق، وعداوتهم للدين وأهله، وكذلك كل من جاهر بالمعاصي؛ كشراب الخمر، وأكلة الربا، ومن تشبه بالنساء... إلى غير ذلك مما ورد في الأحاديث لعنه".
وقال القرطبي (2/127): "ليس لعن الكافر بطريق الزجر له عن الكفر؛ بل هو جزاء على الكفر، وإظهار قبح كفره، كان الكافر ميتًا أو مجنونًا". وقال قوم من السلف: "إنه لا فائدة في لعن من جن أو مات منهم لا بطريق الجزاء ولا بطريق الزجر فإنه لا يتأثر به".

وتعقب القرطبي (1/127) ابن العربي في تقريره الاتفاق على عدم جواز لعن العاصي، وذكر حديث (شارب الخمر): ((لا تكونوا عونًا للشيطان)) فقال القرطبي: "وقد ذكره بعض العلماء خلافًا في لعن العاصي المعين، قال: وإنما قال - عليه السلام -: ((لا تكونوا عونًا للشيطان على أخيكم)) في حق نعيمان بعد إقامة الحد عليه، ومن أقيم عليه حد الله – تعالى - فلا ينبغي لعنه، ومن لم يقم عليه الحد فلعنته جائزة سواء سُمّي أو عين أم لا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يلعن إلا من تجب عليه اللعنة ما دام على تلك الحالة الموجبة للعن، فإذا تاب منها وأقلع وطهره الحد فلا لعنة تتوجه عليه، وبيّن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب)) فدل هذا الحديث مع صحته على أن التثريب واللعن إنما يكون قبل أخذ الحد، وقبل التوبة. والله أعلم" ا هـ.

وقال ابن كثير - رحمه الله تعالى - في تفسيره (1/299) عند تفسير الآية (161) من سورة البقرة: "لا خلاف في جواز لعن الكفار، وقد كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ومن بعده من الأئمة يلعنون الكفرة في القنوت وغيره. فأما الكافر المعين فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن؛ لأنا لا ندري بما يختم الله له، واستدل بعضهم بالآية: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلَائِكَةِ } [البقرة: 161].
وقالت طائفة أخرى: بل يجوز لعن الكافر المعين، واختاره الفقيه أبو بكر ابن العربي المالكي ولكنه احتج بحديث فيه ضعف، واستدل غيره بقوله - عليه السَّلام - في قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحد... ((لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله)) (4/322) اهـ من ابن كثير.
وقال الألوسي - رحمه الله تعالى - في "روح المعاني" (9/324): "واعلم أنه لا خلاف في جواز لعن كافر معين تحقق موته على الكفر إن لم يتضمن إيذاء مسلم أو ذمي إذا قلنا باستوائه مع المسلم في حرمة الإيذاء، أما إن تضمن ذلك حرم".

وقال – أيضًا -: (9/324): "ثم إن لعن من يجوز لعنه لا أرى أنه عبادة إلا إذا تضمن مصلحة شرعية، وأما لعن كافر حي فالمشهور أنه حرام، ومقتضى كلام حجة الإسلام الغزالي أنه كفر؛ لما فيه من سؤال تثبيته على الكفر الذي هو سبب اللعنة، وسؤال ذلك كفر، ونص الزركشي على ارتضائه حيث قال عقبه: فتفطن لهذه المسألة فإنها غريبة، وحكمها متجه، وقد زل فيها جماعة، وقال العلامة ابن حجر في ذلك: ينبغي أن يقال: إن أراد بلعنه الدعاء عليه بتشديد الأمر أو أطلق لم يكفر، وإن أراد سؤال بقائه على الكفر والرضى ببقائه عليه كفر، ثم قال: فتدبر ذلك حق التدبر فإنه تفصيل متجه قضت به كلماتهم" ا هـ.

وروى مسلم في صحيحه في البر والصلة والآداب باب من لعنه النبي - صلى الله عليه وسلم - أو سبه أو دعا عليه وليس أهلاً لذلك كان له زكاة وأجرًا ورحمة... (2600) عن عائشة قالت: "دخل على رسول الله رجلان فكلماه بشيء لا أدري ما هو فأغضباه فلعنهما وسبهما، فلما خرجا قلت: يا رسول الله: "من أصاب من الخير شيئًا ما أصابه هذان، قال: ((وما ذاك؟)) قالت: "قلت: لعنتهما وسببتهما"، قال: ((أوما علمت ما شارطت عليه ربي؟)) قلت: ((اللهم إنما أنا بشر فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجرًا))؛ وله شاهد عن أبي هريرة – أيضًا - عند مسلم (2601)، وعن جابر (2602).
قال النَّوَوِيّ - رحمه الله تَعَالى -: (16/228- 229): "إنما يكون دُعاؤه عليه رحمة وكفارة وزكاة ونحو ذلك إذا لم يكن أهلاً للدعاء عليه، والسبِّ واللَّعْن ونحوه، وكان مُسْلمًا، وإلا فقد دعا - صلى الله عليه وسلم - على الكُفَّار والمُنَافِقِين ولم يكن ذلك لهم رحمة. فإن قيل: كيف يدعو على من ليس هو بأهل للدعاء عليه، أو يسبه، أو يلعنه ونحو ذلك؟، فالجواب ما أجاب به العلماء، ومختصره وجهان:

* أحدهما: أن المراد ليس بأهل لذلك عند الله – تعالى - وفي باطن الأمر؛ ولكنه في الظَّاهر مستوجب له، فيظهر له - صلى الله عليه وسلم - استحقاقه لذلك بأمارة شَرْعِيَّة، ويكون في باطن الأمر ليس أهلاً لذلك، وهو - صلى الله عليه وسلم - مأمور بالحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر.
* الثاني: أنَّ مَا وقع من سبه ودعائه ونحوه ليس بمقصود؛ بل مما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نية؛ كقوله: ((تربت يمينك...)) لا يقصد بشيء من ذلك حقيقة الدعاء، فخاف - صلى الله عليه وسلم - أن يصادف شيء من ذلك إجابة، فسأل ربه - سبحانه وتعالى - ورغب إليه في أن يجعل ذلك رحمة وكَفَّارة وقربة وطهورًا وأَجْرًا، وإنما كان يقع هذا منه في النادر الشَّاذِّ من الأَزْمان.. ولم يكن فاحشًا ولا متفحِّشًا ولا لعَّانًا ولا منتـقمًا لنفسه..." ا هـ. وبنحو ذلك كان جواب القرطبي في "المُفْهِم" (6/584- 585).

وقال الألوسي - أيضًا - (9/324): "وكلعن الكافر الحي المعين بالشخص في الحرمة لعن الفاسق كذلك، وقال السراج البلقيني بجواز لعن العاصي المعين، واحتج على ذلك بحديث الصحيحين: ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان، لعنتها الملائكة حتى تصبح))، وهو ظاهر فيما يَدَّعِيه، وقول ولده الجلال البلقيني في بحثه معه: "يحتمل أن يكون لعن الملائكة لها ليس بالخُصُوص بل بالعُمُوم بأن يقولوا: "لعن الله من دعاها زوجها إلى فراشه فأبت فبات غضبان بعيد جدًّا". ومما يؤيد قول السراج خبر مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بحمار وسم في وجهه فقال: ((لعن الله من فعل هذا))، وهو أبعد عن الاحتمال الذي ذكره ولده. وقد صح أنه - صلى الله عليه وسلم - لعن قبائل من العرب بأعيانهم،... وذكر حديث لعن رعل وذكوان..، ثم قال: "وفيه نوع تأييد لذلك أيضًا"، لكن قيل: إنه يجوز أن يكون قد علم - عليه الصلاة والسلام - موتهم، أو موت أكثرهم على الكفر فلم يلعن - صلى الله عليه وسلم - إلا من علم موته عليه، ولا يخفى عليك الأحوط في هذا الباب، فقد صح: ((من لعن شيئًا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه))، وأرى الدعاء للعاصي المعين بالصلاح أحب من لعنه على القول بجوازه، وأرى لعن من لعنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالوصف أو بالشخص عبادة من حيث إن فيه اقتداءً برسول الله - عليه الصَّلاة والسلام - وكذا لعن من لعنه الله - تعالى - على الوجه الذي لعنه به)) ا هـ. وانظر: أيضًا (8/102- 103)، تفسيرسورة الإسراء: قول الله – تعالى -: {وَالشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرْآَنِ} [الإسراء: 60].

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة: 161].
قال الرازي: "في الآية دلالة على أن على المسلمين لعن من مات كافرًا، وأن زوال التكليف عنه بالموت لا يسقط عنا لعنه والبراءة منه؛ لأن قوله: {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة: 161] قد اقتضى أمرنا بلعنه بعد موته، وهذا يدل على أن الكافر لو جُنّ لم يكن زوال التكليف عنه بالجنون مسقطًا للعنه والبراءة منه" اهـ من "تفسير الرازي" (4/151).

وقال الشيخ بكر أبو زيد في "المناهي اللفظية" (471): "فلا يلعن إلا من استحق اللعنة بنص من كتاب أو سنة وهي في الأمور الجامعة الآتية:

1. اللَّعْن بوصف عام مثل: لعنة عامة على الكافرين أو على الظالمين والكاذبين.
2. اللعن بوصف أخص منه مثل: لعن آكل الربا، ولعن الزناة، ولعن السراق والمرتشين، ونحو ذلك.
3. لعن الكافر المعين الذي مات على الكفر مثل: فرعون.
4. لعن كافر معين مات، ولم يظهر من شواهد الحال دخوله في الإسلام فيلعن. وإن توقى المسلم، وقال: لعنه الله إن مات كافرًا حسن.
5. لعن كافر معين حي؛ لعموم دخوله في لعنة الله على الكافرين، ولجواز قتله، وقتاله، ووجوب إعلان البراءة منه.
6. لعن المسلم العاصي ـ معينًا ـ أو الفاسق بفسقه، والفاجر بفجوره، فهذا اختلف أهل العلم في لعنه على قولين، والأكثر بل حكي الاتفاق عليه، على عدم جواز لعنه؛ لإمكان التوبة وغيرها من موانع لحوق اللعنة والوعيد مثل ما يحصل من الاستغفار، والتوبة، وتكاثر الحسنات وأنواع المكفرات الأخرى للذنوب، وإن ربي لغفور رحيم".

وقال ابن عبدالبر (5/166): "قد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه..." إلى أن قال: "ولعن جماعة يطول ذكرهم قصدًا إلى لعنهم"، وليس لعنه هؤلاء، ولا من استحق اللعنة من باب من لعنه رسول الله، وشتمه عند غضب يغضبه، وهو يظنه أهلاً لذلك، ثم تبين له - إذا كان من البشر - غير ذلك، بل يكون لعنه له صلاة ورحمة؛ كما قال - عليه السَّلام -: ((إني اشترطت على ربي فقلت: إنما أنا بشر أرضى؛ كما يرضى البشر، وأغضب؛ كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طهورًا وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة))؛ أخرجه مسلم من حديث أنس في البر والصلة والآداب برقم: (2603).

وقال ابن عبدالبر في "التمهيد" (13/144- 145): "وفي لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النباش دليل على أن كل من أتى المُحَرَّمَات، وارتكب الكبائر المحظورات في أذى المسلمين وظلمهم جائز لعنه والله أعلم".
وقال في "التمهيد" (17/405): "وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله، واليهود وغيرهم، ومحال أن تكون لعنته لهؤلاء رحمة عليهم، فمن لعن من يستحق أن يلعن فمباح، ومن لعن من لا يستحق اللَّعْن فقد أثم، ومن ترك اللعن عند الغضب ولم يلعن مسلمًا ولم يسبه فذلك من عزم الأمور".

ـــ
قلتُ "أسامة": تم نقل الموضوع بتصرف للفائدة، وأصله هنا..
http://www.alukah.net/Sharia/0/1509/