بسم الله الرحمن الرحيم
هل ظلم أهل السنة مرجئة الفقهاء ؟ ( تنبيه إلى الشيخ مشهور سلمان ـ وفقه الله ـ)
قال الكشميري في ’’فيض الباري‘‘ (1/53-54):
(( الإيمان عند السلف عبارة عن ثلاثة أشياء: اعتقاد و قول و عمل. و قد مرَّ الكلام ـ يعني في كتابه ـ على الأوَّلين، أي: التصديق و الإقرار، بقي العمل: هل هو جزء للإيمان أم لا ؟
فالمذاهب فيه أربعة، قال الخوارج و المعتزلة: إنَّ الأعمال أجزاء للإيمان، فالتارك للعمل خارج عن الإيمان عندهما، ثم اختلفوا: فالخوارج أخرجوه عن الإيمان، و أدخلوه في الكفر، و المعتزلة لم يُدخلوه في الكفر، بل قالوا: بالمنزلة بين المنزلتين.
و الثالث: مذهب المرجئة، فقالوا: لا حاجة إلى العمل، و مدار النجاة هو التصديق فقط، فصار الأوَّلون و المرجئة على طرفي نقيض.
و الرابع: مذهب أهل السنة و الجماعة، و هم بينَ بينَ، فقالوا: إنَّ الأعمال أيضاً لا بدَّ منها، لكن تاركها مُفسَّقٌ لا مُكفَّرٌ، فلم يُشدِّدوا فيها كالخوارج و المعتزلة، و لم يُهوِّنوا أمرها كالمرجئة.
ثمَّ هؤلاء ـ أي أهل السنة و الجماعة ـ افترقوا فرقتين، فأكثر المحدِّثين إلى أنَّ الإيمان مركَّب من الأعمال، و إمامنا الأعظم ـ رحمه الله تعالى ـ و أكثر الفقهاء و المتكلِّمين إلى أنَّ الأعمال غير داخلة في الإيمان، مع اتفاقهم جميعاً على أنَّ فاقد التصديق كافر، و فاقد العمل فاسق، فلم يبق الخلاف إلاَّ في التعبير، فإنَّ السلف و إن جعلوا الأعمال أجزاء، لكن لا بحيث ينعدِم الكلُّ بانعدامها، بل يبقى الإيمان مع انتفائها.
و إمامنا أبو حنيفة و إن لم يجعل الأعمال جزءاً، لكنَّه اهتم بها، و حرَّض عليها، و جعلها أسباباً ساريةً في نماء الإيمان، فلم يُهدرها هدر المرجئة، إلاَّ أنَّ تعبير المحدِّثين القائلين بجزئية الأعمال، لمَّا كان أبعد من المرجئة المنكرين جزئيَّة الأعمال، بخلاف تعبير إمامنا الأعظم ـ رحمه الله تعالى ـ فإنَّه كان أقرب إليهم من حيث نفي جزئية الأعمال؛ رُمي الحنفية بالإرجاء، و هذا كما ترى جورٌ علينا، و الله المستعان.
و لو كان الاشتراك مع المرجئة بوجهٍ من الوجوه التعبيرية كافياً لنسبة الإرجاء إلينا، لزم نسبة الاعتزال إليهم، أي إلى المحدِّثين، فإنهم، أي المعتزلة، قائلون بجزئية الأعمال أيضاً كالمحدِّثين، و لكن حاشاهم من الاعتزال، و عفا الله عمن تعصَّب و نسب إلينا الإرجاء، فإنَّ الدين كلَّه نصح، لا مراماة و منابزة بالألقاب، و لا حول و لا قوة إلا بالله العي العظيم ))اهـ.
قال المرادي ـ عفا الله عنه ـ: في هذا الكلام مخالفات كثيرة، أنبِّه على بعضها بكلمات يسيرة، فأقول:
(1) جعل الكشميري ـ غفر الله له ـ مذهب أهل السنة و الجماعة في الإيمان على قولين؛ قول السلف و أهل الحديث، و قول الأحناف ـ أي مرجئة الفقهاء ـ.
وفي هذا نظر، فالسلف قد أجمعوا على أنَّ الإيمان قول و عمل، و خلاف الأحناف في هذه المسألة لا يُعتد به أمام إجماع السلف، فهم في هذا الباب مخالفون لأهل السنة و الجماعة.
نعم، هم من أهل السنة في غير مسائل الإيمان.
(2) جعله الخلاف بين السلف و الأحناف من باب اختلاف التعبير ليس إلاَّ، و هذا غلط ظاهر، كما بيَّن ذلك أهل العلم.
قال سماحة الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز ـ رحمه الله ـ في تعليقه على ’’العقيدة الطحاوية‘‘ (ص20 ـ ط. دار الوطن):
(( و ليس الخلاف بينهم و بين أهل السنة فيه لفظياً، بل هو لفظي و معنوي، و يترتَّب عليه أحكام كثيرة يعلمها من تدبَّر كلام أهل السنة و كلام المرجئة، و الله المستعان )).
و قال معالي الشيخ العلاَّمة صالح بن عبد العزيز آل الشيخ ـ حفظه الله ـ:
(( هل الخلاف بين أهل السنة و مرجئة الفقهاء في تعريف الإيمان صوري أو معنوي حقيقي ؟ هذه المسألة لها جهتان:
الأولى: جهة الحكم.
الثانية: جهة امتثال الأوامر: العلمية و العملية.
من جهة الحكم، يعني مرتكب الكبيرة، مرجئة الفقهاء لا يكفرونه و لا يقولون لا يضر مع الإيمان ذنب، فهم من جهة الحكم كأهل السنة. قال ابن تيمية: أكثر الخلاف الذي بين أهل السنة في مسألة الإيمان لفظي، و هذا نستفيد منه فائدتين:
الأولى: مرجئة الفقهاء لا يخرجون من أهل السنة إخراجاً مطلقاً، بل يقال: إنهم من أهل السنة إلا في مسألة الإيمان.
الثانية: قوله: أكثره لفظي، يدل على أنَّ ثمة منه ما ليس بلفظي و هو الذي ذكرته لك أنه من جهة الأوامر و اعتقاد ذلك.
و من العلماء من قال: إن الخلاف صوري لا حقيقة له، يعني لا يترتَّب عليه خلاف في الاعتقاد و ممن ذهب إليه الشارح ابن أبي العز ـ رحمه الله ـ. و من العلماء من قال: إنه معنوي حقيقي. سبب ذلك أنَّ جهة النظر إلى الخلاف منفكَّة، فمنهم من ينظر إلى الخلاف بأثره في التكفير، و منهم من ينظر إلى الخلاف بأثره في الاعتقاد.
فمن نظر إلى الخلاف بأثره في التكفير، قال: الخلاف لفظي صوري، لأنَّ مرجئة الفقهاء متَّفقون مع أهل السنة على أنَّ الكفر و الردة يكون بالقول و بالاعتقاد و بالعمل و بالشك.
و الجهة الثانية التي ينظر إليها و هي أنَّ عمل الجوارح ممَّا أمر الله ـ جل و لا ـ به في أن يُعتقد وجوبه أو يُعتقد تحريمه من جهة الإجمال و التفصيل، فأعمال العباد لها جهتان: الإقرار بها، و الامتثال لها.
فإذا عمل العبد عملاً فإمَّا أن نقول: إنَّه داخل في التصديق بالجنان و هذا خارج عن قول الحنفية، لأنه عندئذ لا يكون تصديقاً فقط و إنما يكون اعتقاداً شاملاً للتصديق و للعزم على الامتثال.
هذا من جهة الإقرار، و من جهة الامتثال: فالعمل يتمثل فعلاً، فإذا كان كذلك فالتنصيص على دخول العمل في مسمى الإيمان هو مقتضى الإيمان بالآيات و الأحاديث. لأنَّ حقيقة الإيمان بالأوامر و النواهي، أن تؤمن بأن تعمل و أن تؤمن بأن تنتهي، و لهذا فحقيقة المسألة ترجع إلى الأمر بالإيمان في الوحيين كيف يؤمن به و يحققه، فمن عمل بجنس العمل الذي يمتثل به فقد حقَّق الإيمان، فدلَّ على أن الامتثال داخل في حقيقة الإيمان. فالإيمان لا بدَّ له من امتثال، و هذا الامتثال لا يتصور أن يكون غير موجود من مؤمن. و إذا كان ذلك كذلك كان جزءاً من الإيمان، أوَّلاً: لدخوله في تركيبه، و ثانياً: أنَّه لا يتصور في الامتثال للإيمان، و الإيمان بالأوامر أن يؤمن و لا يعمل البتة.
فتحصَّل أنَّ الخلاف من هذه الجهة معنوي، و ليس بصوري ))اهـ. ’’الوافي في اختصار شرح عقيدة أبي جعفر الطحاوي‘‘ (ص150-151).
(3) اتِّهامه السلف الصالح بالظلم و الجور لمَّا صنَّفوا الأحناف ضمن فرق المرجئة.
و هذه فرية بلا مرية، فالسلف أعلم الناس بالحق، و أرحمهم بالخلق، وهم لم يصفوا الحنفية بالإرجاء بإطلاق، بل جعلوهم ضمن مرجئة الفقهاء، و بيَّنوا أنَّهم أقلّ الفرق انحرافاً في هذا الباب.
(4) خلطه بين مذهب السلف و بين مذهب المعتزلة و الخوارج.
و الفرق بين المذهبين واضح جلي، لا يلتبس إلاَّ على من لم يضبط أقوال أهل العلم في هذا الباب.
فالمعتزلة و الخوارج جعلوا آحاد الأعمال أركاناً في الإيمان، فتارك أيِّ عمل ـ عندهم ـ كافرٌ الكفر المخرج من الملة، و العياذ بالله.
أما السلف فقد جعلوا جنس العمل ركن في الإيمان، فتارك جنس العمل يكفر الكفر المخرج من الملة.
قال الشيخ العلاَّمة حافظ حكمي ـ رحمه الله ـ في ’’معارج القبول‘‘ (ص446 ـ ط. دار ابن حزم):
(( و الفرق بين هذا و بين قول السلف الصالح أنَّ السلف لم يجعلوا كل الأعمال شرطاً في الصحة، بل جعلوا كثيراً منها شرطاً في الكمال، كما قال عمر بن عبد العزيز فيها: من استمكلها استكمل الإيمان، و من لم يستمكلها لم يستكمل الإيمان. و المعتزلة جعلوها كلها شرطاً في الصحة و الله أعلم )).
(( فهم [ أي المرجئة ] لم يفرِّقوا بين جنس العمل ـ و الذي يُعد شرطاً في صحة الإيمان عند أهل السنة ـ و بين آحاد العمل و أفراده، و الذي يعد تاركه غير مستكمل الإيمان )).
إذا علم ما سبق، فقد نقل كلام الكشميري السباق ـ على عجره و بجره ـ الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان ـ وفقه الله ـ في تعليقه على الكتاب الماتع ’’سبيل الرشاد في هدي خير العباد‘‘ (6/100-101) للعلامة السلفي محمد تقي الدين الهلالي ـ رحمه الله ـ.
وهو إذ ينقله بلا أيِّ تعليق عليه كالمقرِّ له، و فاته ـ حفظه الله ـ أنَّ في ذاك الكلام ما يُخالف تقريرات أهل السنة في مسائل الإيمان ـ كما سبق بيانه ـ، و لو تأمَّله جيِّداً لما سارع إلى نقله و إثباته في حواشيه، أو على الأقلِّ لنبَّه على ما فيه زلل و خطل، وفقه الله الجميع لصالح القول و العمل.
فريد المرادي ـ كان الله له ـ.
الجزائر في 21 رجب 1428هـ.[/size]