الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أخي أسامة:
لم أقصدك بالكلام الذي اعترضتَ عليه، ولم أقصد أحدًا على التّعيين؛ بل كان تعبيرًا عن انزعاج من فكرة الموضوع نفسها. إذ آل بنا الأمر إلى تلمُّس جذور مجدنا التاريخي في المستبدِّين و"الانقلابيين"، بدَل البحث عنها في سِير الحكام والأمراء المشهورين بالصلاح. وهذا "الشعور المصطنع" الذي يسوّق له في سجالاتنا الفكرية "تفبركه" أطراف معروفة غاياتها، مكشوفة نياتها...
وحتى لا يتشعّب بنا الحديث، وما دمنا في دنيا الجزئيات، لنتوقَّف معها برهةً من الزمن:
1_ أنت قلت عن يزيد: "هو من أثبت الناس حديثًا بعد الصحابة".
وسؤالي: مِن أين لك هذا الحكم؟ وهل اشتهر بالرواية حتى يكون من أثبت الناس فيها؟
2_ وقلتَ: "له أحاديث مِن أعلى درجات الصحة".
وطلبي: اذكرها لنا؛ جوزيت خيرًا.
3_ وقلتَ: "هو أثبَتُ النّاس عن أبيه".
وهذه لا تقدِّم ولا تؤخِّر. وهي متعلّقة بإثبات المسألة الثانية. وهل يُتوقّع منه الكذب على أبيه؟
4_ ما نقلتَه عن "العواصم"، تأمَّل عبارته. يقول:
"بل شهد الشهود بعدالته، فروى يحيى بن بكير عن الليث بن سعد، قال: "توفي أمير المؤمنين يزيد في تاريخ كذا". فسمّاه الليث "أمير المؤمنين" بعد ذهاب ملكهم وانقراض دولتهم، ولولا كونه عنده كذلك ما قال إلا "توفي يزيد".
تأمّل، ثم أجبني: أين هي الشهادة بالعدالة في عبارة "أمير المؤمنين".
أمّا قوله: "ولولا كونه عنده كذلك ما قال إلا "توفي يزيد". فجوابه: أنّه ذكر لقبه، تمييزًا له عن غيره. وعن الليث بن سعد نُقول أخرى أثبت فيها أيضًا هذا اللقب لبعض بني أمية. وهذا شبيه بقولنا مثلا: "توفي رئيس الجمهورية"، مع اعتقادنا أنّه لا يستحق هذا اللقب.
فالليث بن سعد تكلّم بلسان المؤرِّخ، أمّا عمر بن عبد العزيز فتصرّف بروح الإمام القدوة، الساعي إلى ردّ الأمّة إلى مسارها الصحيح؛ وشتّان بين المقامين.
5_ كلام ابن كثير ليس تزكية ولا شهادة بالعدالة. كل ما فيه هو ذكره أنّ له حديثين وأنّ ابنه روى عنه، دون الحكم عليه. ونقله عن أبي زرعة يحتاج إلى تمحيص.
ومسألة الحديثين أتركها للمتخصصين في هذا الشأن، إذ ينبغي التمييز بين متن الحديث والطرق التي ورَد بها...
6_ كتاب "العواصم من القواصم" ينبغي وضعه في إطاره التاريخي، بل والجغرافي، ثم معارضته بما كتب حول هذه المسائل التاريخية في إطار منهج أهل السنّة والجماعة. أمّا تعليقات محبّ الدين الخطيب وهوامش، ففيها كثير من التعارض والتناقض. والكتاب إنّما ألِّف منافحةً عن الصحابة، رضي الله عنهم. أمّا تناوله ليزيد، فجاء دفاعًا عن معاوية في معرض جوابه عمّن طعنوا فيه بسبب حمله الناس على مبايعة ابنه. وما كان القاضي ملزَمًا بذلك...
7_ ما ذكرته عن الفتوحات... هي فتوحات وقعت في عهد يزيد، وليست فتوحات يزيد. والصحابة الذين جاهدوا في تلك الفترة جاهدوا في سبيل الله، لا في سبيل يزيد. والفتوحات كانت مرتبطة بأمراء الأطراف وإيمانهم بتحصين ثغور دار الإسلام. أمّا هاجس يزيد خلال فترة حكمه، فكان القضاء على المعارضة. ولا تنظر إلى البقاع التي فُتِحَت في عهده، بل انظُر إلى أرواح المؤمنين التي أُزهقت، وأنتَ أدرى بحرمة نفس المؤمن. تذكّر من قُتِل من أهل بيت الرسول، صلّى الله عليه وسلّم، ومَن قُتِل مِن الصحابة في موقعة الحرّة بأمر من يزيد. ثم تذكَّر ما ثبت عن النبيّ، عليه الصلاة والسلام، في حق أهل بيته، وفي حقّ الأنصار، وفي حقّ المدينة.
8_ الذهبي يصرِّح بأنّ يزيد كان ناصبيّا. وسؤالي: ما هو حكم النواصب؟ وهل تجوز محبّة مَن ناصبوا عليًّا العداء؟ ولماذا نتكتّم على النواصب، بينما نجرِّد أقلامنا، وسيوفنا أحيانًا، على غيرهم من الفرق المبتدعة بسهولة مذهلة؟
هل الأمر متعلِّق بالشوكة وأهلها؟
أليس الدفاع عن يزيد دفاعًا عن كل أنواع الحكم الجائر عبر تاريخنا، وتكريسا لها في واقعنا؟
كيف تحوّل ما اعتبره السلف أمرًا واقعًا ينبغي التعايش معه تغليبًا للمصلحة وحفاظًا على بيضة الإسلام إلى أمر مشروع، بل محمود نتغنّى به وكأنّه من أنصع صفحات تاريخنا الإسلامي؟
هل كُتب على هذه الأمّة أن تظل خاضعة لدولة العساكر والمتغلِّبة بدعوى الحفاظ على وحدتها؟
نُنْكِر على الرافضة دعوى الوصيّة بحجة الشورى، ثم ننافح عن أسرة توارثت الحكمَ غلبةً على مدى يقارب القرن! ونُنكِر عليهم العصمة، ثم نُلْبِسُها كلّ من عاصَر أئمّةَ التابعين!
أقول هذا وكلّي يقين أنّ هذه المسائل ينبغي تناولها وفق منهج واضح المعالم، يميّز فيه بين أحكام الشرع وأحداث التاريخ، بين لوازم النص ومقتضيات المصلحة، بين الغاية المقصدية وأحكام الضرورة. وكل هذا يحتاج إلى علم بالشرع، والتاريخ، والواقع. ويقتضي تحديد معالم الثابت، وحصر دوائر المتحوِّل وضوابطه.
أمّا الاحتكام الانتقائي إلى الأقوال؛ والتهويل بثنائية الخروج أو القعود؛ والخوض في مسائل الغيب هروبًا من واقع تاريخي يصرخ بالإدانة؛ والتغاضي عن الصيرورة الفاتحة للمجتمع الإسلامي بحكم التزامه بدينه، ونسبة كل أمجادنا إلى الأمراء والملوك؛ وتزوير وقائع الماضي أو تزيينها لوأد مآسي الحاضر... فكل هذا لن يقدّمنا قيد أنملة نحو المسار الصحيح، وستظلّ نفس المسائل تطرح بالطريقة نفسها.. ونظلّ متوجِّسين من تاريخنا ومن أنفسنا.. ونظل نراوح في دائرة الإسقاط التاريخي ونحن خارج دائرة التاريخ.