السلام عليكم
نص الفارسي وابن هشام :
قال أبو على ّ(في البغداديات) : ينشد بيت الفرزدق و هو :
و كل رفيقي كل رحل ...................... البيت .
و فيه هذا البيت غير ُ شئ من العربية .فمنهأنه قال تعاطى و قد تقدَّمه اثنان و لم يقل تعاطيا .
فإن قلت : إنه حذفَ لام الفعل من تعاطى لالتقاء الساكنين و لم يردّه إلى أصله للضرورة فيقول تعاطيا ، فهو قولٌ . و هذه الضرورة عكسُ ما في قول امرئ القيس :
.............. خظاتا... * ..............
لأنه أثبت اللامَ في موضع و جب { فيه } حذفُها ، مثلُ : رمَتَا ؛ لأن الحركة للتاء في رمتا غيرُ لازمة ، و الفرزدق حذفه في موضع و جب إثباته ، لأنك تقول تعاطيا و تراميا . و إن قلت تعاطى تفاعلَ ، و الألف لام الفعل ليست بضمير ، و في الفعل ضميرُ واحدٌ ؛ لأنَّ هما و إن كان في اللفظ مُثنى ، فهو في المعنى كناية عن كثرة ، و ليس المراد بالثنية هنا اثنين فيحمل الكلام عليها ، لكنه في المعنى يرجع إلى "كلٍّ" ، فحملت الضمير على كلٍّ ، فهو قولٌ . و يقوِّي هذا : {
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } .ألا ترى أن الطائفتين لما كانتا في المعنى جمعا لم يرجع الضمير إليهما مثنى لكنه جمع على المعنى . فكذلك " تعاطى" ، أفرد على المعنى إذ كان لكلِّ ، ثم حمل بعد الكلام على المعنى فقال : هما أخوان .
فالقول في "هما " أنه مبتدأ في موضع خبر الابتداء الأول وهو "كلُّ " ، وثنَّاه وإن كان في المعنى جمعا للدلالة المتقدمة أن المراد بهذه التثنية الجمع . ألا ترى أنَّ قوله :
{كل ُّرفيقي ْكلِّ رحل} جمع ٌ, و نظيره قوله { بينهما} بعد : {
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } .
فإن قال قائل : إنَّ "هما" يرجع إلى رفيقين على قياس قولهم في قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ } فهو عندنا مخطئٌ ؛ لأنَّ الاسم الأول يبقى معلَّقًا بغير شيء . و هذا القول ينتقض في قول مَن ْ يقول به ؛ لأنَّه عندهم يرتفع بالثاني ، أو بالراجع إليه ، فإذا لم يكن له ثانٍ كان إياه في المعنى و لم يعد إليه شيءٌ ، وجب أن لا يجوزَ ارتفاعُه به عندهم . .................
و الجملة التي هي "هما أخوان" رفعٌ خبر لكلٍّ . و لا أستحسن أن يكون "هما " فصلا لو كان المبتدأ والخبر معرفتين ، لأنِّي وجدتُ علامةَ ضميرِ الاثنين يُعنى به الجمع في البيت و الآية ، و في قول الآخر :
إنَّ المنيةَ و الحتوفَ كلاهما * يُوفي المخارمَ يرقُبان سَوادي .
و قوله : { أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَ ا } ، و نحو هذا . و لم أجد الاثنين المظهرين يُعنى بهما الجمع و الكثرة .فإن كان كذلك جعلتَ" هما" مبتدأ , و جعلتَ " أخوان " خبره ،و حملته على لفظ هما دون معناه . و لو جعلتَ " هما " فصلا و كان الاسمان معرفتين و ما قرب منهما ، و جعلت "أخوان" خبرَ "كلٍّ " لم يمتنع ؛ لأن الاثنين المظهرين قد عُني بهما الكثرة أيضا .ألا ترى أنَّ في نفس هذا البيـت :
و كلُّ رفيقيْ كل ِّرحلٍ .. * .............
، و ليس الرفيقان باثنين فقط ، و إنما يراد بهما الكثرة . فكذلك يراد بأَخَوَان الكثرة . إلا أنَّ قوله ’’ و كلُّ رفيقي ‘‘ في الحمل على الجمع أحسنُ من حمل أخوان على الجمع ؛ لأن المعنى في قوله :
و كلُّ رفيقي كلِّ رحل .. * ...............
: كل الرفقاء ، إذ كانوا رفيقين رفيقين فهما أخوان و إن تعاطى كل واحد مغالبةَ الآخر ؛ لاجتماعهما في السَّفرة و الصُّحبة . فالقول الأول في هذا هو الوجهُ . ومثلُ هذا قولهم : هذان خير اثنين في الناس ، و هذان أفضل اثنين في العلماء .فيدلك على أن الاثنين في قولنا : هذان خير اثنين في الناس ، و الرفيقين في هذا البيت ، ما يذهب إليه سيبويه ، من أنَّ المعنى : إذا كان الناس اثنين اثنين فهذا أفضلُهم ، و إضافة رفيقين في هذا البيت إلى "كل ّرحل" ، لو كان المراد بهما اثنين فقط لكانت هذه الإضافة مستحيلة ، لأن رفيقين اثنين لا يكونان لكلِّ رحلٍ . ففي هذا البيت دليل ٌ على أن رفيقين يراد بهما الكثرة . و فيه أنه حمل "هما "على معنى "كلّ" ، و فيه الوجهان اللذان حمَّلناهما تعاطى .
فأما قوله "قوماً "فيحتمل ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون بدلا من القنا ، لأن قومهما من سببهما و ما يتعلق بهما . و يحتمل أن يكون مفعولا له ، و كأنه قال : و إن هما تعاطيا القنا للمقاومة ، أي لمقاومة كل ِّ واحد منهما صاحبَه و مغالبتِه . و يحتمل أن يكون مصدرا من باب { صُنْعَ اللَّهِ } و{ وَعْدَ اللَّهِ
} ؛ لأنَّ " تعاطى القنا " يدُل على مقاومة. فتحمل" قوما" على هذا كما حملت { وَعْدَ اللَّهِ } على ما تقدم في الكلام ، مما فيه وعدٌ . هذا آخر كلامه .
و قال ابن هشام (في المغنى ) : قول الفرزدق:
وكلُّ رفيقي كلِّ رحل وإن هما * تعاطى القنا قوماهما أخوان
وهذا البيت من المشكلات لفظا ومعنى وإعرابا، فلنشرحه. قوله (كلُّ رحلٍ) : "كل " هذه زائدة، وعكسه حذفها في قوله تعالى ( عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ) فيمن أضاف، ورحل: بالحاء المهملة، وتعاطى: أصله (تعاطيا) فحذف لامه للضرورة، وعكسه إثبات اللام للضرورة فيمن قال:
لَها مَتنَتانِ خَظاتا كَما * أَكَبَّ عَلى ساعِدَيهِ النَمِرْ
إذا قيل: إن خظاتا فعل وفاعل، أو الألف من (تعاطى) لام الفعل، ووحَّد الضمير ؛ لأن الرفيقين ليسا باثنين معينين، بل هما كثير كقوله تعالى (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) ثم حمل على اللفظ، إذ قال (هما أخوان) كما قيل (
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) وجملة (هما أخوان) خبر كل
ّ، وقوله (قوما) إما بدل من القنا ؛ لأن َّقومهما من سببهما إذ معناها تقاومهما، فحذفت الزوائد، فهو بدل اشتمال، أو مفعول لأجله ، أي تعاطيا القنا لمقاومة كلِّ منهما الآخر، أو مفعول مطلق من باب ({ صُنْعَ اللَّهِ }؛ لأن تعاطى القنا يدل على تقاومهما. ومعنى البيت أن كلَّ الرفقاء في السفر إذا استقروا رفيقين فهما كالأخوين؛ لاجتماعهما في السفر والصحبة، وإن تعاطى كل واحد منهما مغالبة الآخر.
.انتهى كلامه .