(وَالفِقْـهُ: العِلْمُ بِالأَحْـكَامِ الشَّرْعِيـَّةِ العَمَلِـيَّةِ المُكْتَسَـبُ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيـلِيّ َةِ):
(الفِقْـهُ: العِلْمُ):
ـ عَرَّفَ الفقه بالعلم؛ مراعاةً للعلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي؛ إذ المنقولات لا تطلق إلا بعد مناسبة بين المنقول إليه والمنقول منه، يشهد لهذا المعنى ما ينسب إلى عبد المُطَّلِبِ في تسمية نبينا – صلى الله عليه وسلم – محمَّدًا، وقد سئل عن ذلك، فأجاب: ((ليكون محمودا في الأرض والسماء))، ومن شواهد هذا المعنى قول شاعرهم:
سَمَّيْتُهُ يَحْيَى لِيَحْيَى وَلَمْ يَكُنْ *** إِلَى رَدِّ أَمْرِ اللهِ فِيهِ سَبِيلُ
تَيَمَّمْتُ فِيهِ الفَأْلَ حِينَ رُزِقْتُهُ *** وَلَمْ أَدْرِ أَنَّ الفَأْلَ فِيهِ يَفِيلُ
وقال جرير من الطويل
فَمَا زَالَ مَعْقُولاً عِقَالٌ عَنِ النَّدَى ... وَمَا زَالَ مَحْبُوسًا عَنِ المَجْدِ حَابِسُ
وفي العربية تضاف لام التعريف إلى بعض الأعلام للَمْحِ معنى الأصل المنقول منه العَلَمُ؛ كالعباس، والحسين، والفضل، والحارث، والنعمان، فيكون معنى اللام - حينئذ – لَمْحَ الصفةِ التي اشتق منها العلَم؛ وعقد الإمام ابن مالك هذا المعنى؛ فقال:
وَبَعْضُ الاَعْلَامِ عَلَيْهِ دَخَلَا *** لِلَمْحِ مَا قَدْ كَانَ عَنْهُ نُقِلَا
كَالفَضْلِ وَالحَارِثِ وَالنُّعْمَانِ *** فَذِكْرُ ذَا وَحَذْفُهُ سِيَانِ
وأراد الإمام ابن مالك التسويةَ بينهما في التعريف والتنكير لا في المعنى، خلافا للإمام قاضي القضاة ابن عقيل - رحمه الله - الذي تعقَّب هذه التسويةَ؛ لأثر هذه اللام في تحقيق معنى لمح أصل الصفة.
ويشهد لهذا المعنى في التشريع: الأمرُ بإحسان الأسماء، والنهيُ عن التسمية بما يشعر بتزكية النفس؛ فقد غيَّر النبي – صلى الله عليه وسلم – اسم ((بَرَّةَ)) إلى: ((زينب))، وعلله بقوله: ((تزكي نفسها))، وغير اسم ((زيد الخيل)) إلى: ((زيد الخير)).
وفي الأدب المفرد للإمام البخاري عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه، عن جده، أنه أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال:«ما اسمك؟» قال: حَزن، قال: «أنت سهل»، قال: لا أُغَيِّر اسما سمَّانِيهِ أبي. قال الإمام سعيد ابن المسيب: فما زالت الحُزُونَةُ فينا بعد.
وأراني أطلت في تقرير هذا المعنى لخفائه في باب المصطلحات والمفاهيم، ولأهميته في شرح الحدود.
وليس المراد بالعلم في حد الفقه ما اصطلح عليه المناطقة من أنه إدراك الذهن الجازم المطابق لموجب؛ بل مرادهم به مطلق حصول المعنى في الذهن، من غير حكم عليه بقطع أو ظن، وذلك لأن الفقه أكثرُهُ من باب الظنون؛ لأن القطعية تستفاد من دليل قطعيِّ الثبوت قطعيِّ الدَّلالة، فلو اعتور الدليلَ ظنٌّ من أحد جهتيه كان مدلوله ظنيا، إذ من القواعد المنطقية أن النتيجة تتبع أخس المقدمتين، فينتج عن هذا أن احتمال القطع في الأحكام نسبتُهُ نسبةُ الواحد إلى الثلاثة، فهذا دليل كون أكثر الفقه ظنيا.
وهذا التأويل أولى من تعليل المسألة بالقطعية في لزوم العمل؛ على ما علله به إمام الحرمين في البرهان، فإن الجهة منفكَّة، فالكلام هنا في حد الفقه في نفسه، والعلم مرتبط في هذا الحد بالأحكام الفقهية في نفسها، بينما ارتبط جواب أبي المعالي بالعمل بالحكم الشرعي في حق المجتهد، وقد أشار العلامة ابن عاشور إلى ضعف هذا التخريج في حاشيته على شرح تنقيح الفصول.
(الفِقْـهُ: العِلْمُ بِالأَحْكَامِ):
الأحـكام: جمع حكم، وحقيقته النسبة والإضافة؛ إذ فيه إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه؛ فقولك: ((زيد قائم))، حكمٌ، وفيه نسبة القيام إلى زيد، وكذا قولك: ((زيد ليس بقائم))، حكمٌ أيضا؛ فإن فيه نَفْيَ القيام عن زيد، فيخرج بقيد الأحكام - عن حد الفقه – ما لم يحوي نسبة بين شيئين، فخرج التصور؛ لأنه إدراكٌ لمعنًى مفردٍ لا تركيبَ فيه، ولا نسبة، وسيأتي كلام المصنف في تعريف التصور والتصديق، وبيان الفرق بينهما.
وللأحكام أنواع متعددة بحسب مصدرها، يبلغها بعضهم من الأحكام عددا، إلا أنها – عند التحقيق - راجعة إلى ثلاثة أحكام، ليس غير؛ هي:
ـ الأحكام العقلية.
ـ والأحكام النقلية.
ـ والأحكام الحسية.
ـ فالحكم العقلي: يشمل الأحكام البَدَهِيَّةَ الضروريَّةَ؛ كاستحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما، ووجوب إثبات السبب لكل مسبَّب، والأحكام العقلية الضرورية عاملة في مساحتى الوجوب العقلي، والمستحيل العقلي، ولا عُلْقَةَ لها بباب الإمكان العقلي، ومن الأحكام العقلية ما هو مستفاد من العلم الكسبيِّ الاستدلاليِّ، المستفادِ من النظر الذي هو حركة النفس في المعقولات، ولا يختص العلم الكسبي بوجوب أو استحالة أو إمكان؛ بل يحكم في هذه الثلاثة الأنواع.
كما يختص الحكم العقلي بالكليات، دون الجزئيات، والقول المشهور عن العلماء اختصاصُ الإنسان بالعقل لاختصاصه بالعلم بالكليات دون غيره من سائر أنواع الحيوان، ممن أشار إلى هذا المعنى الآمدي في ((أبكار الأفكار))، والرازي في ((المطالب العالية))، وانظر خلاف هذا القول عند ابن الوزير اليماني في ترجيح أساليب القرآن، وفي: ((إيثار الحق على الخلق)).
ـ والحكم النقلي: هو الحكم المستفاد من النَّقْل والخبر، كالتاريخ، واللغات،،، وغيرهما.
ومما ينبغي الالتفات إليه: أن الأدلة النقلية من الكتاب والسنة، إنما هي أدلة نقلية عقليه؛ فإنها نقلية باعتبار مصدرها؛ الذي هو الوحي، وعقلية استدلالية باعتبار معناها.
ـ والحكم الحسي: هو الحكم المستفاد من الحواس الخمس: السمع، والبصر، واللمس، والذوق، والشم، وتختص الأحكام الحسية بالأحكام الجزئية، إذ ليس للحواس إلا قضيةٌ في عَيْنٍ.
وما سوى هذه الأنواع الثلاثة إنما هو داخل فيها، أو مركب منها؛ فالدليل الشرعي داخل في الدليل الوضعي؛ فإن الشريعة من باب الأحكام الوضعية؛ ولذلك جاز فيه التغيير بالنسخ، والتدرج في التشريع، يقول الإمام الشاطبي – في هذا المعنى-: ((الوضعيات قد تجاري العقليات في إفادة العلم القطعي، وعلم الشريعة من جملتها؛ إذ العلم بها مستفاد من الاستقراء العامِّ الناظِمِ لأشتات أفرادها، حتى تصير في العقل مجموعةً في كلياتٍ مطردَةٍ عامَّةٍ ثابتةٍ غيرِ زائلة ولا متبدِّلة، وحاكمة غير محكوم عليها)). الموافقات: (1/77).
والأحكام التجريبية ككون النار محرقة من أفراد الحكم الحسي، والأحكام العرفية كذلك مستفادة من الحكم الوضعي، فإنها استقرار تواضع مجموعة من الناس على معنى من المعاني واطراد هذا التواضع حتى يصير عرفا مستقرا معمولا به شرعا.
(الفِقْـهُ: العِلْمُ بِالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ):
تقييد الحد بالأحكام الشرعية أخرج ما سواها من الأحكام العقلية المحضة، والأحكام الحسية استقلالا، وإنما قيدناها بالاستقلال؛ لأن ثَمَّة أحكاما مستفادة من العقل ومن الحس، بعد اعتبار حجيتها شرعا؛ كالقياس العقلي المصلحي، والإثبات بالخبرة ورؤية الهلال، ورؤية المبيع،،، وغيرها من الأحكام العقلية والحسية المعتبرة شرعا.
(الفِقْـهُ: العِلْمُ بِالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ العَمَلِيَّةِ):
وتقييد الحد بالأحكام العملية أخرج - من الفقه - العلمَ بالأحكام الشرعية العلمية؛ ومنها قضايا العقائد من العلم بالأسماء والصفات، وأحكام الأفعال، والنبوات، وأحكام السمعيات؛ من تفاصيل البرزخ واليوم الآخر من الصراط والميزان والحوض والجنة والنار،،، وغيرها، وإن أمكن عدُّ الأحكام العلمية العَقَدِيَّة أحكاما تكليفية باعتبار توجُّه الأمر الشرعي بالإيمان بها، وما يترتب على هذا الإيمان – بعد ذلك – من الأحكام الشرعية المبنية عليها، خاصة ما في باب الأسماء والأحكام؛ من القضايا التي يترتب عليها الحكم بإسلام صاحبها أو بكفره، أو رِدَّتِهِ.
كما أن الأحكام العَقَدِيَّة لها ثمرة عملية لا شك فيها، وهي الأثر القلبي المترتب على الإيمان بأحكام العقائد، فإن لها أثرا بالغا في إخبات القلب وسكينته، كما أن لها أثرا عمليا في سلوك المكلف يظهر على جوارحه؛ فمن آمن بأن الله عز وجل هو الرب الخالق الرازق، لم يذل نفسه لغيره، وإذا آمن العبد بسَمْعِ الله تعالى وبَصَرِهِ وعِلْمِهِ؛ راعى هذه الإحاطة به في تصرفاته؛ فحَرَصَ على أن لا يَسمعَ الله من أقواله إلا خيرا، ولا يرى من أفعاله إلا بِرًّا، وإذا آمن بالقضاء والقدر خيرِهِ وشرِّهِ، كان له في هذا الإيمان أكبرُ العون على الصبر على نوائب الدهر، وقوارع الحدَثان.
ومن أَجْمَعِ ما قرأته في هذا المعنى كلام الإمام عزِّ الدين ابن عبد السلام؛ حيث يقول: ((أما ما قرن بالآيات من الصفات، فإنه جاء أيضا حاثًّا على الطاعات، وزجرًا عن المخالفات؛ مثل أن يذكر سَعَةَ رحمته؛ ليرجوه؛ فيعملوا بالطاعات، ويذكُرَ شدَّةَ نقمته؛ ليخافوه؛ فيجتنبوا المخالفات، ويذكر نظره إليهم، ليستحيوا من اطلاعه عليهم؛ فلا يعصوه، ويذكُرَ تفرُّدَهُ بالضر والنفع؛ ليتوكلوا عليه، ويُفَوِّضُوا إليه ، ويذكُرَ إنعامه عليهم وإحسانه إليهم؛ ليُحِبُّوه ويطيعوه ولا يخالفوه، فإن القلوب مجبولة على حب من أنعم عليها وأحسن إليها، وكذلك يذكر أوصاف كماله ليعظموه ويهابوه، ويذكر سمعه ليحفظوا ألسنتهم من مخالفته ، ويذكر بصره؛ ليَسْتَحْيُوا من نظر مراقبته، ويجمع بين ذِكر رحمته وعقوبته، ليكونوا بين الخوف والرجاء؛ فإن السَّطْوَةَ لو أُفرِدَتْ بالذِّكر، لخِيفَ من أدائها إلى القنوط من رحمته، ولو أُفرِدَتِ الرحمةُ بالذِّكر، لخِيفَ من إفضائها إلى الغرور بإحسانه وكرامته، مثل قوله : {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم}، وقوله: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب}، وقوله : {اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم}، وقد يجمع المدائح في بعض المواضع، ليتعرف بها إلى عباده فيعرفوه بها ويعاملوه بمقتضاها))، قواعد الأحكام في مصالح الأنام: (1/27-28).
وقد اختار بعض الأصوليين تقييد حد الفقه بالأحكام الفرعية دون العملية، وتوسَّع المصنف – رحمه الله – في منع الموانع في ترجيح قيد العملية على الفرعية؛ وهذا تمام كلامه:
((وأما قولنا - في حد الفقه- ((العملية)): معقولنا: ((الحكم خطاب الله المتعلق بفعل المكلف)): فلا منافاة فيه.
وقولكم: ((الاعتقادات الدينية؛ كأصول الدينأحكام)):
جـوابه: أن أصول الدين منه ما يثبت بالعقل وحده؛ كوجود الباري، ومنه ما لا يثبت إلا بكلٍّ منَ العقل والسمع، وهذان خرجا بقولنا: ((الشرعية))، وتفسيرنا إياها نحن وغيرنا بما يتوقف علي االشرع، ومنه ما لا يثبت إلا بالسمع؛ كمسألة أن الجنة مخلوقة،،، ونحوها:
فنقول: المراد بالحكم: الإنشائيُّ لا الخبريُّ، وما لا يثبت إلا بالسمع ينظر إليه من جهتين:
إحداهما: أصل ثبوته، وذلك ليس بإنشاء؛ لأن السمع فيه مخبرٌ لا منشئٌ؛ كقولنا: الجنة مخلوقة، والصراط حق.
والثانية: وجوب اعتقاده، وذلك حكم شرعيٌّ إنشائيٌّ، وهو عندنا عمليٌّ، من مسائل الفقه، وهو داخل في قولنا: ((الحكم خطاب الله المتعلق بفعل المكلف)).
وقولكم: هل تسمى الاعتقادات والنيات والأقوال أفعالا؟:
جـوابه:أنها تسمى، وأما كون ذلك بالحقيقة أو المجاز، فيتوقف على نقل اللغة، والأظهر عندي أنه بالحقيقة.
ومن هنا يُعلَم: أن عدول الآمديِّ وابن الحاجب وغيرِهما عن لفظ العملية إلى لفظ الفرعية؛ احتجاجا بأن النية من مسائل الفروع، وليست عملا ليس بجيد؛ لأنها عمل.
فإن قلت: فلفظ: ((الفرعية))، أوضح من العملية، فلمَ لا اخترتموه؟:
قلت: لأنه لا يدخل فيه وجوب اعتقاد مسائل الديانات التي لا تثبت إلا بالسمع؛ فإنها عندي فقه، وليست فرعية.
وفي كلام الشيخ الإمام الوالد - رحمه الله تعالى- في شرح المنهاج ما يقتضي أن لفظ الفرعية أجود، وأن الأظهر أن وجوب اعتقاد ما ثبت من الديانات بالسمع لا يسمى فقها، ولكني لست أوافق على ذلك))، منع الموانع: (92-95).
(الفِقْـهُ: العِلْمُ بِالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ العَمَلِيَّةِ المُكْتَسَبُ):
تقييد حد الفقه بالعلم الاكتسابي؛ يراد به العلمُ النظريُّ الاستدلاليُّ، وأول من قيد حد الفقه بالاكتساب هو الإمام الرازيُّ؛ اعتمادا على ترجيح تفسير الأستاذ أبي إسحاق الشيرازي للفقه في اللغة باختصاصه بإدراك الأشياء الخفية وفهم المعاني الدقيقة (انظر: شرح اللمع للشيرازي: 1/157 (تحقيق: عبد المجيد التركي)، ونفائس الأصول: 1/119-120)؛ فإنَّ فهم الدقائق لا يتأتى إلا بنظر واستدلال، وهذا التقييد يُخرِجُ العلمَ الضروريَّ، صرح بذلك الإمام القرافي في شرح تنقيح الفصول؛ حيث عرف الفقه بأنه: ((العِلْمُ بِالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ العَمَلِيَّةِ بِالِاسْتِدْلَا لِ))، ثم شرح هذا التعريف؛ فقال:
((وَقَوْلِي: ((بِالِاسْتِدْلَ الِ)): احْتِرَازًا عَنِ المُقَلِّدِ، وَعَنْ شَعَائِرِ الإسلامِ؛ كوُجُوبِ الصلاةِ وَالصِّيامِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذلكَ؛ ممَّا هُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالِ، فَالعِلْمُ بِهَا لَا يُسَمَّى فِقْهًا اصْطِلَاحًا لِحُصُولِهِ لِلْعَوَامِّ والنِّسَاءِ والبُلْهِ)).
وقلتُ في تعليقي على هذا الموضع من تحقيق شرح تنقيح الفصول وحاشية العلامة ابن عاشور عليه، يسَّرَ الله إتمامَهُ!!:
قد ناقش شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله – هذا القولَ بأنه: ((لم يُعلَمْ أحدٌ منَ المتقدِّمينَ قاله، ولا احترز بهذا القيد أحدٌ، إلا الرازيُّ ونحوُهُ، وجميع الفقهاء يذكرون فى كتب الفقه: وجوبَ الصلاة، والزكاةِ، والحجِّ، واستقبالِ القبلةِ، ووجوبَ الوضوءِ، والغُسْلِ من الجنابة، وتحريمَ الخَمْرِ والفواحشِ،،، وغيرَ ذلك؛ مما يعلم من الدين ضرورةً)). مجموع الفتاوى: 13/118، واعتراضه وَجِيهٌ، له حظٌّ منَ النظر، يضاف إليه أن هذا القيد يؤول بالفقه إلى أن يرادف الاجتهاد، وهو ما لم يقل به أحدٌ)).
وينص الأصوليون على أن تقييد حد الفقه بالعلم المكتسب يُخرِجُ العلم بالأحكام الشرعية العملية من غير طريق الاكتساب والاستدلال:
ـ كعلمِ الله - عز وجل - بالأحكام؛ فإنه ليس علما استدلاليا؛ لشمول علم الله – تبارك وتعالى - وإحاطته بالكليات والجزئيات على السواء، فلا يحتاج إلى استدلال.
ـ وكذلك يخرج علمُ جبريلَ عليه السلام؛ فإنه يَحصُلُ له بالخبر عن الله تعالى.
ـ كما يخرج به علم المقلد، فإن علمه بالأحكام يحصله من المفتي مباشرة بدون نظر واستدلال.
ـ وكذلك علم الخلافيِّ المَعْنِيِّ بأخذ الحكم مسلَّمًا به عن إمامه، ثم يعنى الخلافيُّ بعد ذلك بتقريره ودفع ما يعترض عليه به.
(الفِقْـهُ: العِلْمُ بِالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ العَمَلِيَّةِ المُكْتَسَبُ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّ ةِ):
المراد بالأدلة التفصيلية: الأدلة الخاصة بالحكم المستنبَطِ منها، المستدَلُّ بها عليه مباشرة من غير واسطة؛ فإن الاستدلال المباشر هو الفارق بين الدليل التفصيلي والدليل الإجمالي، فالكتاب دليل من الأدلة الإجمالية الأصولية، والآية المعينة دليل تفصيلي على ما يستفاد منها من أحكام.
والضمير في قوله: ((أدلتها))، يعود إلى الأحكام، فيكون المعنى أن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلة الأحكام التفصيلية، فإذا سَلِمَ هذا التفسير من الاعتراض، توجه عليه هذا الإيراد:
إيراد على حد الفقه: تقييد الفقه بالمستنبط من أدلة الأحكام غير جامع، فإن الأئمة المجتهدون لا يقتصرون في الاستدلال على أدلة الأحكام دزون غيرها، بل قد يستنبط الحكمُ الشرعيُّ من الخبر، ومن القَصَص؛ بل قد يستنبط الحكم الشرعي العملي من الأسماء والصفات؛ ومن شواهد ذلك في اجتهادات الفقهاء:
ـ قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[المائدة: 33-34]، فقد استدل الفقهاء على سقوط حد الحرابة ، بختـم الآية بقوله تعالى: {فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
ـ الدليل الأشهر للفقهاء على جواز الجعالة هو قوله تعالى – في قصة يوسف عليه السلام -: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}، وليست الآية معدودة من آيات الأحكام، بل هي من آيات القصص القرآني.
ـ دليل الفقهاء على جواز الكفالة (وتُسَمَّى: الحَمَالةَ، والضمان الشخصي) قوله تعالى – في قصة يوسف عليه السلام أيضا -: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}.
دليل تحريم المعازف مأخوذ من حديث البخاري في الخبر عما سيكون بيد يدي الساعة من وقوع العذاب على مقترفي الزنا واستعمال المعازف وشرب الخمر؛ في قوله - -: ((يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف))، وليس الحديث مصنفا ضمن أحاديث الأحكام.
بل إن الأدلة الواردة في شرع من قبلنا الذي اعتبره بعض الأصوليين دليلا شرعيا، واستدل بأدلته التفصيلية بعضُ الفقهاء على استنباط الأحكام الشرعية -: جميع أدلته من هذا القبيل.
وتأسيسا على هذا: ينبغي أن يُحَرَّرَ التعريفُ من إضافة الأدلة إلى الأحكام ليعم كل دليل صالح للاستدلال به، وإن لم يكن مصنفا ضمن أدلة الأحكام.