نواصل الحديث عن موقف الإسلام من الحرية الشخصية عند الإنسان، ولنتكلم عن قضيةٍ طالما لاكتْها ألسنةُ العلمانيين، وقبلهم الغربيون، فهم يقولون: إن الإسلام يحرِّم على أتباعه كثيرًا من المُتَع واللذَّات؛ فهو - مثلاً - يمنعُهم من استماع الأغاني والموسيقا، وهما يجلبانِ للنفس سعادتَها، ويرتقيان بها إلى عالمٍ روحي بعيدٍ عن صخب حياتهم المعيشية، كما يحرِّم عليهم شربَ الخمور والكحوليات وأكْل الخنزير، ويمنعهم من التمتُّع بالنظر إلى الجنس الآخر، فيجعل من الإثم إمتاعَ العين وإراحتها بالنظر إلى وجوه الحسناوات، اللاتي يأسر حسنُهن كلَّ صاحب ذوق سليم، كما يأسره رؤيةُ المروج الخضراء على ضفاف الأنهار الجارية، فضلاً عن تحريم الإسلام للاختلاط بين الجنسين، وللقبلات بينهما، ولأي علاقة بين الرجل والمرأة ولو على سبيل الصداقة، وتحريمه للمعاشرة الجنسية إلا بين الزوجين، كما يحرِّم على النساء أن يلبسْنَ ثيابًا قصيرة أو ضيقة؛ بل يمنعهن من إظهار شيء من أجسادهن، كما يحرِّم على الرجال لبسَ الحرير والذهب ونحو ذلك.

فها هو يغلق في وجه الإنسان بابَ الحرية الشخصية، ويكبِّله بأغلالٍ من المحذورات والممنوعات في المَطعم والمشرب، والملبس والمنكح، والإبداع والاستمتاع بإبداع الآخرين، وهذا استعباد لإنسانيته، ومصادرةٌ لإرادته الحرة.

هذه هي رؤية الغربيين والعلمانيين للإسلام وشريعته، وهي رؤية ينقصها كلُّ مقومات الرؤية الصحيحة، من الشمول والوعي، والحيدة والإنصاف، فأقول:
إن الإسلام لم يَحْرِم أتباعَه من الاستمتاع بهذه المذكورات، من سماع الموسيقا والغناء، وشرب الخمور، وتعاطي المتعة الجنسية!

أجل! فكلُّ ما فعله الإسلامُ أنه أخَّر استمتاعهم بهذه الأمور إلى وقت آخر، وإلى أجلٍ قريب جدًّا، هو انتهاء هذه الدنيا، وابتداء الحياة الأخرى، حيث يطلق أيديَهم في التنعم بهذه اللذات على أجمل ما تكون وأكمله، وأيضًا فإن الله حرَّم ما ذكروه، وأباح أضعاف أضعافه من الحلال الطيب، فحرَّم من المشروبات المسكرَ فقط، وأباح ما دونه، وحرم من المطعومات الميتةَ ولحم الخنزير، وأباح ما دونه، والحاصل أن سماحة الإسلام وشموليته وواقعيته لم تغفل طبيعة الإنسان وما جُبَل عليه؛ ولذلك فالمباحات أضعاف المحرَّمات، وهذا التوازن العجيب لا يوجد إلا فى دين الإسلام.

إي، قد كان يلام الإسلام على نُظمه وقواعده التي يفرضها، لو أنه ينظر إلى الحياة نظرةَ الغربيين والملحدين، الذين لا يؤمنون بالبعث والحياة الأخرى، وساعتها قد يقال: إن لكلامهم حظًّا من النظر، أمَا وإن الإسلام يَعِدُ أتباعَه بحياة أخرى، شرطُ نعيمها تطهيرُ النفس، والسمو بها عن الشهوات الفانية، فلا ضيرَ عليه في تأجيل الاستمتاع بهذه اللذات إلى هذا الوقت المضروب لهم؛ ليحصلوا عليها بعد تخليصها من النقص الملازم لها في الحياة الأرضية الزائلة.

ثم ما الغرابة في ذلك وعندنا لمثل صنيع الإسلام شواهدُ كثيرةٌ، وأنموذجات شتى؟! فقد رأى الناس بأجمعهم الرياضيين يُمنعون من بعض الأكلات؛ حفاظًا على لياقتهم، ورأينا الأطباء يَمنعون المرضى من تناول أنواعٍ من الطعام والشراب من غير نكير، ورأينا الكليات والمؤسسات العسكرية وأشباهها تأخذ منسوبيها بتقييدات شتى، مدَّعيةً أن هذا فيه صلاح أفرادها، وحفظ الدور المنوط بها، ولم يقل أحد من الناس: إن هذا وأشباهه فيه إجحاف بحقوق الإنسان، وهضم لكرامته.

ولو تنزَّلنا جدلاً مع أصحاب هذه الشبهة، وقلنا: إن الإسلام أجحف بأتباعه؛ إذ منَعَهم تلك الشهواتِ، فهذا قد يكون له وجهٌ لو أن الإسلام لم يقدِّم لأتباعه بدائلَ تعوِّضهم عن هذه اللذَّات الموجودة فيما تركوه من أمور، فيُلام الإسلام لو منع أتباعه من سماع الموسيقا دون أن يشرع لهم الصلاة، التي تسمو فيها أرواحهم، ويجدون فيها راحتَهم وأنسهم وتلذُّذهم؛ إذ يتَّصلون فيها بربهم، ويرتفعون بذلك فوق شهواتهم ومشكلاتهم؛ بل فوق عالمهم المادي كله، يستمدُّون نعيم القلب الذي لا يوجد له مثيل في أي لذة أخرى من اللذات الأرضية، مهما كانت، وأنَّى كانت، ويستمدون الثقة والطمأنينة، وأنهم ليسوا بمفردهم في هذا الكون، فتظل قلوبهم في طرب وغناء بما ليس يشبهه أي طرب وغناء، وكم من إنسان قد جرب الأنسَ واللذة في الموسيقا والغناء، ثم منَّ الله عليه بالهداية، وأذاقه طعم الصلاة والمناجاة، فجرَّب أنس المناجاة والاتصال بربه في الصلاة وفي الدعاء، فعلِم أن لذَّاته الأولى بجانب الثانية كمثل قطرة ماء مع البحر الخضم!

إن الجنة الدنيوية القلبية التي يمنحها الإسلام لمعتنقيه الذين يلتزمون به التزامًا صحيحًا، لَتجعلُهم في غنى عن البحث عن السعادة في أي أمور أخرى سوى ما شرعه لهم من ذِكرٍ، وتسبيح، وصلاة، وحج، ودعاء، حتى يقول الواحد من هؤلاء: لئن كان أهل الجنة في مثل ما نحن فيه، إنهم لفي عيش رغد.

وصدق هذا القائل؛ فإن المعول في السعادة على ما يكتسبه القلبُ، لا على ما تحصله الجوارح، فإذا وُجدتْ سعادةُ القلب من طريقٍ ما غير الشهوات الحسية التي ركِّب فيها النقص الملازم لها باعتراف أهل الأرض، فهي السعادة العظمى الحقيقية، وهي لا توجد في غير الإسلام.

إن الإسلام لم يترك أتباعه دون أن يشرع لهم ما يحيط قلوبَهم وأرواحهم بسياجٍ من السعادة، هُدِيَ إليه من هُدي، وحُرِم منه من حُرم، إن المسلم الحقيقي ليس في حاجة لأن يستمد سعادته من الموسيقا ونحوها، كما أنه ليس في حاجة إلى تعاطي المهدئات، فضلاً عن المسكرات والمخدرات؛ فإنه لا يعاني أزمة نفسية يريد أن يتغلب عليها بهذه الأمور؛ بل مؤهل لأن يعالِج الآخرين ويأخذ بأيديهم؛ ليصلوا إلى نعيم الروح، وجنة القلب، التي وصل هو إليهما.

لو قدِّر أن أهل الأرض جميعًا اعتنقوا الإسلام، وعرَفوه حق المعرفة، وطبَّقوه واقعًا في حياتهم، لخلَتِ الأرض من أي عيادة نفسية.

إن المسلم ليس في حاجة للذَّهاب إلى المسرح ليبقى لمدة ساعتين في ضحكٍ متواصل، من مواقف ظريفة يقوم بها الممثلون، ليخرج بعدها وقد ذهب عنه ما كان يجده من همٍّ وحزن قبل دخول المسرح، ولينسى آلامه ومشكلاته؛ بل المسلم ضاحكُ القلبِ دائمًا، متفائل، واثق، وإذا هجم على قلبه ما يجلب الهمَّ، ويُذهِب سعادتَه، هُرِعَ إلى صلاته ومناجاته، فعاد إليه ما كان عليه من بشاشةٍ وسعادة، ورضًا وطمأنينة.

وأما تقييد الإسلام لحرية الإنسان في النظر والاختلاط والخلوة واللباس، فليس يَخرج عن كونه من باب الرحمة بهذا الإنسان؛ لعلم خالقه بتكوينه الفسيولوجي، وما ركِّب فيه من إرادات وشهوات، وأي ظلم كان يمكن أن ينسب للإسلام لو رأيناه أباح لأتباعه ممارسةَ هذه الأشياء وتعاطيها، ثم حرَّم عليهم الزنا وعاقبهم على فعله؟! فإنَّ أباحة هذه الأشياء ومنعهم من الزنا، هو من تكليف ما لا يطاق؛ فإن النفس البشرية لا تقدر على هذا، ولقد أباح الغرب الاختلاط منذ قرون ولم يفد هذا حتى في منع الاغتصاب، أما الزنا، فلو وجدتَ فتاة وصلَتِ الجامعة وهي عذراء، فقد وجدتَ الكبريت الأحمر!
أيستقيم تحريم الزنا مع السماح للمرأة أن تلبس ما شاءت من ثياب قصيرة أو ضيقة أمام أعين الرجل؟! وقد ركِّب في الرجل اشتهاء جسدها، وإرادة وصالها، ألا يكون ذلك - لو وُجد - مِن تكليف الناس بما لا يطيقون، وكإلقاء الإنسان في البحر مكتوفًا مع أمره بألاَّ يبتل؟!

لو وجد في شرعٍ ما أو قانونٍ مثلُ هذا، ألا يكون هو عين التناقض؟! ومن هنا نعرف أن التشريعات البشرية التي تحرِّم الاغتصاب وتجرِّمه، مع السماح بالاختلاط المبتذل، والعري الفاحش - هي الظالمة للناس، وجريمتُها أكبر من جريمة من يقترف الاغتصاب ويمارسه.

إن العين العوراء التي يُنظَر بها إلى تشريع الإسلام هي التي تجعل القائل يظن أن هذه الأمور هي تقييد للحرية،مع أنها ليست إلا تمشيًا مع قانون الفطرة البشرية والجبلَّة الإنسانية، وهذا ما يتميَّز به الإسلام دائمًا؛ إذ هو متمشٍّ مع نواميس الكون والطبيعة، وحقائقِ الأشياء، وبديهياتِ العقل، ولا يلتفت إلى العواطف والأهواء، ورغباتِ النفوس السافلة، ولوثاتِ العقول المنحرفة.

على أنه ينبغي ألا ننسى أن الإسلام لم يغلق باب الاختلاط والخلوة، والنظر بين المرأة والرجل تمامًا، ولا حال حيلولة كاملة بين كون الرجل صديقًا للمرأة، والمرأة صديقة للرجل، يحترم عقلَها، وتحترم عقلَه، فهذا موجود في علاقة الرجل بمحارمه من النساء، والمرأة بمحارمها من الرجال، فللرجل إنشاء صداقات جميلة وقوية مع أخواته، وعمَّاته، وخالاته، وبنات إخوانه وأخواته؛ بل مع غير هؤلاء من الأباعد كأخواته من الرضاعة[1]، وزوجة أبيه، وبنت زوجته، وللمرأة نفس هذا الحق من خلوةٍ، واختلاطٍ، ونظرٍ مع محارمها من الذكور، وهكذا نرى الإسلام يرفع القيدَ عن الخلوة والاختلاط، والنظر بين الرجل والمرأة، عندما يتسنى للعلاقة بينهما أن تكون نزيهةً، وأن تكون نظرةُ كل منهما للآخر نظرةً بريئة من كل مطمع دنيء، أو مأرب سفيل، وليس يمكن أمْن ذلك إلا مع تحريم الزواج بين الطرفين كما في علاقة المحارم.

فإذا قيل: لِمَ حَرَم الإسلام أتباعَه من الزنا، ولم يطلق أيديَهم في المتعة الجسدية؟
فنقول: إن الإسلام لم يَحرِم الإنسانَ من المتعة الجسدية، غاية ما في الأمر أنه نظمها له بما ينسجم مع فطرته الصحيحة، التي لم تتعفن بثقافة مواخير نيويورك ولندن!

فشرع الإسلام الزواج، ورغَّب فيه، وحثَّ عليه، وأما إباحة الزنا، فليس يمكن أن يقول به عاقلٌ سليم الفطرة على وجه الأرض، فهل يسوِّغ آدمي أن يزني فلان بزوجة فلان، ويزني الثاني بزوجة الأول، ويربِّي هذا أولاد هذا، ويربي الآخر أولاده، ويمنحهم دفْأه وحنانه، وماله وجهده، وهم ليسوا بأولاده؟!
وباقي صور الزنا كثيرٌ، منها مرفوضٌ تمامًا عند غالب المجتمعات، وتتسامح بعض مجتمعات تلوثتْ فطرتُها بقَبول بعض صوره، وليس معقولاً أن يأتي شرعٌ حكيم فيحرِّم الزنا بين المتزوجين؛ لعدم قبول العقول كافة له، ويبيح الزنا بين العزاب؛ لقبول بعض العقول له مع فساده في نفسه، فمن رحمة الإسلام وفضله، ما شرعه لأتباعه من إباحة الزواج، وتحريم الزنا في دار التكليف.

إن شيوع أمر، وتعود الناس عليه حتى يصير مألوفًا لديهم - ليس معناه استصواب هذا الأمر، وأنه ينبغي إقراره، وعدم الاعتراض عليه؛ نظرًا لشيوعه، وإن شئت مثالاً، فانظر إلى استعمال السجائر وشيوعه في أقطار الأرض، مع الإجماع العلمي على ضررها وإفسادها لصحة الإنسان، وانظر إلى إجماع القوانين والدساتير على منع تعاطي المخدرات أو الاتجار بها، لكن كيف هو نظر مدمنيها ومروِّجيها إلى ذلك، فهل أوجبتْ رؤيتُهم تلك إباحتَها عرفًا أو قانونًا؟!
أخيرًا:
ينبغي الإشارة إلى أن الإسلام وإن منع أتباعه مما منعهم منه، فإنما هو يخاطب ضمائرهم ووجدانهم، ويعهد الأمر إليهم، ويترك لهم الحرية في الانصياع لهذه الأشياء، أو إهمالها وعدم الأخذ بها، فلكل أحد أن يغلق عليه بابه ويتعاطى ما يشاء، فلم يكلف الله أحدًا بالتجسس على الناس في بيوتهم، وإلزامهم بالتقيُّد بما شرع لهم؛ بل إنما يتدخَّل الإسلام ويقيد الحرية الشخصية عندما تبرز المخالفةُ من الخفاء إلى الظهور، ومن السر إلى العلانية؛ فمن شرب خمرًا مستترًا به في بيته، فليس لأحد سلطةٌ في تتبعه بشيء، بينما لو شربها بين الناس وشهد عليه الشهود، لوجب إقامة الحدِّ عليه، والسبب في هذا أن حريته الشخصية في هذه الحالة صار ضررُها يتعدَّى إلى الآخرين، فوجب زجر الفاعل؛ حتى لا يتتابع الناسُ في الاقتداء به، ألا ترى أنك حرٌّ في ترك الزبالة في بيتك حتى يصير مقلبًا للزبالة، بينما لن تتركك البلدية تلقي هذه الأكياس أمام منزلك في طريق الناس؟!





ـــــــــــــــ ـــــ
[1] تأملتُ فظهر لي أنه ربما يكون من أسرار تحريم النكاح بسبب الرضاع توسيعُ دائرة وجود علاقات نزيهة بين الرجل والمرأة، بعيدًا عن الشهوة، وأن تكون نظرة كل منهما للآخر نظرةَ احترام، لا يشوبها طمعُ الشهوة الوضيع.


-----
مقالة لأخيكم نشرتها الألوكة على هذا الرابط

www.alukah.net/LinkClick.aspx?id=1373