باب قول المحدث: حدثنا أو أخبرنا، وأنبأنا
أي هذا باب في بيان قول المحدث: حدثنا وأخبرنا وأنبأنا - هل فيه فرق؟ أم الكل واحد؟ والمراد بالمحدث اللغوي وهو الذي يحدث غيره، لا الاصطلاحي وهو الذي يشتغل بالحديث النبوي.
فإن قلت: ما وجه ذكر هذا الباب في كتاب العلم؟ وما وجه المناسبة بينه وبين الباب الذي قبله؟ قلت: أما ذكره مطلقا فللتنبيه على أنه بنى كتابه على المسندات المروية عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وأما ذكره في كتاب العلم فظاهر؛ لأنه من جملة ما يحتاج إليه المحدث في معرفة الفرق بين الألفاظ المذكورة لغة واصطلاحا. وأما وجه المناسبة بين البابين فهو من حيث إن المذكور في الباب السابق رفع العالم صوته بالعلم ليتعلم الحاضرون ذلك ويعلمون غيرهم بالرواية عنه، فعند الرواية والنقل عنه لا بد من ذكر لفظة من الألفاظ المذكورة؛ فحينئذ ظهر الاحتياج إلى معرفتها لغة واصطلاحا. ومن حيث الفرق بينها وعدمه، وفي بعض النسخ: أخبرنا وحدثنا وأنبأنا.

وقال لنا الحميدي: كان عند ابن عيينة: حدثنا وأخبرنا وأنبانا، وسمعت واحدا.
الحميدي بضم الحاء هو أبو بكر عبد الله بن الزبير القرشي الأسدي المكي، أحد مشايخ البخاري، وقد مر ذكره وتصدير الباب بقوله تنبيه على أنه اختار هذا القول في عدم الفرق بين هذه الألفاظ الأربعة. نقل هذا عن شيخه الحميدي، والحميدي أيضا نقل ذلك عن شيخه سفيان بن عينية، وهو أيضا قد ذكر.
وفي بعض النسخ: وقال لنا الحميدي: وهي رواية كريمة والأصيلي، وكذا ذكر أبو نعيم في المستخرج. وليس في رواية كريمة: وأنبأنا. والكل في رواية أبي ذر.
ثم اعلم أن قوله: قال الحميدي - لا يدل جزما على أنه سمعه منه، فيحتمل الواسطة، وهو أحط مرتبة من حدثنا ونحوه سواء كان بزيادة لنا أو لم يكن؛ لأنه يقال على سبيل المذاكرة بخلاف نحو حدثنا؛ فإنه يقال على سبيل النقل والتحمل.
وقال جعفر بن حمدان النيسابوري: كلما قال البخاري فيه: قال لي فلان - فهو عرض ومناولة. وقال القاضي عياض: لا خلاف أنه يجوز في السماع من لفظ الشيخ أن يقول السامع فيه: حدثنا وأخبرنا وأنبأنا، وسمعته يقول وقال لنا فلان، وذكر لنا فلان. وإليه مال الطحاوي. وصحح هذا المذهب ابن الحاجب. ونقل هو وغيره عن الحاكم أنه مذهب الأئمة الأربعة، وهو مذهب جماعة من المحدثين، منهم الزهري ويحيى القطان.
وقيل: إنه قول معظم الحجازيين والكوفيين؛ فلذلك اختاره البخاري بنقله عن الحميدي عن سفيان بن عيينة. وقال آخرون بالمنع في القراءة على الشيخ إلا مقيدا، مثل حدثنا فلان قراءة عليه وأخبرنا قراءة عليه، وهو مذهب المتكلمين.
وقال آخرون بالمنع في حدثنا وبالجواز في أخبرنا، وهو مذهب الشافعي وأصحابه ومسلم بن الحجاج وجمهور أهل المشرق، ونقل عن أكثر المحدثين منهم ابن جريج والأوزاعي والنسائي وابن وهب. وقيل: إن عبد الله بن وهب أول من أحدث هذا الفرق بمصر، وصار هو الشائع الغالب على أهل الحديث. والأحسن أن يقال فيه: إنه اصطلاح منهم، أرادوا به التمييز بين النوعين، وخصصوا قراءة الشيخ بحدثنا لقوة إشعاره بالنطق والمشافهة.
وأحدث المتأخرون تفصيلا آخر، وهو أنه متى سمع وحده من لفظ الشيخ أفرد، فقال: حدثني أو أخبرني، أو سمعت. ومتى سمع مع غيره جمع، فقال: حدثنا أو أخبرنا. ومتى قرأ بنفسه على الشيخ أفرد، فقال: أخبرني. وخصصوا الإنباء بالإجازة التي يشافه بها الشيخ من يخبره. وكل هذا مستحسن وليس بواجب عندهم؛ لأن هذا اصطلاح، ولا منازعة فيه.
وقال بعضهم: التحديث والإخبار والإنباء سواء، وهذا لا خلاف فيه عند أهل العلم بالنسبة إلى اللغة. قلت: لا نسلم ذلك؛ لأن الحديث هو القول، والخبر من الخبر بضم الخاء وسكون الباء، وهو العلم بالشيء من خبرت الشيء أخبره خبرا وخبرة، ومن أين خبرت هذا؟ أي علمته. وإنما استواء هذه الألفاظ بالنسبة إلى الاصطلاح، وكل ما جاء من لفظ الخبر وما يشتق منه في القرآن والحديث وغيرهما فمعناه الأصلي هو العلم؛ فافهم !

وقال ابن مسعود: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق. وقال شقيق عن عبد الله: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم كلمة. وقال حذيفة: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين.
هذه ثلاث تعاليق أوردها تنبيها على أن الصحابي تارة كان يقول: حدثنا، وتارة كان يقول: سمعت. فدل ذلك على أنه لا فرق بينهما.

وقال أبو العالية: عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه. وقال أنس: عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه عز وجل. وقال أبو هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربكم عز وجل.
هذه ثلاث تعاليق أخرى أوردها تنبيها على حكم العنعنة، وأن حكمها الوصل عند ثبوت اللقى. وفيه تنبيه آخر، وهو أن رواية النبي عليه الصلاة والسلام إنما هي عن ربه سواء صرح بذلك الصحابي أم لا. والدليل عليه أن ابن عباس رضي الله عنهما روى عنه حديثه المذكور في موضع آخر، ولم يذكر فيه: عن ربه.
لا يقال: ذكر العنعنة لا تعلق له بالترجمة، وكذا ذكر الرواية؛ لأنا نقول: لفظ الرواية شامل لجميع الأقسام المذكورة، وكذا لفظ العنعنة؛ لاحتماله كلا من هذه الألفاظ الثلاثة.