بين خنوع الدعاة واعتزاز الأدعياء


محمد بن عبدالله البقمي




إنَّ المتأمِّل للحراك الثَّقافي،والثَّورة المعلوماتيَّة الحديثة، والتغيُّرات الحضارية المتسارعة التي تشهدها ساحتُنا المجتمعية - لَيكاد يَموت قلبه غيظًا وكمدًا من هول ما يرى من تلك الفِتَن التي قد أخذ بعضها بخطام بعض؛ ((يرقِّق بعضُها بعضًا))، كما جاء بذلك الوصف في الحديث.

هذا الأمر إلى غيره مما يطول المقام عند سرده، وتحبير السَّواد على البَيَاض لبيانه، وإيضاح كُنهه - يضع دُعاة الهدى، وحملة الرِّسالة الحقَّة أمام مسؤوليَّاتِهم العظيمة، ويحمِّلَهم أمانتهم التي حمَّلهم إيَّاها ربُّ العالمين؛ {لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187]، فذا ميثاق ربِّنا الذي استوثقه من وُرَّاث الأنبياء، وخُزَّان علم الشريعة.

ولهذا الحقِّ تجبُ حقوقٌ لا تغيب عن المدرك الحصيف، إلاَّ أنَّني أجد نفسي مضطرًا للتَّذكير بأهمِّها في زماننا - في تقديري الخاصِّ - حيث غابت القدوة إلاَّ مِن نفرٍ قليل قد هُضم حقُّه في زمن "ثورة الإعلام"، بحسن ديانة ونيَّة، أو خبث سريرةٍ وطويَّة.

ذلكم الحقُّ العظيم، هو الاعتزاز بالمنهج الحقِّ، والفخر بالانتساب إلى قافلة دُعاة الخلق، وما يستلزمه هذا الاعتزاز من " الصَّدْع بالحقِّ " بلا مُواربة، وبيان المحجَّة الواضحة للنَّاس، وترك السكوت عمَّا عمَّ وطمَّ من المنكرات، أو شاع وذاع من المخالفات.

فلقد أوشك بعضُ حملةِ علم الشريعة أنْ يكونوا كساسةٍ لا منهجَ لهم، يلقون خطبًا فارغة، أو محاضراتٍ باردة، لا لونَ ولا طعمَ ولا رائحةَ لها، في هذا الزَّمان الممتلئ بالفتن، المتلاطم الإحن.

يلقي الواحدُ منهم حديثًا في مَسجدٍ أو مُؤتمر، أو عبر صَحيفة أو قناة أو إذاعة، فلا يكاد يعرف معروفًا أو ينكر مُنكرًا، سوى تلك التي تلتقي فيها أمم الأرض من المشتركات الفكريَّة والقيميَّة - زعموا - حتى لكأنَّك تستمع لخطاب دبلوماسيٍّ، أو حديثٍ سياسي لقنصل "الواق واق في جزر الماو ماو!!".

إنَّ الله - تعالى - أرسل الرُّسل، وأنزل الكتب، وحفظ الشريعة، وأبقى للأنبياء في أمَّتِنا وُرَّاثًا يَحملون العلم، ويُنيرون الدُّجى، ويوضِّحون معالِمَ الحق، ويزيلون عن الطريق بنيَّاتِها، فلا يسوغ لأولئك التضعضع لأهلِ الباطل، والاستضعاف لأهل الدُّنيا، فإنَّ أهل العلم وطلاَّبه هم أعرف الناس بزوالها، وأصرف الخلق للطمع عمَّا فيها من الزَّخارف والشخوص.

يقول المناوي - رحمه الله - حول هذا المعنى (فيض القدير، 290/4): "فعلى العالم تناول ما يَحتاجه من الدُّنيا على الوجه المعتدل من القناعة لا الطَّمع، وأقل درجاته أنْ يستقذر التعلُّق بالدُّنيا، ولا يبالي بفوتها؛ فإنَّه أعلم الناس بخستها، وسرعة زوالِها، وحقارتِها، وكثرة عنائها، وقلة غنائها ".

ما عنيتُ إيراده هُنا: هو تقرير ذا المعنى في نُفُوس طليعة الأمَّة، ورُوَّاد نهضتها، وجيل الشَّبَبَة الصاعدين فيها، فلقد تربَّى فئامٌ من الأجيال على مناهج الذلِّ والخنوع، الذي طعَّمه بعض الأشياخ بمنهج الإسلام، والحِكمة في الدَّعوة، والتزام اليسر والرِّفق في الخطاب، فلكأنَّهم دُعاة السلام الموهوم - تَبَعَ عُصبة الأمم المفترقة - فالالتزام بالعقيدة فكرًا ومنهجًا وسلوكًا يستوجب البَراءة والمفاصلة، وتَحقيق المعنى الخالص من الشَّوائب لعقيدة الولاء والبَراء، وتطبيقها العمليَّ، ولا يكون ذا قبل اعتزاز القلب وقناعته بما يَحمله من عقيدة، أو ينطوي عليه من أفكار.

إنَّني لا أدعو هنا إلى ثوريَّة، أو حزبية، أو تنظيم، إنَّما أدعو إلى امتثال الأمر الإلهي العظيم لنبينا الكريم: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94]، وإلى الأمر الآخر الذي كرَّره ربُّنا - تعالى - على نبيِّه في كتابه الكريم؛ تأكيدًا لعظم مكانته، وبيانًا لأهميَّة منزلته، وتقريرًا لعِظَم موقعه وحاجة الناس إليه، فقال - جلَّ من قائل -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِي نَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] [التحريم: 9].

قد يرى نفرٌ مِمَّن يقرأ ذي السطورَ أنَّ كاتبها قد أبعد النَّجعة، وذهب بعيدًا عن واقعنا المعاصر، وتناسى حوادثَ الأزمانِ الماضية والحاضرة القريبة، فيما واجهه علماؤنا المحتسبون، من أصحاب الصَّدع بالحق، وبيان الدِّين للناس، مراعين بذلك "منهج السلامة"، محتاطين بـ"زمام الأمن والدَّعة"، وكما قال بعضُ الأدعياء: "لِمَ التشغيب ونحن في خيرٍ من ديننا ودُنيانا؟!".

فأقول: إنَّ سلامةَ المنهج، وسبيل الاحتساب على الباطل المعاصر، واستبانة سبيل المجرمين، وفضح جهود التغريب، ومؤامرات التخريب التي تُراد لبلادنا - ليست دُروبًا مفروشةً بالورود، ولا محاطةً بالزهور، بل تكتنفها الأشواك، ويؤذي سالكَها نوائبُ الدهر، وصروف الزمان، وتسلُّط الطُّغاة، وجور السياسيِّ، وسلطته الرادعة.

ألم نتأمَّل قول البارئ - جلَّ في عُلاه - في مُحكم آي الكتاب: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17]؛ قال شيخُ المفسِّرين الطبري - رحمه الله - في (تفسيره 142/20): "واصبر على ما أصابك من الناس في ذات الله، إذا أنت أمرتهم بالمعروف، ونهيتهم عن المنكر، ولا يَصُدَّنَّك عن ذلك ما نالك منهم؛ {إنَّ ذلكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ}، يقول: إن ذلك مما أمر الله به من الأمور عزمًا منه".

إنَّ ما يَجدر التنبيه عليه قبل ختم المقال:
هو أنَّ الوصيَّة بهذا الخُلُق، وغرس هذا المعنى في النُّفوس، يتقرَّر ويتأكَّد عندما نرى تلكم الغضبات المُضَرِيَّة، والثورات العمريَّة من قبل دُعاة الفساد، ودُعاة التخريب والتغريب في البلد، عندما تُمَسُّ قِيَمُهم، أو تُهدر كرامتهم، أو يُدعَى لتأديبهم وزجرهم، وقطع شرور إفسادهم عن الناس.

وخروج الفقهاء الجدد، من حملة الدالات ومناصب الولايات الشرعية، الذين جاؤوا للناس بما لا يعرفون في دينهم، وخالفوا نَهج أشياخهم من بقايا السَّلف، وحملة الرِّسالة الناصعة، رحم الله الميت وأمتع بالحي.

وبين تشدُّق هؤلاء، واعتزاز أولئك واشمخرارهم، وخنوعِ دُعاتنا، ولبوسِهم رداءات الذُّلِّ والتضَعْضُع، يا مَن تَرى، أين سيكون مصير قضايا الأمَّة؟!
وما الذي نحنُ مقبلون عليه؟!

أفيقوا يا بني قومي، فالمكيدة خطيرة، والأمانة عظيمة، والموقف صَعب.

والْمَوْعِدُ الله.
وهو المستعان على ما يصفون.
وإليه المشتكى والمآب.