النجم
الاحد 21 ربيع الأول 1431 الموافق 07 مارس 2010
د. أحمد بن صالح الزهراني


أبو عبد الله مالك ابن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي المدني، إمام دار الهجرة.
قال سفيان بن عيينة: «مالك عالم أهل الحجاز، وهو حجة زمانه».
وقد ورد عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قوله: «ليضربن الناس أكباد الإبل في طلب العلم، فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة».
قال الذهبي: «ولم يكن بالمدينة عالم من بعد التابعين يشبه مالكاً في العلم، والفقه، والجلالة، والحفظ، فقد كان بها بعد الصحابة مثل سعيد بن المسيب، والفقهاء السبعة، والقاسم، وسالم، وعكرمة، ونافع، وطبقتهم، ثم زيد بن أسلم، وابن شهاب، وأبي الزناد، ويحيى بن سعيد، وصفوان بن سليم، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وطبقتهم، فلما تفانوا، اشتهر ذكر مالك بها، وابن أبي ذئب، وعبد العزيز بن الماجشون، وسليمان بن بلال، وفليح بن سليمان، والدراوردي، وأقرانهم، فكان مالك هو المقدم فيهم على الإطلاق، والذي تضرب إليه آباط الإبل من الآفاق، رحمه الله تعالى» .
وفي ترجمته أنّه كان رجلاً مهيباً نبيلاً، ليس في مجلسه شيء من المراء، واللغط، ولا رفع صوت.
وكان مجلسه مجلس وقار وحلم.
وكان يقول: «والله ما دخلت على ملك من هؤلاء الملوك حتى أصل إليه، إلاّ نزع الله هيبته من صدري».
قال الشافعي: « إذا ذُكر العلماء فمالك النجم».
ولقد صدق الشافعي وبرّ .
ونجومية الإمام مالك تتجاوز كونه هادياً لعلوم الشريعة مثله مثل بقية العلماء، فكلهم نجوم بهذا المعنى، لكنّه نجم بمعنى الارتفاع والسموّ والشهرة والتميّز.. فقد كان رحمه الله نجماً بحق وحقيقة.
نجوميّة هذا الإمام الفذّ لم يسع إليها، ولم يبذل لها دينه، كما فعل بعض نجومنا هذه الأيّام..
ونجوميّة هذا الإمام ليس للخصوم وأعداء الشريعة يد فيها، كما يحدث مع نجومنا هذه الأيّام..
بل نجوميّة الإمام مالك جاءت على رغم أنوفهم جميعاً.. سواء من كان منهم خصماً له بسبب سلطانه، أو بسبب فكره وانحرافه العقدي..
حسناً لماذا نذكر اليوم مالكاً؟
نذكره اليوم لأنّي في الحقيقة أجد صعوبة في تقبل صورة العالم الذي يعيش دهره لا يُمتحن، وليس ذلك بلازم في واقع الأمر، لكنّ سنن الله تعالى جرت منذ الأزل أنّ أهل العلم الصادقين يُمتحنون خاصّة في علاقتهم بأهل السياسة.
فإذا كان الأئمة في العصور المتقدمة التي نعرف جميعا أنّها خير من عصورنا هذه والجهات السياسية أقرب للشريعة والدين كان الصدام بين الحاكم والعالم واقعاً بسبب حزم الأئمة في قول الحق.
أنا على يقين أنّك أخذت من النبذة اليسيرة التي قدمتها عن مالك صورة تفيض مهابة وجلالة ووقاراً وسكينة.
وأنا على يقين أنّ ذهنك يصعب عليه تصوّر أنّ هذا الإمام الفذّ الّذي لم يفتِ حتّى شهد له سبعون من علماء المدينة أنّه أهل لذلك يتعرّض لصورة مهينة ومريرة من التعذيب النفسي والبدني قد تكون فتنة لإمام مسجد أو داعية مغمور.
وسبب ما تعرض له الإمام مالك من الضرب هو أنّ الولاة كانوا يأخذون البيعة على الناس بتحليفهم بالطلاق، ومن أبى نُكّل به.
فلمّا سُئل مالك عن هذا قال: إنّ هذا الطلاق لا يقع ولو نكث الرجل بيعته؛ لأنّه طلاق بالإكراه، واستدل على هذا بأثر عن ابن عبّاس.
قال محمد بن جرير: كان مالك قد ضُرب بالسياط، حدثني العباس بن الوليد، حدثنا ابن ذكوان، عن مروان الطاطري، أن أبا جعفر المنصور نهى مالكاً عن الحديث: «ليس على مستكره طلاق» ثم دسّ إليه من يسأله، فحدّث به على رؤوس الناس، فضربه بالسياط.
وحدثنا العباس، حدثنا إبراهيم بن حماد، أنه كان ينظر إلى مالك إذا أقيم من مجلسه، حمل يده بالأخرى (يعني أنّها تعطّلت بسبب خلعها).
وقال ابن سعد: حدثنا الواقدي قال: لما دُعي مالك، وشوور، وسمع منه، وقبل قوله، حسد، وبغوه بكل شيء، فلما ولي جعفر بن سليمان المدينة، سعوا به إليه، وكثروا عليه عنده، وقالوا: لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء، وهو يأخذ بحديث رواه عن ثابت بن الأحنف في طلاق المكره: أنه لا يجوز عنده، قال: فغضب جعفر، فدعا بمالك، فاحتج عليه بما رفع إليه عنه، فأمر بتجريده، وضربه بالسياط، وجُبذت يده حتى انخلعت من كتفه، وارتكب منه أمر عظيم، فوالله ما زال مالك بعد في رفعة وعلو.
ساق الذهبي هذا في السير ثمّ علّق فقال: «هذا ثمرة المحنة المحمودة، أنها ترفع العبد عند المؤمنين، وبكل حال فهي بما كسبت أيدينا، ويعفو الله عن كثير، ومن يرد الله به خيرا يصب منه وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل قضاء المؤمن خير له» وقال الله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّ كُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ). [محمد:31]، وأنزل تعالى في وقعة أحد قوله: (َوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ). [آل عمران: 165].
وقال: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ). [الشورى:30].
فالمؤمن إذا امتحن صبر واتعظ، واستغفر ولم يتشاغل بذم من انتقم منه، فالله حكم مقسط، ثم يحمد الله على سلامة دينه، ويعلم أن عقوبة الدنيا أهون وخير له».
هكذا فُعل بالإمام مالك في القرن الثاني، فما بالنا في القرن الخامس عشر نرى غالب أهل العلم أكثر النّاس عافية – إلاّ من رحم الله -.
فإمّا أنّ الولاة أكثر ديناً وتقوى من ولاة تلك الأزمنة، وإمّا أنّ العلماء الصادقين أصبحوا أقلّ من العيوق الأحمر.
أمّا الاحتمال الأوّل فلا أشكّ في بطلانه، وأمّا الآخر فهو الّذي يدمي القلب، وهو الذي شكا منه عمر إلى الله: جلد الفاجر وعجز الثقة.
قلتُ: وقد سألت نفسي: لماذا يتجشّم الوالي ضرب مالك وإهانته، وهو قادر على أن يجيّش أعداداً من العلماء يخالفونه فيشهر أقوالهم على المنابر كما يفعلون هذه الأيّام؟
أم أنّ ولاة هذه الأيام أكثر مراعاة لحرية الرأي وحقوق العلماء؟
والجواب: أنّ هذا غير وارد في ذلك الزمان؛ لأنّ النّاس تعرف ممن تأخذ أقوالها، فالولاة على الرغم من جورهم السياسي كانوا قائمين على حراسة الشريعة؛ فلا يُسمح بتطفّل الحمقى والأنصاف على موائد الشريعة، لا كزماننا هذا الّذي ضُيّعت فيه الأمانة، وفُسح المجال لكلّ من هبّ ودبّ ودرج أن يقول ويفتي ويحل ويحرم، كما كان أهل العلم أنفسهم يقومون بهذا الواجب وبكل صرامة، فلا تُعطى التزكيات العلمية بالمجاملة والقرابات.
ونتيجة لذلك أصبح النّاس يعلمون تماماً ممّن يأخذون دينهم.
في السير عن ابن وهب أن مالكاً لما ضُرب حلق وحمل على بعير فقيل له: « نادِ على نفسك» قال فقال: « ألا من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي وأنا أقول: «طلاق المكره ليس بشيء». قال: فبلغ جعفر بن سليمان أنه ينادي على نفسه بذلك فقال: « أدرِكوه أنزِلوه».
أرأيت!
وشيء آخر أنّ الساحة العلمية بتكوينها العقدي والأصولي والديني كانت تقوم بعملية فرز تؤدي إلى إبراز الإمام القدوة الّذي يصبح كلامه سُنّة متّبعة لا تقليداً، وإنّما جزاء على حسن اتباعه للنّبيّ صلى الله عليه وسلّم وتأسّيه به، ولهذا كان يصعب على الوالي آنذاك أن يجد من أهل العلم من يعارض مالكاً، ولو فعل ووجد فإنّه يكتب نهايته، ويوقع صكّ انتحاره، ولهذا شعر الوالي أنّه بحاجة إلى قول مالك نفسه، فلا يبطل قول مالك إلاّ مالك، ولمّا عجز عن إقناعه لا بقول الباطل بل بالسكوت عن الحق فعل به ما فعل.
حسناً، فلماذا كان مالك النّجم؟
في الحقيقة هذا لم يكن خاصة خُصّ بها مالك، بل في كلّ عصر كان لله في أرضه نجوم يرجع إليهم النّاس في دينهم، ولن يخلو الزّمان من قائم لله بحجّة، ومن صادع لله بحق، ومن آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر، وإن كان في زماننا هذا أصبح عملة نادرة، لكنّ الله وبلطفه الخفيّ لا يزال يمتحن هذه الأمّة ببلايا ومحن تكدّر خاطر المؤمن، لكن ممّا يذهب عنه الحزن أن يبرز فيها صادقون من أهل العلم يقولون بالحق ولا يخافون لومة لائم، يبتليهم الله ويبتلي بهم، (لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا).[الأحزاب:8].