قال شيخ الإسلام: واعلم أن هذا الوجه مبني على أصلين:-
أحدهما: على أن نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإجلاله هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه كما عليه أهل الإيمان, وكما دل عليه القرآن؛ لا كما يقول من يعتقد من أهل الكلام ونحوهم: أن عبادته تكليف ومشقة. وخلاف مقصود القلب لمجرد الامتحان والاختبار؛ أو لأجل التعويض بالأجر كما يقول المعتزلة وغيرهم؛ فإنه وإن كان في الأعمال الصالحة ما هو على خلاف هوى النفس –والله سبحانه- يأجر العبد على الأعمال المأمور بها مع المشقة, كما قال تعالى: (ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأٌ ولا نصبٌ) [التوبة: 120], وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة: [أجرك على قدر نصبك] البخاري, فليس ذلك هو المقصود الأول بالأمر الشرعي, وإنما وقع ضمنا وتبعا لأسباب ليس هذا موضعها, وهذا يفسر في موضعه.
ولهذا لم يجئ في الكتاب والسنة وكلام السلف إطلاق القول على الإيمان والعمل الصالح أنه تكليفٌ كما يطلق ذلك كثير من المتكلمة والمتفقهة؛ وإنما جاء ذكر التكليف في موضع النفي؛ كقوله: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) [البقرة: 286], (لا تُكلَف إلا نفسك) [النساء: 84], (لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها) [الطلاق:7], أي وإن وقع في الأمر تكليفٌ؛ فلا يكلف إلا قدر الوسع, لا أنه يسمي جميع الشريعة تكليفا, مع أن غالبها قرة العيون وسرور القلب؛ ولذات الأرواح وكمال النعيم, وذلك لإرادة وجه الله والإنابة إليه وذكره وتوجه الوجه إليه, فهو الإله الحق الذي تطمئن إليه القلوب, ولا يقوم غيره مقامه في ذلك أبدا. قال الله تعالى: (فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا) [مريم:65], فهذا أصل.
الأصل الثاني: النعيم في الدار الآخرة أيضا مثل النظر إليه لا كما يزعم طائفة من أهل الكلام ونحوهم أنه لا نعيم ولا لذة إلا بالمخلوق: من المأكول والمشروب والمنكوح ونحو ذلك, بل اللذة والنعيم التام في حظهم من الخالق سبحانه وتعالى, كما في الدعاء المأثور: [اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم, والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة] رواه النسائي.