الحمدلله وحده، والصَّلاة والسَّلام على من لا نبيَّ بعده، وعلى صحبه وآله، ومن تبعه... أمَّا بعد
فقد اشتهر عند أهل السُّنَّة والجماعة أتباع السَّلف الصَّالح -رضي الله عنهم- نسبة من خالف نهجهم، وأعرض عن سلوك سبيلهم في أبواب من الاعتقاد، كالأسماء والصفات، والقدر، وأفعال العباد، والإيمان، وغيرها =إلى (الجهميَّة).
وقد حفظت كتب التاريخ أنَّ هذه النِّسبة كانت لجهم بن صفوان، أبو محرز الرَّاسبي مولاهم، الخزري، وقيل: التِّرمذي، وقيل: السَّمرقندي، المقتول سنة 128هـ.
وقد كثرت في كتب التَّراجم والسِّيَر نسبة بعض من وقع في زلل هذا الرَّجل بأنَّه (جهميٌّ) ومن (الجهميَّة)، أو وصفه بأنَّ (فيه تجهُّمٌ)، أو بأنَّه (جهميٌّ في كذا وكذا).
وكما جعل الله لكلِّ باطلٍ إمامًا يهديهم إلى النَّار، فجعل لهؤلاء النفَّاة جهمًا يسلك بهم طرق الضَّلال، ويهوي بهم درك الهلاك، كما قال سبحانه: ((وَجَعَلْنَاهُم ْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ)).
وعلى ما سيأتي بيانه فينبغي لطالب العلم أن يعلم أنَّ ثَمَّ فرقًا في تراجم الرجال بين إطلاق القول بأنَّ (فلانًا جهميٌّ) أي: موصوف بمحْض الجهميَّة أوصِرْفه.
وبين القول بأنَّ (فلانًا فيه تجهُّمٌ)، أي: في أبواب.
أوالقول بأنَّ (فلانًا جهميٌّ في كذا وكذا) يعني: عنده قضايا وافق فيها الجهميَّة.
إذ لا شكَّ أنَّ كلَّ من وافق جهمًا في قضيَّةٍ ما فإنَّه لا يخلو؛ إمَّا أن يكون عنه قد أخذ إعجابًا بما ابتدع، وانتسابًا، وحبًّا، وانتصارًا.
أوموافقةً عن غفلةٍ، ومصادفةً عن قدَر.
وحين يُقال: (فلانٌ جهميٌّ) أي: عن أصوله أخذ، أوله وافق، قلَّ ما وافقه فيه أوكثر.
فهو إمام أهل التَّعطيل، وقائد أهل البِدع، والمؤسِّس الأوَّل، والمنظِّر لهم، ومن وافقه في شيءٍ ممَّا أحدثه فهو ذيلٌ من ذيوله، وتبعٌ من أتباعه.
وهذا ليس خاصًّا بالجهم وأتباعه وموافقيه، بل في كلِّ ضلالةٍ خلقها الله في هذه الخليقة، والشرُّ ليس إليه تعالى.
كما بيَّن ذلك سبحانه وتعالى في مواضع كثيرةٍ من كتابه؛ فمن ذلك قوله: ((وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)).
وقال عزوجلَّ: ((وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)).
وقال جلَّ شأنه: ((وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ)).
وقد تقدَّم تفصيل القول في هذا الباب في موضوع (لا جديد في شبهات أهل العصر):
http://majles.alukah.net/showthread....t=%CC%CF%ED%CF
والمقصود ههنا أنَّه يتبيَّن صحَّة هذه النِّسبة -بإطلاقٍ أوتقييدٍ- بمعرفة أنَّه ما من مذهب من مذاهب أهل البدع التالية للجهم إلاَّ وقد استلَّت من قواعده أموراً، ومن أقواله قضايا، فمقلٌّ ومستكثر؛ كما قال ابن القيِّم في نونيَّته الرَّائعة (الكافية الشَّافيَّة في الانتصار للفرقة النَّاجية) في كلامه عن جهم وأتباعه، من جمعهم لـ( جيمات البدعة والضلالة ) -الجبر والتجهم والإرجاء- =قال:
تالله ما استجْمَعْنَ عند مُعَطِّلٍ جيماتها ولديه من إيمانوقد قال قبل ذلك في الكلام عن أقحاح الجهميَّة وذكورهم في نفس المنظومة:
والجَهْمُ أصَّلَها جميعاً فاغتدت مقسومةً في النَّاس بالميزان
والوارثون له على التَّحقِيق هم أصحابها لا شيعة الرَّحمن
لكن تقسَّمت الطَّوائف قوله ذو السَّهْم والسَّهْمين والسُهْمَان
هذي مقالة كل جهمي وهم فيها الشيوخ معلمو الصبيان
لكن أهل الاعتزال قديمهم لم يذهبوا ذا المذهب الشيطاني
وهم الألى اعتزلوا عن الحسن الرضا الـ البصري ذاك العالم الرباني
وكذاك أتباع على منهاجهم من قبل جهم صاحب الحدثان
لكنَّما متأخِّرُوهم بعد ذ لـك وافقوا جهمًا على الكفران
فهم بذا جهميَّةٌ أهل اعتزا لٍ ثوبهُمُ أضحى له عَلَمان
ولقد تقلَّد كفرَهم خمسون في عشرٍ من العلماء في البلدان
واللَّالكائي الإمام حكاه عنـ ـهم بل حكاه قبله الطبراني
فصلٌ:
ولقد كان أهل العلم -ولا يزالون- يستعملون هذه الألفاظ بإطلاق أوتفصيل، بما تقدَّم بيانه من التفصيل =في الكلام عن مذاهب النَّاس واعتقادهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله في مجموع الفتاوى (2/230): "والبدع دهليز الكفر والنفاق، كما أنَّ التَّشيع دهليز الرَّفض، والرَّفض دهليز القَرْمطة والتَّعطيل.
فالكلام الذي فيه تجهُّمٌ هو دهليز التَّجَهُّم، والتجهُّم دهليز الزَّندقة والتَّعطيل".
وقال رحمه الله أيضًا في مجموع الفتاوى (2/437): "وخالف في حقيقته قومٌ من الملحدة المنافقين، المضارعين للصَّابئين، ومن وافقهم، والمضارعين لليهود والنَّصارى، من الجهميَّة أو من فيه تجهُّمٌ وإنْ كان الغالب عليه السُّنَّة...".
وقال رحمه الله أيضًا في مجموع الفتاوى(6/52): "وأمَّا في الصِّفات القرآنيَّة فلهم قولان؛ فالأشعريُّ والباقلانيُّ وقدماؤهم يثبتونها، وبعضهم يقرُّ ببعضها وفيهم تجهُّمٌ من جهةٍ أخرى...".
وقال رحمه الله في درء تعارض العقل والنَّقل (7/33-34): "... من يسلك في العقليات مسلك الاجتهاد، ويغلط فيها كما غلط غيره، فيشارك الجهميَّة في بعض أصولهم الفاسدة، مع أنه لا يكون له من الخبرة بكلام السَّلف والأئمَّة في هذا الباب ما كان لأئمة السُّنة، وإن كان يعرف متون الصحيحين وغيرهما...".
فصلٌ:
وأمَّا وجهُ ما وقع من إطلاق القول عن بعض النَّاس بأنْ يُقال (فلانٌ جهميٌّ) دون تقييدٍ أوتفصيلٍ وإن لم يكن موافقهم في كلِّ أصولهم كما تقدَّم في البيان =فهذا إنَّما وقع من السَّلف رحمهم الله على سبيل التَّنفير ممَّن أطلقوه عليه.
لذا.. فما تجده من إطلاق الأئمَّة من مثل هذا فليس خطأً بل تنفيرًا وتحذيرًا.
والتَّمثيل بهذا أمثلته كثيرةٌ لا يحصرها موضوع، فما وقع في كلام الإمام أحمد وغيره رحمهم الله على بعض من وافق الجهميَّة في شيءٍ بأنَّه (جهميٌّ) هو من هذا الباب، أي: أنَّه وافقهم فيه.
وإنَّما أرد أحمد وغيره تنفير النَّاس من قوله، ومثال هذا مقالته المشهورة: "من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهميٌّ"، أي: متابعٌ لهم في ذي المسألة.
مع ما في هذه العبارة (أي: لفظي بالقرآن مخلوق) من احتمالٍ وتفصيلٍ، بعضه حقٌّ وبعضه باطلٌ.
ولكن كما قال ابن مالك: (..................... .... وليُقَسْ ما لم يُقَلْ )
فصلٌ:
فإنْ قيل: فما الفرق بين كون الرجل جهميًّا محض التجهُّم وخالصه، أو أن يكون موافقهم في الشيء بعد الشيء.
والجواب: أنَّ ثَمَّ فرقًا بين مَن كان من الجهميَّة الذُّكور الخُلَّص، ومن لم يكن كذلك ممَّن وافقهم أوأخذ عنهم، شاء أم أبي، عرف أوغفل.
إذ من كان من الأوائل فلا شَكَّ في كفره، وخروجه عن ملَّة الإسلام.
كما تقدَّم في أبيات ابن القيِّم السَّالفة الذِّكر عن الجهميَّة:
ولقد تقلَّد كفرَهم خمسون في عشرٍ من العلماء في البلدانوكلُّ النُّصوص التي جاءت عن السَّلف في تكفير الجهميَّة وإخراجهم من ملَّة الإسلام، وأنَّهم ليسوا من الثنتين والسَّبعين فرقة، وأنَّهم شرٌّ من اليهود والنَّصارى، وأنَّهم لا يناكحون ولا يرثون... =فهي متنزِّلةٌ على هذا الباب.
واللَّالكائي الإمام حكاه عنـ ـهم بل حكاه قبله الطبراني
وبالله تعالى التوفيق، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد وآله وصحبه أجمعين.