قال ابن قتيبة عبد الله بن مسلم الدينوري المتوفى سنة 276هـ ـ رحمه الله ـ في " إصلاح غلط أبي عبيد في غريب الحديث " ص (46) :
" وقد كنا زماناً نعتذر من الجهل ، فقد صرنا الآن نحتاج إلى الاعتذار من العلم ، وكنا نُؤمل شكر الناس بالتنبيه والدلالة ، فصرنا نرضى بالسلامة . وليس هذا بعجيب مع انقلاب الأحوال ، ولا يُنكر مع تغير الزمان . وفي الله خلف وهو المستعان " .
نحن بحاجة إلى تعلم كيف نقبل النقد وتصحيح الغلط .. لا تظن أنك إذا كتبت ، أو قلت شيئاً أنك مصيب في ذلك كله ، هذا نادر في كلام البشر إلا من سدده الله ووفقه ، وكما قال الأصمعي : " تكلم كلام النمل وأصب " .
" ولا نعلم أن الله ـ عز وجل ـ أعطى أحداً من البشر موثقاً من الغلط ، وأماناً من الخطأ ، فيستكف له منها . بل وصل عباده بالعجز ، وقرنهم بالحاجة ، ووصفهم بالضعف و العجلة ، فقال : ( خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ ) [الأنبياء 37] ، و : ( وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً ) [النساء 28] ، و : ( وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) [يوسف 76] .
ولا نعلمه خصَّ بالعلم قوماً دون قوم ، ولا وقفه على زمن دون زمن ، بل جعله مشتركاً مقسوماً بين عباده ، يفتح للآخر منه ما أغلقه عن الأول ، وينبه المقل فيه على ما أغفل عنه المكثر ، ويحييه بمتأخر يتعقب قول المتقدم ، وتال يعتبر على ماض ، وأوجب على كل من علم شيئاً من الحق أن يظهره وينشره . وجعل ذلك زكاة العلم ، كما جعل الصدقة زكاة المال " . ( إصلاح غلط أبي عبيد ـ ص 45 ، 46) .
وأنا أكتب وأنقل هذا أُبين أنه لا داعي للغضب ، وانتفاخ الأوداج عندما نرى أحداً رد قولاً لنا ، أو علق عليه ، أو صحح جزءاً منه ، أو انتقد خطأً فيه ، أو تعميماً فيه لابد من قصره ، أو غير ذلك . فالعلم يغذي بعضه بعضاً ، ويكمل بعضه بعضاً ، ما كان النقد والتصحيح بأدب أهل العلم وأخلاقه ، و دليله وحجته وبرهانه ، فهذا أبلغ في النصرة ، وأوجب للعذر والقبول ، وأشفى للقلوب ، ومن لا يقبل الحق بدليله فلا خير فيه .
وليس من العلم في شيء أن تقبل القول أو ترده ، أو تنتقده أو توافقه ؛ لأن فلاناً من الناس قال به ، دون النظر إلى دليله وحجته ، ومنطوقه ومعقوله ، وقربه وبعده من ذلك ، فهذا هو الأمر العظيم . ولا خير فيه ، فالحق لا يقاس بقائله ، بل يقاس بدليله وبرهانه . فهولاء صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ، ورضي عنهم ـ وهم قادة الأنام بعد رسول الله ، ومعادن العلم وأهله ، وينابيع الحكمة ، وأولى الناس بكل فضيلة ، وأقربهم من التوفيق والعصمة ، والخير كل الخير فيهم ، وليس أحد منهم قال برأيه في الفقه إلا وفي قوله ما يأخذ به قوم ، وفيه ما يرغب عنه آخرون ، فهل نحن بأفضل منهم ؟
وقس على ذلك العلماء الذين ساروا على نهجهم ، واتبعوا طريقتهم .
وفي ما ذكر الفائدة والمقصود ، والله ولي التوفيق .