المسائل التي نقدها ابن رشد في مذهب الأشاعرة
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل الله فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
فهذا جمع للمسائل التي نقد فيها ابن رشد الأشاعرة في مذهبهم , وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وعلم الإنسان باختلاف هؤلاء , ورد بعضهم على بعض , وإن لم يعرف بعضهم فساد مقالة بعض ؛ هو من أنفع الأمور ؛ فإنه ما منهم إلا من قد فضل مقالته طوائف ؛ فإذا عرف رد الطائفة الأخرى على هذه المقالة عرف فسادها ؛ فكان في ذلك نهى عما فيها من المنكر والباطل , وكذلك إذا عرف رد هؤلاء على أولئك فإنه أيضا يعرف ما عند أولئك من الباطل ؛ فيتقي الباطل الذي معهم ثم من بين الله له الذي جاء به الرسول إما بأن يكون قولا ثالثا خارجا عن القولين , وإما بأن يكون بعض قول هؤلاء وبعض قول هؤلاء .
منهاج السنة النبوية (5|148)
وقد جمعتها من كتبه التالية :
تهافت التهافت , الكشف عن مناهج الأدلة , فصل المقال , ضميمة في العلم الإلهي .
وقد وضحت بعض المسائل التي ذكرها ابن رشد في رده على الأشاعرة , وبينت فيها قول أهل السنة , وسكوتي عن كثير من كلامه لا يستلزم الإقرار على كل جزئية يذكرها , والله هو الموفق .
المسألة الأولى : ذهب الأشاعرة إلى أن الفعل يتراخى عن الفاعل , والسبب في ذلك خوفا من إثبات حوادث لا أول لها , وأنه لو قارن الفعل للفاعل للزم من ذلك عندهم مقارنة المفعول للفاعل والذي ترتب على ذلك القول بقدم العالم .
مع بيان أن الأشاعرة يقولون الفعل هو المفعول
قال شيخ الإسلام : و الجمهور المثبتون للصفات هم في الفعل على قولين
منهم من يقول لا يقوم به فعل و إنما الفعل هو المفعول و هذا قول طائفة منهم الأشعرى و من وافقه من أصحابه .
مجموع الفتاوى (16|374)
قال شيخ الإسلام : القول الصواب الموافق للميزان والكتاب لا يعرفونه كما في مسألة حدوث العالم ؛ فإنهم لا يذكرون إلا قولين قول من يقول بقدم الأفلاك , وإن كانت صادرة عن علة توجبها ؛ فالمعلول مقارن أزلا, وقول من يقول بل تراخى المفعول عن المؤثر التام وأنه يمتنع أنه لم يزل متكلما إذا شاء ويفعل ما يشاء .
والقول الصواب الذي هو قول السلف والأئمة لا يعرفونه ؛ وهو القول بأن الأثر – أي المفعول - يتعقب التأثير التام – أي الفعل مع الإرادة والقدرة - فهو سبحانه إذا كون شيئا كان عقب تكوينه له كما قال تعالى { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } [يس : 82 ] وهذا هو المعقول كما يكون الطلاق والعتاق عقب التطليق والإعتاق والانكسار والانقطاع عقب الكسر والقطع فهو سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن , ويذكرون في كونه موجبا بذاته وفاعلا بمشيئته وقدرته قولين فاسدين:
أحدهما : قول من يقول المتفلسفة وأن معلوله يجب أن يكون مقارنا له في الزمان أزلا وأبدا .
وهذا القول من أفسد أقوال بني آدم فإنه يستلزم أن لا يحدث في العالم حادث ؛ فإنه إذا كانت علة تامة أزلية ومعلولها معها والعالم كله معلوله إما بواسطة وإما بغير واسط لزم أن لا يكون في العالم شيء إلا أزليا فلا يكون في العالم شيء من الحوادث وهو خلاف المشاهدة .
ثم إنهم لما أثبتوا الواجب بالممكن إنما استدلوا على الممكن بالحادث الذي يفتقر إلى محدث ؛ فإن لم يكن في العالم حادث بطل الإمكان الذي به أثبتوا الواجب , ولزم إما أن لا يكون في العالم واجب الوجود ولا ممكن الوجود , وهو إخلاء للوجود عن النقيضين , وإما أن يكون جميعه واجب الوجود فيكون الحادث الذي كان بعد أن لم يكن واجب الوجود .
وأيضا فإذا كان المعلول لا يكون إلا مع علته التامة لزم أن لا يحدث شيء من الحوادث إلا مع تمام علته ولم يحدث حين حدوثه ما يوجب حدوث علة تامة له , وإن قدر حدوث ذلك لزم حدوث تمام علل ومعلولات في آن واحد , وهو تسلسل في العلل , وذلك معلوم الفساد بصريح العقل واتفاق العقلاء بخلاف تسلسل الحوادث المتعاقبة وهو أنه لا يكون حادث إلا بعد حادث فهذا فيه نزاع مشهور ... .
والثاني : قول من يقول : أنه فاعل مختار لكنه يفعل بوصف الجواز فيرجح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح إما بمجرد كونه قادرا أو لمجرد كونه قادرا عالما أو لمجرد إرادته القديمة التي ترجج مثلا على مثل بلا مرجح ويقولون : إن الحوادث تحدث بعد أن لم تكن حادثة من غير سبب يوجب الحدوث فيقولون بتراخي الأثر عن المؤثر التام .
وهذا وإن كان خيرا من الذي قبله , ولهذا ذهب إليه طوائف من أهل الكلام ففساده أيضا بين ؛ فإنه إذا قيل : إن المؤثر التام حصل مع تراخي الأثر عنه وعند حصول الأثر لم يحصل ما يوجب الحصول كان حاله بعد حصول الأثر وقبله حالا واحدة متشابهة ثم اختص أحد الحالين بالأثر من غير ترجيح مرجح وحدوث الحادث بلا سبب حادث وهذا معلوم الفساد بصريح العقل .
والقول الثالث : قول أئمة السنة : إنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ؛ فما شاء الله وجب بمشيئته وقدرته , وما لم يشأه امتنع لعدم مشيئته له فهو موجب بمشيئته وقدرته لا بذات خالية عن الصفات وهو موجب له إذا شاءه لا موجب له في الأزل كما قال { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } يس 82 : وهذا الإيجاب مستلزم لمشيئته وقدرته لا مناف لذلك بل هو سبحانه يخلق ما يشاء ويختار فهو فاعل لما يشاؤه إذا شاء وهو موجب له بمشيئته وقدرته والله تعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
درء التعارض (2|324)
قال ابن رشد : وأما كونه أزلياً فإنه يجب أن يكون فعله المتعلق بالمفعولات أزلياً ، فتكون المفعولات أزلية, والحادث يجب أن يكون وجوده متعلقاً بفعل حادث , اللهم إلا لو سلموا أنه يوجد فعل حادث عن فاعل قديم ، فإن المفعول لا بد أن يتعلق به فعل الفاعل ، وهم لا يسلمون ذلك . فإن من أصولهم أن المقارِن للحوادث حادثٌ .
الكشف عن مناهج الأدلة (30)
وقال ابن رشد في رده على الغزالي : هذا قول سفسطائي ، وذلك أنه لما لم يمكنه أن يقول بجواز تراخي فعل المفعول عن فعل الفاعل له وعزمه على الفعل ، إذا كان فاعلاً مختاراً ، قال بجواز تراخيه عن إرادة الفاعل, وتراخي المفعول عن إرادة الفاعل جائز ، وأما تراخيه عن فعل الفاعل له فغير جائز . وكذلك تراخي الفعل عن العزم على الفعل في الفاعل المريد ، فالشك باقٍ بعينه .. .
تهافت التهافت (47-49)
وقال ابن رشد : فإذا قلنا كل ما مضى فقد دخل في الوجود يفهم منه معنيان : أحداهما : أن كل ما دخل في الزمان الماضي فقد دخل في الوجود ، وهو صحيح . وأما ما مضى مقارناً بالوجود الذي لم يزل ، أي لا ينفك عنه فليس يصح أن نقول قد دخل في الوجود ، لأن قولنا فيه قد دخل، ضد لقولنا إنه مقارن للوجود الأزلي ، ولا فرق في هذا بين الفعل والوجود أعني من سلم إمكان وجود موجود لم يزل فيما مضى فقد ينبغي أن يسلم أن ههنا أفعالاً لم تزل قبل فيما مضى ، وإنه ليس يلزم أن تكون أفعاله ولا بد قد دخلت في الوجود . كما ليس يلزم في استمرار ذاته فيما مضى أن يكون قد دخل في الوجود . وهذا كله بَيِّن كما ترى . وبهذا الموجود الأول يمكن أن توجد أفعال لم تزل ولا تزال . ولو امتنع ذلك في الفعل لامتنع في الوجود ؛ إذ كل موجود ففعله مقارن له في الوجود ؛ فهؤلاء القوم جعلوا امتناع الفعل عليه أزلياً ، ووجوده أزلياً ، وذلك غاية الخطأ . لكن اطلاق اسم الحدوث على العالم كما أطلقه الشرع أخص به من إطلاق الأشعرية ، لأن الفعل بما هو فعل فهو محدث ، وإنما يتصور القدم فيه لأن هذا الإحداث والفعل المحدث ليس له أول ولا آخر .
تهافت التهافت (111)
فبين مسألتين :
أ- أن الفعل لا يتأخر عن الفاعل له , وأنه يلزم من وجود الأول الذي ليس قبله شيء أن يقارنه فعله , ولا يصح القول بتراخي الفعل عن الفاعل بل لا يتصور ذلك في حق الرب سبحانه .
ب- قوله: أنه لا يتأخر كذلك المفعول عن فاعله لا يسلم له كما تقدم في كلام شيخ الإسلام , لأن ذلك يستلزم قدم العالم وأنه موجب بالذات , وهذا مناف أنه الأول الذي ليس قبله شيء , وقول أهل السنة في حوادث لا أول لها , يختلف عن قول الفلاسفة الذي قالوا بالموجب بالذات , وذلك أن أهل السنة قالوا بالجواز والفلاسفة كابن سينا قالوا بالوجوب أو الموجب بالذات .
قال شيخ الإسلام : والمقصود أن العالم لو كان قديما للزم أن يكون فاعله مستلزما له لا يجوز أن يكون فاعله ممن يتراخى عنه مفعوله ؛ فإن الفاعل لا يخلو من ثلاثة أقسام إما أن يجب اقتران مفعوله به , وإما أن يجب تأخر مفعوله عنه , وإما أن يجوز فيه الأمران ؛ فلو كان العالم قديما لم يجز أن يكون فاعله ممن يجب أن يتراخى عنه مفعوله لأن ذلك جمع بين النقيضين كيف يكون مفعوله قديما أزليا ويكون متأخرا عنه حادثا بعد أن لم يكن فتعين أن يكون فاعله إما أن يجب اقتران مفعوله به وإما أن يجوز فيه الأمران والثاني باطل أيضا فإنه إذا جاز أن يقترن به المفعول وجاز ألا يقترن كان وجود المفعول ممكنا والممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح والقول في هذا المرجح كالقول في غيره إن كان فاعله مستلزما له كان مقارنا له فيلزم مقارنة الأول له فإن لم تجب مقارنته له كان ممكنا مفتقرا إلى مرجح آخر وهلم جرا فلا بد أن ينتهي الأمر إلى مرجح تام مستلزم لمفعوله فتبين أن العالم لو كان قديما للزم أن يكون مبدعه مرجحا تاما مستلزما لمفعوله سواء عبر عنه بالعلة التامة أو المؤثر التام أو المرجح التام .
الصفدية (1|75)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله : وبهذا التحرير يزول الإشكال في هذه المسألة ؛ فإن الموجب بذاته إذا كان أزلياً يقارنه موجبه ؛ فلو كان الرب تعالى موجباً بذاته للعالم في الأزل لكان كل ما في العالم مقارناً له في الأزل , وذلك ممتنع بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فكل ما شاء الله وجوده من العالم ؛ فإنه يجب وجوده بقدرته ومشيئته , وما لم يشأ يمتنع وجوده إذ لا يكون شيء إلا بقدرته ومشيئته وهذا يقتضي وجوب وجود ما شاء تعالى وجوده .
ولفظ الموجب بالذات فيه إجمال ؛ فإن أريد به أنه يوجب ما يحدثه بمشيئته وقدرته فلا منافاة بين كونه فاعلا بالقدرة والاختيار ؛ وبين كونه موجباً بالذات بهذا التفسير , وإن أريد بالموجب بالذات أنه يوجب شيئاً من الأشياء بذات مجردة عن القدرة والاختيار فهذا باطل ممتنع , وإن أريد أن علة تامة أزلية تستلزم معلولها الأزلى بحيث يكون من العالم ما هو قديم بقدمه لازم لذاته أزلاً وأبداً - الفلك أو غيره - فهذا أيضاً باطل .
فالموجب بالذات إذا فسر بما يقتضى قدم شيء من العالم مع الله أو فسر بما يقتضي سلب صفات الكمال عن الله فهو باطل , وإن فسر بما يقتضى أنه ما شاء كان , وما لم يشأ لم يكن فهو حق ؛ فإن ما شاء وجوده فقد وجب وجوده بقدرته ومشيئته لكن لا يقتضي هذا أنه شاء شيئا من المخلوقات بعينه في الأزل بل مشيئته لشيء معين في الأزل ممتنع لوجوه متعددة .
ولهذا كان عامة العقلاء على أن الأزلي لا يكون مراداً مقدوراً , ولا أعلم نزاعاً بين النظار أن ما كان من صفات الرب أزلياً لازماً لذاته لا يتأخر منه شيء لا يجوز أن يكون مراداً مقدوراً , وأن ما كان مراداً مقدوراً لا يكون إلا حادثاً شيئا بعد شيء , وإن كان نوعه لم يزل موجوداً أو كان نوعه كله حادثا بعد أن لم يكن .
ولهذا كان الذين اعتقدوا أن القرآن قديم لازم لذات الله متفقين على أنه لم يتكلم بمشيئته وقدرته , وإنما يكون بمشيئته وقدرته خلق إدراك في العبد لذلك المعنى القديم , والذين قالوا كلامه قديم وأرادوا أنه قديم العين متفقون على أنه لم يتكلم بمشيئته وقدرته سواء قالوا هو معنى واحد قائم بالذات أو قالوا هو حروف أو حروف وأصوات قديمة أزلية الأعيان .
بخلاف أئمة السلف الذين قالوا إنه يتكلم بمشيئته وقدرته , وإنه لم يزل متكلماً إذا شاء وكيف شاء ؛ فإن هؤلاء يقولون الكلام قديم النوع , وإن كلمات الله لا نهاية لها بل لم يزل متكلماً بمشيئته وقدرته , ولم يزل يتكلم كيف شاء إذا شاء ونحو ذلك من العبارات .
منهاج السنة النبوية " (1|166)
وأقوى دليل في الرد على من يقول بقدم العالم أن العالم لو كان قديما وكان علة تامة للمعلول لم يصدر شيء عن الخالق .
قال شيخ الإسلام : فيقال إذا كان الصانع قديما موجبا بالذات وعلته تامة أزلية لزم ألا يتأخر عنه شيء من موجبه ومعلوله كما ذكروا ؛ لأن المتأخر إن كان قد وجدت علته التامة في الأزل لزم أن يكون أزليا لا يتأخر , وإن لم يوجد فقد وجدت علته التامة بعد أن لم تكن سواء كان الحادث شرطا من شروط تمام العلة أو غير ذلك ثم القول في علة تلك العلة كالقول في العلة التي هي معلول هذه ؛ فيلزم ألا يكون لشيء من الحوادث علة تامة في الأزل وهذا لازم لقولهم لا محيد عنه ؛ فإن العلة التامة تستلزم معلولها ؛ فالحادث لا تكون علته تامة في الأزل فيلزم على ذلك ألا يكون شيء من الحوادث حادثا عن العلة التامة التي هي واجب الوجود , وحينئذ فأما أن تكون الحوادث حادثة بنفسها وهذا معلوم الفساد بالضرورة وهم يسلمون فساده , وإما أن تكون حادثة عن فاعل آخر غير الواجب الموجود بنفسه فله فاعل ثم ذلك الفاعل إن لم يكن واجب الوجود بنفسه فله فاعل والقول في حدوث الحوادث عنه كالقول في الأول , وإن كان واجب الوجود بنفسه كان القول فيه كالقول في ذلك الواجب إن كان علة تامة لزم ألا يحدث عنه حادث وإن لم يكن علة تامة بطل قولهم بالموجب بالذات فتبين فساد قولهم على كل تقدير .
الصفدية (1|18)
المسألة الثانية : الرد عليهم في مسألة أن الله اتصف بالصفة بعد أن لم يكن متصفا بها
وهي مسألة الترجيح بلا مرجح
قال ابن رشد : وأيضاً إن كان الفاعل حيناً يفعلُ وحيناً لا يفعل ، وجب أن تكون هنالك علة صيَّرته بإحدى الحالتين أولى منه بالأخرى ، فيُسأل أيضاً في تلك العلة مثل هذا السؤال ، وفي علة العلة ، فيمر الأمر إلى غير نهاية .
الكشف عن مناهج الأدلة (30)
قلت : وهذه المسألة تسمى عند العلماء بمسألة الترجيح بلا مرجح .
وذلك أن فعل الله راجع إلى مشيئته الممكنة ؛ إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل , و طرفا الممكن هما الوجود أو العدم ؛ وترجيح فعله لشيء في زمن دون زمن لا بد أن يستند إلى مرجح , أي إلى سبب ؛ وما من زمن يتصور فيه الفعل أو الخلق , وإلا يتصور قبله أو بعده , فدل على لزومية إثبات فعل الله منذ الأزل .
قال شيخ الإسلام : وهذا قول أكثر المعتزلة والأشعرية وغيرهم ؛ يقرون بالصانع المحدث من غير تجدد سبب حادث ولهذا قامت عليهم الشناعات في هذا الموضع ، وقال لهم الناس : هذا ينقض الأصل الذي أثبتم به الصانع ؛ وهو أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح ؛ فإذا كانت الأوقات متماثلة ، والفاعل على حال واحدة لم يتجدد فيه شيء أزلاً وأبداً ثم اختص أحد الأوقات بالحدوث فيه ، كان ذلك ترجيحاً بلا مرجح .
درء التعارض (4|153)
وقال شيخ الإسلام : أما ما يذكره كثير من أهل الكلام عن أهل الملل المسلمين واليهود والنصارى أن الله لم يزل معطلا لا يتكلم ولا يفعل شيئا ثم حدث ما حدث من كلام ومفعولات بغير سبب حادث ؛ فهذا قول لم ينطق به شيء من كتب الله لا القرآن ولا التوراة ولا الإنجيل ولا الزبور ولا نقل هذا عن أحد من أنبياء الله , ولا قاله أحد من الصحابة أصحاب نبينا صلى الله عليه و سلم ولا التابعين لهم بإحسان ولكن الذي نطقت به الكتب والرسل أن الله خالق كل شيء ؛ فما سوى الله من الأفلاك والملائكة وغير ذلك مخلوق ومحدث كائن بعد أن لم يكن مسبوق بعدم نفسه وليس مع الله شيء قديم بقدمه في العالم لا أفلاك ولا ملائكة .
الصفدية (1|14)
المسألة الثالثة :قياس تأخر الفعل عن الفاعل بالإرادة والرد عليهم
وذلك أن الأشاعرة ردوا على شبهة عدم تصور تأخر الفعل عن الفاعل ؛ بشبهة أن إرادة الفاعل يتصور أن تتأخر عن فعل الفاعل .
وقد فصل شيخ الإسلام في هذه المسألة , وبين أن الإرادة تنقسم إلى عزم وقصد ؛ فالإرادة التي تسبق الفعل وتسمى عزما , وهذه تسبق الفعل , وأما الإرادة التامة التي تكون مع الفعل , وهي تسمى القصد فهذه لا تتأخر عن الفعل , وهذا هو القول الوسط في هذه المسألة .
فالأشاعرة قالوا الإرادة التامة قديمة ( وهي بمعنى القصد ) , والفعل حادث ! , وهذا مما خالفوا به المعقول حتى سخر منهم ابن رشد رحمه الله ؛ فكيف يتصور إرادة تامة قديمة وفعل حادث فهذا مناف للمعقول .
قال شيخ الإسلام : وإذا تبين أن الفعل مستلزم لحدوث المفعول , وأن إرادة الفاعل أن يفعل مستلزمة لحدوث المراد ؛ فهذا يبين أن كل مفعول وكل ما أريد فعله فهو حادث بعد أن لم يكن عموما , وعلم بهذا أنه يمتنع أن يكون ثم إرادة أزلية لشيء من الممكنات يقارنها مرادها أزلا وأبدا سواء كانت عامة لكل ما يصدر عنه أو كانت خاصة ببعض المفعولات .
ثم يقال أما كونها عامة لكل ما يصدر عنه فامتناعه ظاهر متفق عليه بين العقلاء ؛ فإن ذلك يستلزم أن يكون كل ما صدر عنه بواسطة أو بغير واسطة قديما أزليا ؛ فيلزم أن لا يحدث في العالم شيء وهو مخالف لما يشهده الخلق من حدوث الحوادث في السماء والأرض وما بينهما من حدوث الحركات والأعيان والأعراض كحركة الشمس والقمر والكواكب وحركة الرياح وكالسحاب والمطر وما يحدث من الحيوان والنبات والمعدن .
وأما إرادة شيء معين فلما تقدم ولأنه حينئذ إما أن يقال ليس له إلا تلك الإرادة الأزلية , وإما أن يقال له إرادات تحصل شيئا بعد شيء ؛ فإن قيل بالأول فإنه على هذا التقدير يكون المريد الأزلي في الأزل مقارنا لمراده الأزلي فلا يريد شيئا من الحوادث لا بالإرادة القديمة ولا بإرادة متجددة لأنه إذا قدر أن المريد الأزلي يجب أن يقارنه مراده كان الحادث حادثا إما بإرادة أزلية فلا يقارن المريد مراده وإما حادثا بإرادة حادثة مقارنة له وهذا باطل لوجهين :
أحدهما : أن التقدير أنه ليس له إلا إرادة واحدة أزلية .
الثاني: أن حدوث تلك الإرادة يفتقر إلى سبب حادث والقول في ذلك السبب الحادث كالقول في غيره يمتنع أن يحدث بالإرادة الأزلية المستلزمة لمقارنة مرادها لها ويمتنع أن يحدث بلا إرادة لامتناع حدوث الحادث بلا إرادة فيجب على هذا التقدير أن تكون إرادة الحادث المعين مشروط بإرادة له وبإرادة للحادث الذي قبله وأن الفاعل المبدع لم يزل مريدا لكل ما يحدث من المرادات .
وهذا هو التقدير الثاني ؛ وهو أن يقال لو أراد أن يحصل شيئا بعد شيء فكل مراد له محدث كائن بعد أن لم يكن , وهو وحده المنفرد بالقدم والأزلية , وكل ما سواه مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن وعلى هذا التقدير فليس فيه إلا دوام الحوادث وتسلسلها وهذا هو التقدير الذي تكلمنا عليه ويلزم أن يقوم بذات الفاعل ما يريده ويقدر عليه , وهذا هو قول أئمة أهل الحديث وكثير من أهل الكلام والفلسفة بل قول أساطينهم من المتقدمين والمتأخرين .
فتبين أنه يجب القول بحدوث كل ما سوى الله سواء سمى جسما أو عقلا أو نفسا وأنه يمتنع كون شيء من ذلك قديما سواء قيل بجواز دوام الحوادث وتسلسلها وأنه لا أول لها أوقيل بامتناع ذلك وسواء قيل بأن الحادث لا بد له من سبب حادث أو قيل بامتناع ذلك وأن القائلين بقدم العالم كالأفلاك والعقول والنفوس قولهم باطل في صريح العقل الذي لم يكذب قط على كل تقدير وهذا هو المطلوب .
منهاج السنة (1|296-298)
وقال : و أيضا فلابد عند وجود المراد من سبب يقتضى حدوثه وإلا فلو كان مجرد ما تقدم من الإرادة والقدرة كافيا للزم وجوده قبل ذلك لأنه مع الإرادة التامة والقدرة التامة يجب وجود المقدور.
مجموع الفتاوى(6|231)
وقال : وهو سبحانه إذا أراد شيئا من ذلك فللناس فيها أقوال :
قيل الإرادة قديمة أزلية و احدة , و إنما يتجدد تعلقها بالمراد ونسبتها إلى الجميع واحدة و لكن من خواص الإرادة أنها تخصص بلا مخصص فهذا قول ابن كلاب و الأشعرى و من تابعهما , وكثير من العقلاء يقول إن هذا فساده معلوم بالاضطرار حتى قال أبو البركات ليس فى العقلاء من قال بهذا , و ما علم أنه قول طائفة كبيرة من أهل النظر و الكلام و بطلانه من جهات من جهة جعل إرادة هذا غير إرادة ذاك و من جهة أنه جعل الإرادة تخصص لذاتها و من جهة أنه لم يجعل عند وجود الحوادث شيئا حدث حتى تخصص أو لا تخصص بل تجددت نسبة عدمية ليست و جودا و هذا ليس بشيء فلم يتجدد شيء فصارت الحوادث تحدث و تتخصص بلا سبب حادث و لا مخصص .
و القول الثاني : قول من يقول بإرادة واحدة قديمة مثل هؤلاء لكن يقول تحدث عند تجدد الأفعال إرادات فى ذاته بتلك المشيئة القديمة كما تقوله الكرامية و غيرهم .
و هؤلاء أقرب من حيث أثبتوا إرادات الأفعال و لكن يلزمهم ما لزم أولئك من حيث أثبتوا حوادث بلا سبب حادث و تخصيصات بلا مخصص و جعلوا تلك الإرادة واحدة تتعلق بجميع الإرادات الحادثة و جعلوها أيضا تخصص لذاتها و لم يجعلوا عند وجود الإردات الحادثة شيئا حدث حتى تخصص تلك الإرادات الحدوث .
و القول الثالث: قول الجهمية و المعتزلة الذين ينفون قيام الإرادة به ثم إما أن يقولوا بنفي الإرادة أو يفسرونها بنفس الأمر و الفعل أو يقولوا بحدوث إرادة لا في محل كقول البصريين
و كل هذه الأقوال قد علم أيضا فسادها .
و القول الرابع : أنه لم يزل مريدا بإرادات متعاقبة فنوع الإرادة قديم و أما إرادة الشيء المعين فإنما يريده فى وقته .
و هو سبحانه يقدر الأشياء و يكتبها ثم بعد ذلك يخلقها فهو إذا قدرها علم ما سيفعله و أراد فعله في الوقت المستقبل لكن لم يرد فعله فى تلك الحال فإذا جاء و قته أراد فعله ؛ فالأول عزم , و الثاني قصد .
وهل يجوز و صفه بالعزم فيه قولان :
أحدهما : المنع كقول القاضي أبى بكر و القاضي أبى يعلى.
و الثاني : الجواز و هو أصح فقد قرأ جماعة من السلف {فإذا عزمت فتوكل على الله } بالضم و في الحديث الصحيح من حديث أم سلمة : ثم عزم الله لي . و كذلك فى خطبة مسلم: فعزم لي .
و سواء سمي عزما أو لم يسم ؛ فهو سبحانه إذا قدرها علم أنه سيفعلها في وقتها , و أراد أن يفعلها في وقتها؛ فإذا جاء الوقت فلا بد من إرادة الفعل المعين و نفس الفعل و لابد من علمه بما يفعله .
مجموع الفتاوى (16|301-304)
وقال : أما الإرادة فذكروا لها ثلاثة لوازم و الثلاثة تناقض الإرادة .
قالوا: أنها تكون و لا مراد لها بل لم يزل كذلك ثم حدث مرادها من غير تحول حالها , و هذا معلوم الفساد ببديهة العقل ؛ فإن الفاعل إذا أراد أن يفعل فالمتقدم كان عزما على الفعل و قصدا له فى الزمن المستقبل لم يكن إرادة للفعل في الحال بل إذا فعل فلابد من إرادة الفعل في الحال , و لهذا يقال الماضي عزم و المقارن قصد فوجود الفعل بمجرد عزم من غير أن يتجدد قصد من الفاعل ممتنع ؛ فكان حصول المخلوقات بهذه الإرادة ممتنعا لو قدر إمكان حدوث الحوادث بلا سبب ؛ فكيف و ذاك أيضا ممتنع في نفسه فصار الامتناع من جهة الإرادة و من جهة تعينت بما هو ممتنع في نفسه .
الثاني : قولهم أن الإرادة ترجح مثلا على مثل فهذا مكابرة بل لا تكون الإرادة إلا لما ترجح و جوده على عدمه عند الفاعل إما لعلمه بأنه أفضل أو لكون محبته له أقوى و هو إنما يترجح في العلم لكون عاقبته أفضل فلا يفعل أحد شيئا بإرادته إلا لكونه يحب المراد أو يحب ما يؤول إليه المراد بحيث يكون وجود ذلك المراد أحب إليه من عدمه لا يكون و جوده و عدمه عنده سواء .
الثالث: أن الإرادة الجازمة يتخلف عنها مرادها مع القدرة ؛ فهذا أيضا باطل بل متى حصلت القدرة التامة و الإرادة الجازمة وجب وجود المقدور و حيث لا يجب فإنما هو لنقص القدرة أو لعدم الإرادة التامة والرب تعالى ما شاء كان و ما لم يشأ لم يكن , و هو يخبر في غير موضع أنه لو شاء لفعل أمورا لم يفعلها كما قال {و لو شئنا لآتينا كل نفس هداها }{ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة } { ولو شاء الله ما اقتتلوا} فبين أنه لو شاء ذلك لكان قادرا عليه لكنه لا يفعله لأنه لم نشأه إذ كان عدم مشيئته أرجح في الحكمة مع كونه قادرا عليه لو شاءه .
مجموع الفتاوى (16|459)
وقال : فإن القائلين بتأخر مرادها ؛ إنما قالوا ذلك فرارا من القول بدوام الحوادث ووجود حوادث لا أول لها , وعلى هذا التقدير فيلزم حدوث العالم ؛ وإلا فلو جاز دوام الحوادث لجاز عندهم وجود المراد في الأزل , ولو جاز ذلك لم يقولوا بتأخر المراد عن الإرادة القديمة الأزلية مع ما في ذلك من ترجيح أحد المتماثلين على الآخر بلا مرجح , وما في ذلك من الشناعة عليهم ونسبة كثير من العقلاء إلى أنهم خالفوا صريح المعقول .
فإنهم إنما صاروا إلى هذا القول لاعتقادهم امتناع حوادث لا أول لها ؛ فاحتاجوا لذلك أن يثبتوا إرادة قديمة أزلية يتأخر عنها المراد ويحدث بعد ذلك من غير سبب حادث واحتاجوا أن يقولوا إن نفس الإرادة تخصص أحد المتماثلين على الآخر , وإلا فلو اعتقدوا جواز دوام الحوادث وتسلسلها لأمكن أن يقولوا بأنه تحدث الإرادات والمرادات ويقولون بجواز قيام الحوادث بالقديم ولرجعوا عن قولهم بأن نفس الإرادة القديمة تخصص أحد المثلين في المستقبل وعن قولهم بحدوث الحوادث بلا سبب حادث وكانوا على هذا التقدير لا يقولون بقدم شيء من العالم بل يقولون إن كل ما سوى الله فإنه حادث كائن بعد أن لم يكن .
منهاج السنة (1|392)
قال ابن رشد في الرد على ذلك : وما يقوله المتكلمون في جواب هذا ، من أن الفعل الحادث كان بإرادة قديمة ، ليس بِمُنج ولا مخلصٍ من هذا الشك ؛ لأن الإرادة غيرُ الفعل المتعلق بالمفعول . وإذا كان المفعول حادثاً فواجب أن يكون الفعل المتعلق بإيجاده حادثاً .
وسواء فرضنا الإرادة قديمةً أو حديثةً ، متقدمة على الفعل أو معه ، فكيفما كان ، فقد يلزمهم أن يجوِّزوا على القديم أحد ثلاثة أمور : إما إرادة حادثة وفعل حادث ،- وهذا لا يسلمون به - وإما فعل حادث وإرادة قديمة ،- وهذا لا يتصور - وإما فعل قديم وإرادة قديمة – وهذا مناف للمعقول - . والحادث ليس يمكن أن يكون عن فعل قديم بلا واسطة ، إن سلمنا لهم أنه يوجد عن إرادة قديمة .
ووضع الإرادة نفسها هي للفعل المتعلق بالمفعول شيءٌ لا يعقل , وهو كفرض مفعول بلا فاعل ؛ فإن الفعل غير الفاعل ، وغير المفعول ، وغير الإرادة . والإرادة هي شرط الفعل لا الفعل .
وأيضاً فهذه الإرادة القديمة يجب أن تتعلق بعدم الحادث دهراً لا نهاية له ، ، إذ كان الحادث معدوماً دهراً لا نهاية له. فهي لا تتعلق بالمراد في الوقت الذي اقتضت إيجاده إلا بعد انقضاء دهر لا نهاية له . وما لا نهاية له لا ينقضي ؛ فيجب ألا يخرج هذا المراد إلى الفعل ، أو ينقضي دهرٌ لا نهاية له وذلك ممتنع . وهذا هو بعينه برهام المتكلمين الذي اعتمدوه في حدوث دورات الفلك .
وأيضاً فإن الإرادة التي تتقدم المراد ، وتتعلق به بوقت مخصوص ، لا بد أن حدث فيها ، في وقت إيجاد المراد ، عزمٌ على الإيجاد لم يكن قبل ذلك الوقت ، لأنه إن لم يكن في المريد ، فـي وقت الفعل ، حالةٌ زائدة على ما كانت عليه في الوقت الذي اقتضت الإرادة عدم الفعل ، لم يكن وجود ذلك الفعل عنه في ذلك الوقت أولى من عدمه .
إلى ما في هذا كله من التشعيب والشكوك العويصة التي لا يتخلص منها العلماء المهَرَة بعلم الكلام و الحكمة ، فضلاً عن العامة . ولو كُلِّف الجمهور العلم من هذه الطرق لكان من باب تكليف ما لا يطاق .
الكشف عن مناهج الأدلة (30-31)
قلت : وقوله : وإذا كان المفعول حادثاً فواجب أن يكون الفعل المتعلق بإيجاده حادثاً . وهذا هو القول الصواب , وأن الأفعال تقوم بذات الله وهي من الصفات التابعة لمشيئته واختياره .
قلت : وقوله : وأيضاً فهذه الإرادة القديمة يجب أن تتعلق بعدم الحادث دهراً لا نهاية له ، ، إذ كان الحادث معدوماً دهراً لا نهاية له. فهي لا تتعلق بالمراد في الوقت الذي اقتضت إيجاده إلا بعد انقضاء دهر لا نهاية له . وما لا نهاية له لا ينقضي ؛ فيجب ألا يخرج هذا المراد إلى الفعل ، أو ينقضي دهرٌ لا نهاية له وذلك ممتنع . وهذا إلزام قوي من ابن رشد للأشاعرة , لأن الإرادة القديمة يستلزمها ما يستلزم الذات من الأولية , فهذا العدم إن كان متناهيا تنافى مع القول بالقدم , وإن لم يكن متناهيا لاستلزم أن لا يصدر الفعل لأن ما يتناهى لا ينقضي .
قال ابن رشد : وأما المقدمة القائلة إن الإرادة لا يكون عنها إلا مراد محدث ؛ فذلك شيء غير بين , وذلك أن الإرادة التي بالفعل ، فهي مع فعل المراد نفسه ، لأن الإرادة من المضاف . وقد تبين أنه إذا وجد أحد المضافين بالفعل وجد الآخر بالفعل ، مثل الأب والابن، وإذا وجد أحدهما بالقوة وجد الآخر بالقوة . فإن كانت الإرادة التي بالفعل حادثة فالمراد ولا بد حادث بالفعل وإن كانت الإرادة التي بالفعل قديمة فالمراد الذي بالفعل قديم . وأما الإرادة التي تتقدم المراد فهي الإرادة التي بالقوة ، أعني التي لم يخرج مرادها إلى الفعل ، إذ لم يقترن بتلك
الإرادة الفعل الموجب لحدوث المراد . ولذلك هو بين ، أنها إذ لم خرج مرادها أنها على نحو من الوجود لم تكن عليه قبل خروج مراها إلى فعل ، إذ كانت هي السبب في حدوث المراد بتوسط الفعل فإذن ،ـ لو وضع المتكلمون أن الإرادة حادثه لوجب أن يبكون المراد محدثاً ولا بد.
والظاهر من الشرع أنه لم يتعمق هذا التعمق مع الجمهور . ولذلك ولم يصرح لا بالإرادة قديمة ولا حادثه ، بل صرح بما الأظهر منه أن الإرادة حادثه وذلك في قوله تعالى:{إنما قولنا لشيء إذا أردنه أن نقول له كنت فيكون } [النحل:40]. وإنما كان ذلك كذلك لأن الجمهور لا يفهمون موجودات حادثة عن إرادة قديمة ، بل الحق أن الشرع لم يصرح في الإرادة لا بحدوث ولا بقدم ، لكون هذا من المتشابهات في حق الأكثر . وليس بأيدي المتكلمين برهان قطعي على استحالة قيام إرادة حادثة في موجود قديم ، لأن الأصل الذي يعولون عليه في نفي قيام الإدارة بمحل قديم هو المقدمة التي بينا وهي أن ما لا يخلو عن الحوادث حادث .
الكشف عن مناهج الأدلة (39-40)
قلت : وقوله : وأما المقدمة القائلة إن الإرادة لا يكون عنها إلا مراد محدث فذلك شيء غير بين , وذلك أن الإرادة التي بالفعل ، فهي مع فعل المراد نفسه ، لأن الإرادة من المضاف . وقد تبين أنه إذا وجد أحد المضافين بالفعل وجد الآخر بالفعل ، مثل الأب والابن، وإذا وجد أحدهما بالقوة وجد الآخر بالقوة . فإن كانت الإرادة التي بالفعل حادثة فالمراد ولا بد حادث بالفعل , وإن كانت الإرادة التي بالفعل قديمة ؛ فالمراد الذي بالفعل قديم . وأما الإرادة التي تتقدم المراد فهي الإرادة التي بالقوة ، أعني التي لم يخرج مرادها إلى الفعل ، إذ لم يقترن بتلك الإرادة الفعل الموجب لحدوث المراد . وهذا قريب جدا من كلام شيخ الإسلام التفريق بين الإرادة التي تكون قبل الفعل والتي تسمى العزم والإرادة التي تكون مع الفعل والتي تسمى القصد , وهذه الأخيرة لا يتصور تأخرها عن الفعل .
وقال ابن رشد : ولذلك عرضت أشد حيرة تكون ن وأعظم شبهة ، للمتكلمين من أهل ملتنا ، أعني الأشعرية ؛ وذلك لما صرحوا أن الله مريد بإرادة قديمة ، وهذا بدعة كما قلنا ، ووضعوا أن العالم محدث ، قيل لهم : كيف يكون مراد حادث عن إرادة قديمة ؟ فقالوا : فقالوا : إن الإرادة القديمة تعلقت بإيجاده في وقت مخصوص وهو الوقت الذي وجد فيه .
فقيل لهم : إن كانت نسبة الفاعل المريد إلى المحدث ، وفي وقت عدمه ، هي بعينها نسبته إليه في وقت إيجاده ، فالمحدث لم يكن وجوده في وقت وجوده أولى منه غيره ، إذ لم يتعلق به ، في وقت الوجود ، فعل انتفى عنه في وقت العدم . وإن كانت مختلفة ، فهنالك إرادة حادثة ضرورة ، وإلا وجب أن يكون مفعول محدث عن فعل قديم . فإن ما يلزم من ذلك في الفعل ، يلزم في الإرادة .
وذلك أنه يقال لهم : إذا حضر الوقت ، وقت وجوده ، فوجد ، فهل وجد بفعل قديم أو بفعل محدث ؟ فإن قالوا : بفعل قديم ، فقد جوزوا وجود المحدث بفعل قديم . وإن قالوا : بفعل محدث ، لزمهم أن يكون هنالك إرداة محدثه. فإن قالوا : الإرادة هي نفس الفعل فقد قالوا محالاً ، فإن الإرادة هي سبب الفعل في المريد , ولو كان المريد إذا أراد شيئاً ما ، في وقت ما ، وجد ذلك الشيء عند حضور وقته ، من غير فعل منه بالإرداة المتقدمة ، لكان ذلك الشيء موجوداً عن غير فاعل.
وأيضاً فقد يظن أنه إن كان واجباً أن يكون عن الإرادة الحادثه مراد حادث ، فقد يجب أن يكون عن الإرادة القديمة مراد قديم ، وإلا كان مراد الإرادة القديمة والحادثه واحداً ، وذلك مستحيل .
الكشف عن مناهج الأدلة (94-95)
وقول ابن رشد : "فقيل لهم : إن كانت نسبة الفاعل المريد إلى المحدث ... " هي نفس مسألة الترجيح بلا مرجح المتقدمة كما تقدم .
وهو يلزمهم أنه ما من وقت يتصور فيه إيجاد المفعول الحادث عن تلك الإرادة القديمة , إلا وهو يتصور في وقت غير ذلك الوقت ؛ فتخصيص هذا الوقت دون سواه يحتاج إلى مرجح , وهذا من تناقضهم .
المسألة الرابعة : حوادث لا أول لها
بيان ابن رشد أن لا محذور من القول بحوادث لا أول لها , لأن استناد ذلك للأول الذي ليس له بداية .
قال ابن رشد : وبهذا ينحل جميع الشكوك الواردة لهم في هذا الباب . وأعسرها كلها هو ما جرت به عادتهم أن يقولوا : إنه إذا كانت الحركات الواقعة في الزمان الماضي حركات لا نهاية لها ، فليس يوجد منها حركة في الزمان الحاضر المشار إليه ، إلا وقد انقضت قبلها حركات لا نهاية لها . وهذا صحيح ومعترف به عند الفلاسفة، إن وضعت الحركة المتقدمة شرطاً في وجود المتأخرة ، وذلك أنه متى لزم أن توجد واحدة منها لزم أن توجد قبلها أسباب لا نهاية لها . وليس يجوّز أحد من الحكماء وجود أسباب لا نهاية لها ، كما تجوزه الدهرية ، لأنه يلزم عنه وجود مسبَّب من غير سبب ، ومتحرك من غير محرك ، لكن القوم لما أداهم البرهان إلى أن ههنا مبدأً محركاً أزلياً ليس لوجوده ابتداء ولا انتهاء ، وأن فعله يجب أن يكون غير متراخ عن وجوده ، لزم أن لا يكون لفعله مبدأ كالحال في وجوده ، وإلا كان فعله ممكناً لا ضرورياً . فلم يكن مبدأ أولاً ، فيلزم أن تكون أفعال الفاعل الذي لا مبدأ لوجوده ليس لها مبدأ كالحال في وجوده . وإذا كان ذلك كذلك ، لزم ضرورة أن لا يكون واحد واحد من أفعاله الأولى شرطاً في وجود الثاني . لأن كل واحد منهما هو غير فاعل بالذات . بل لزم أن يكون هذا النوع مما لا نهاية له أمراً ضرورياً تابعاً لوجود مبدأ أول أزلي . وليس ذلك في أمثال الحركات المتتابعة أو المتصلة ، بل وفي الأشياء التي يظن بها أن المتقدم سبب للمتأخر ، مثل الإنسان الذي يولد إنساناً مثله . وذلك أن المحدث للإنسان المشار إليه بإنسان آخر ، يجب أن يترقى إلى فاعل أول قديم ، لا أول لوجوده ، ولا لإحداثه إنساناً عن إنسان . فيكون كون إنسان عن إنسان آخر إلى ما لا نهاية له ، كوناً بالعرض والقبلية والبعدية بالذات . وذلك أن الفاعل الذي لا أول لوجود كما لا أول لأفعاله التي يفعلها بلا آلة ، كذلك لا أول للآلة التي يفعل بها أفعاله التي لا أول لها ، من أفعاله التي من شأنها أن تكون بآلة . فلما اعتقد المتكلمون فيما بالعرض أنه بالذات ، دفعوا وجوده ، وعسر حل قولهم ، وظنّوا أن دليلهم ضروري . وهذا من كلام الفلاسفة بين . فإن قد صرح رئيسهم الأول ، وهو أرسطو ، أنه لو كانت للحركة حركة لما وجدت الحركة ، وأنه لو كان للأسطقس اسطقس لما وجد الأسطقس . وهذا النحو مما لا نهاية ل ليس عندهم مبدأ ولا منتهى . ولذلك ليس يصدق على شيء منه أنه قد انقضى ، ولا أنه قد دخل في الوجود ولا في الزمان الماضي . لأن كل ما انقضى فقد ابتدأ ، وما لم يبتدئ فلا ينقضي . وذلك أيضاً بين من كون المبدأ والنهاية من المضاف . ولذلك يلزم من قال إنه لا نهاية لدورات الفلك في المستقبل ألا يضع لها مبدأ ، لأن ما ل مبدأ فله نهاية ، وما ليس له نهاية فليس له مبدأ . وكذلك الأمر في الأول والآخر ، أعني ما له أول فله آخر ، وما لا أول له فلا آخر له ، وما لا آخر له فلا انقضاء من أجزائه بالحقيقة ، ولا مبدأ لجزء من أجزائه بالحقيقة ، وما لا مبدأ لجزء من أجزائه فلا انقضاء له . ولذا إذا سأل المتكلمون الفلاسفة : هل انقضت الحركات التي قبل الحركة الحاضرة ، كان جوابهم : إنها لم تنقض ، لأن من وضعهم أنها لا أول لها ، فلا انقضاء لها . فإيهام المتكلمين إن الفلاسفة يسلمون انقضاءها ليس بصحيح ، لأنه لا ينقضي عندهم إلا ما ابتدأ . فقد تبين لك أنه ليس من الأدلة التي حكاها عن المتكلمين في حدوث العالم كفاية في أن تبلغ مرتبة اليقين ، وأنها ليس تلحق بمراتب البرهان ، ولا الأدلة التي أدخلها وحكاها عن الفلاسفة في هذا الكتاب لحق بمراتب البرهان . وهو الذي قصدنا بيانه في هذا الكتاب . وأفضل ما يجاوب به من سأل عما دخل من أفعاله في الزمان الماضي أن يقال : دخل من أفعله مثل ما دخل من وجده لأن كليهما لا مبدأ له .
تهافت التهافت(54-57)
وقال ابن رشد: أكثر من يقول بحدوث العالم يقول بحدوث الزمان معه ، فلذلك كان قوله إن مدة الترك- أي كان لا يفعل ثم فعل - لا تخلو أن تكون متناهية ، أو غير متناهية ، قولاً غير صحيح . فإن ما لا ابتداء له لا ينقضي ولا ينتهي أيضاً ، فإن الخصم لا يسلم إن للترك مدة . وإنما الذي يلزمهم أن يقال لهم: حدوث الزمان هل كان يمكن فيه أن يكون طرفه الذي هو مبدأه أبعد من الآن الذي نحن فيه أو ليس ممكن ذلك . فإن قالوا : ليس يمكن ذلك ، فقد جعلوا مقداراً محدوداً لا يقدر الصانع أكثر منه ، وهذا شنيع ومستحيل عندهم . وإن قالوا أنه يمكن أن يكون طرفه أبعد من الآن من الطرف المخلوق ، قيل : وهل يمكن في ذلك الطرف الثاني أن يكون طرف أبعد منه . فإن قالوا : نعم ، ولا بد لهم من ذلك ، قيل : فههنا إن كان حدوث مقادير من الزمان لا نهاية لها، ويلزمكم أن يكون انقضاءها على قولكم في الدورات شرطاً في حدوث المقدار الزمني الموجود منها . وإن قلتم : إن ما لا نهاية له لا ينقضي ، فما ألزمتم خصومكم في الدورات ألزمكم في أماكن مقادير الأزمنة الحادثة . فإن قيل إن الفرق بينهما إن تلك الإمكانات غير متناهية هي لمقادير لم تخرج إلى الفعل ، وإمكانات الدورات التي لا نهاية لها قد خرجت إلى الفعل ، قيل إمكانات الأشياء هي من الأمور اللازمة للأشياء سواء كانت متقدمة على الأشياء أو مع الأشياء على ما يرى ذلك قوم ، فهي ضرورة بعدد الأشياء . فإن كان يستحيل قبل وجود الدورة الحاضرة وجود دورات لا نهاية لها ، يستحيل وجود إمكانات دورات لا نهاية لها . إلا أن لقائل أن يقول : إن الزمان محدود المقدار ، أعني : زمان العالم ، فليس يمكن وجود زمان أكبر منه ولا أصغر كما يقول قوم في مقدار العالم . ولذلك أمثال هذه الأقاويل ليست برهانية . ولكن كان الأحفظ لمن يضع العالم محدثاً ، أن يضع الزمان محدود المقدار ، ولا يضع الإمكان متقدماً على الممكن . وأن يضع العظم كذلك متناهياً ، ولكن العظم له كل ، والزمان ليس له كل .
تهافت التهافت(62-63)
فالشاهد أن فعل الله وهو صفته ملازمة لذاته , مع بيان أنه سبحانه هو الأول الذي ليس قبله شيء .
قال شيخ الإسلام : وذكروا أشياء مما نقمت على أبي الحسن الأشعري وكان مما ذكروه قوله إن الرب لم يكن في الأزل قادرا على الفعل وهذا أصل قول هؤلاء المتكلمين الذين احتجوا على حدوث العالم بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها , ويلزم من ذلك امتناع أن يكون مقدورا للرب فقالوا صار الفعل ممكنا بعد أن لم يكن ممكنا
ومعلوم عند من يعلم الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة وأئمتها أنه ليس في الكتاب ولا السنة شيء يدل على أن الرب لم يكن الفعل ممكنا له في الأزل أو لم يكن الفعل والكلام ممكنا له في الأزل أو أنه لم يزل معطلا عن الفعل أو عن الفعل والكلام لم يزل معطلا ثم إنه صار قادرا فاعلا متكلما بعد أن لم يكن كذلك
وقد يجيبون عن هذا بجواب فيه مغلطة فيقولون لم يزل قادرا ولكن المقدور كان ممتنعا في الأزل وهذا تناقض ؛ فإن المقدور لا يكون ممتنعا بل لا يكون إلا ممكنا ولأن ذلك يتضمن الانتقال من الامتناع إلى الإمكان بلا حدوث شيء وهو باطل .
الصفدية (2|163)
وقال الشنقيطي : أما بالنظر إلى وجود حوادث لا أول لها بإيجاد الله ، فذلك لا محال فيه ولا يلزمه محذور لأنها موجودة بقدرة وإرادة من لا أول له جل وعلا . وهو في كل لحظة من وجوده يحدث ما يشاء كيف يشاء فالحكم عليه بأن إحداثه للحوادث له مبدأ يوهم أنه كان قبل ذلك المبدأ عاجزاً عن الإيجاد سبحانه وتعالى عن ذلك . وإيضاح المقام أنك لو فرضت تحليل زمن وجود الله في الماضي إلى الأزل إلى أفراد زمانية أقل من لحظات العين أن تفرض أن ابتداء إيجاد الحوادث مقترن بلحظة من تلك اللحظات فإنك إن قلت هو مقترن باللحظة الأولى قلنا ليس هناك أولى البتة ، وإن فرضت اقترانه بلحظة أخرى فإن الله موجود قبل تلك اللحظة بجميع صفات الكمال والجلال بما لا يتناهى من اللحظات وهو في كل لحظة يحدث ما شاء كيف شاء فالحكم عليه بأن لفعله مبدأ ، لم يكن فعل قبله شيئاً يتوهم أن له مانعاً من الفعل قبل ابتداء الفعل ، فالحاصل أن وجوده جل وعلا لا أول له وهو في كل لحظة من وجوده يفعل ما يشاء كيف يشاء فجميع ما سوى الله كله مخلوق حادث بعد عدم ، إلا أن الله لم يسبق عليه زمن هو فيه ممنوع الفعل سبحانه وتعالى عن ذلك . فظهر أن وجود حوادث لا أول لها إن كانت بإيجاد من لا أول له لا محال فيه وكل فرد منها كائناً ما كان فهو حادث مسبوق بعدم لكن محدثه لا أول له وهو في كل وقت يحدث ما شاء كيف شاء سبحانه وتعالى .
رحلة الحج إلى بيت الله الحرام (51)
المسألة الخامسة : نقد الأشاعرة في مسألة خلق العالم من عدم .
قال ابن رشد : فإما أن يقال إن عقيدة الشرع في خلق العالم هي أنه خلق من غير شيء وفي غير زمان فذلك شيء لا يمكن يتصوره العلماء فضلا عن الجمهور فينبغي كما قلنا ألا يعدل في الشرع عن التصور الذي وضعه للجمهور ولا يصرح لهم بغير ذلك ... .
الكشف عن مناهج الأدلة (94)
قال شيخ الإسلام : وهؤلاء تحيروا في خلق الشيء من مادة كخلق الانسان من النطفة والحب من الحب والشجرة من النواة وظنوا أن هذا لا يكون إلا مع بقاء اصل تلك المادة إما الجواهر عند قوم وإما المادة المشتركة عند قوم وهم في الحقيقة ينكرون أن يخلق الله شيئا من شيء فانه عندهم لا يحدث إلا الصورة التي هي عرض عند قوم أو جوهر عقلي عند قوم وكلاهما لم يخلق من مادة والمادة عندهم باقية بعينها لم يخلق ولن يخلق منها شيء .
النبوات (59)
وقال : وأيضا فكون الشيء مخلوقا من مادة وعنصر أبلغ في العبودية من كونه خلق لا من شيء وأبعد عن مشابهة الربوبية فإن الرب هو أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فليس له أصل وجد منه ولا فرع يحصل عنه فاذا كان المخلوق له أصل وجد منه كان بمنزلة الولد له وإذا خلق له شيء آخر كان بمنزلة الوالد وإذا كان والدا ومولودا كان أبعد عن مشابهة الربوبية والصمدية فانه خرج من غيره ويخرج منه غيره لا سيما إذا كانت المادة التي خلق منها مهينة كما قال تعالى ألم نخلقكم من ماء مهين .
النبوات (65)
وقال : فالذي جاء به القرآن والتوراة واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها مع أئمة أهل الكتاب : أن هذا العالم خلقه الله وأحدثه من مادة كانت مخلوقة قبله كما أخبر في القرآن أنه : { استوى إلى السماء وهي دخان } أي بخار { فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها } [ فصلت : 11 ] وقد كان قبل ذلك مخلوق غيره كالعرش والماء كما قال تعالى { وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء } [ هود : 7 ] وخلق ذلك في مدة غير مقدار حركة الشمس والقمر كما أخبر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام
والشمس والقمر هما من السماوات والأرض وحركتهما بعد خلقهما والزمان المقدر بحركتهما ـ وهو الليل والنهار التابعان لحركتهما ـ إنما حدث بعد خلقهما وقد أخبر الله أن خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام فتلك الأيام مدة وزمان مقدر بحركة أخري غير حركة الشمس والقمر
وهذا مذهب جماهير الفلاسفة الذين يقولون : إن هذا العالم مخلوق محدث وله مادة متقدمة عليه لكن حكي عن بعضهم أن تلك المادة المعنية قديمة أزلية وهذا أيضا باطل كما قد بسط في غير هذا الموضع .
درء التعارض (1|69)
المسألة السادسة : الخلق المستمر (الإفناء والإعدام )
قال الإيجي في المواقف : ذهب الشيخ الأشعري ومتبعوه من محققي الأشاعرة إلى أن العرض لا يبقى زمانين ؛ فالأعراض جملتها غير باقية عندهم بل هي على التقضي والتجدد ينقضي واحد منها ويتجدد آخر مثله وتخصيص كل من الآحاد المنقضية والمتجددة بوقته الذي وجد فيه إنما هو للقادر المختار فإنه يخصص بمجرد إرادته كل واحد منها بوقته الذي خلقه فيه وإن كان يمكن له خلقه قبل ذلك الوقت وبعده وإنما ذهبوا إلى ذلك لأنهم قالوا بأن السبب المحوج إلى المؤثر هو الحدوث فلزمهم استغناء العالم حال بقائه عن الصانع بحيث لو جاز عليه العدم تعالى عن ذلك علوا كبيرا لما ضر عدمه في وجوده فدفعوا ذلك بأن شرط بقاء الجوهر هو العرض ولما كان هو متجددا محتاجا إلى المؤثر دائما كان الجوهر أيضا حال بقائه محتاجا إلى ذلك المؤثر بواسطة احتياج شرطه إليه فلا استغناء أصلا .
المواقف (1|498)
وقال الغزالي في الاقتصاد : فإن قيل فبما إذاً تفنى عندكم الجواهر والأعراض ؟ قلنا: أما الأعراض فبأنفسها، ونعني بقولنا بأنفسها أن ذواتها لا يتصور لها بقاء. ويفهم المذهب فيه بأن يفرض في الحركة، فإن الأكوان المتعاقبة في أحيان متواصلة لا توصف بأنها حركات إلا بتلاحقها على سبيل دوام التجدد ودوام الانعدام، فإنها إن فرض بقاؤها كانت سكوناً لا حركة، ولا تعقل ذات الحركة ما لم يعقل معها العدم عقيب الوجود. وهذا يفهم في الحركة بغير برهان.
الاقتصاد في الاعتقاد
والسبب في قولهم بأن العرض لا يبقى زمانين كما مر من كلام الإيجي أنهم لا يرون أثرا لمؤثر غير الله ولو قيل أن العالم من طبيعته بقاء أعراضه للزم من ذلك استغناء العالم عن الله وهم يرون أن شرط بقاء الجوهر هو العرض ولما كان هو متجددا محتاجا إلى المؤثر دائما كان الجوهر أيضا حال بقائه محتاجا إلى ذلك المؤثر .
قال ابن رشد في الرد عليهم : هذا القول في غاية السقوط ، وإن كان قد قال كثير من القدماء ، أعني أن الموجودات في سيلان دائم ، وتكاد لا تنتهي المحالات التي تلزمه . وكيف يوجد موجود يفني بنفسه ، فيفنى الوجود بفناءه . فإنه إن كان يفنى بنفسه فسيوجد بنفسه . وإن كان ذلك كذلك لزم أن يكون الشيء الذي به سار موجوداً به بعينه كان فانياً ، وذلك مستحيل . وذلك أن الوجود ضد الفناء ، وليس يمكن أن يوجد الضدان لشيء من جهة واحدة . ولذلك ما كان موجوداً محضاً لم يتصور عليه فناء وذلك لأنه إن كان وجوده يقتضي عدمه ، فسيكون موجوداً معدوماً في آن واحد ، وذلك مستحيل . وأيضاً فإن كانت الموجودات إنما تبقى بصفة باقية في نفسها ، فهل عدمها انتقالها من جهة ما هي موجودة أو معدومة ومحال أن يكون لها ذلك من جهة أنها معدومة فقد بقي أن يكون البقاء لها من جهة ما هي موجودة. فإذ كان موجود يلزم أن يكون باقياً من جهة ما هو موجود . والعدم أمر طار عليه . فما الحاجة ليت شعري أن تبقى الموجودات ببقاء ! وهذا كله شبيه بالفساد الذي يكون في العقل. وَلنَخْلُ عن هذه الفرقة ، فاستحالة قولهم أبين من أن يحتاج إلى معاندة .
تهافت التهافت(119)
قلت : وقوله : وكيف يوجد موجود يفني بنفسه ، فيفنى الوجود بفناءه . فإنه إن كان يفنى بنفسه فسيوجد بنفسه . إلزام قوي وهو تناقض من الأشاعرة فكيف سيفنى بنفسه وهم يسلبون طبائع وخواص الأشياء , وهذا يلزم منه أن من طبيعة الأشياء الفناء بنفسها , وإذا كان من طبيعتها الفناء فليس بمستبعد أن تكون من طبيعتها وخاصيتها الإيجاد .
وقال ابن حزم في الرد عليهم : وذهب أبو الهذيل العلاف والأشعرية إلى أن الأرواح أعراض تفنى ولا تبقى وقتين فإذا مات الميت فلا روح هنالك أصلا ومن عجائب أصحاب هذه المقالة الفاسدة قولهم أن روح الإنسان الآن غير روحه قبل ذلك وأنه لا ينفك تحدث له روح ثم تفنى ثم روح ثم تفنى وهكذا أبدا وأن الإنسان يبدل ألف ألف روح وأكثر في مقدار أقل من ساعة زمانية وهذا يشبه تخليط من هاج به البرسام .
الفصل لابن حزم (4|58)
وقال أيضا : قال أبو محمد ولو كان ما قاله أبو الهذيل والباقلاني ومن قلدهما حقا لكان الإنسان يبدل في كل ساعة ألف ألف روح وأزيد من ثلاث مائة نفس ألف لأن العرض عندهم لا يبقى وقتين بل يفنى ويتجدد عندهم أبدا فروح كل حي على قولهم في كل وقت غير روحه التي كانت قبل ذلك وهكذا تتبدل أرواح الناس عندهم بالخطاب وكذلك بيقين يشاهد كل أحد أن الهواء الداخل بالتنفس ثم يخرج هو غير الهواء الداخل بالتنفس الثاني فالإنسان يبدل على قول الأشعرية أنفسا كثيرة في كل وقت ونفسه الآن غير نفسه آنفا وهذا حمق لا خفاء به فبطل قول الفريقين بنص القرآن والسنة والإجماع والمشاهدة والمعقول .
الفصل (5|48)
وقال شيخ الإسلام : وهم لا يشهدون للرحمن إحداثا ولا إفناء بل إنما يحدث عندهم الأعراض وهي تفنى بأنفسها لا بإفنائه وهي تفنى عقب إحداثها وهذا لا يعقل .
النبوات (62)
وقال ابن القيم : ومن يقول منهم أن العرض لا يبقى زمانين كما يقوله أكثر الأشعرية فمن قولهم إن روح الإنسان الآن هي غير روحه قبل وهو لا ينفك يحدث له روح ثم تغير ثم روح ثم تغير هكذا أبدا فيبدل له ألف روح فأكثر في مقدار ساعة من الزمان فما دونها .
الروح (111)
وقولهم أنه يفنى بنفسه تناقض منهم , فهذا مناف لمذهبهم في نفي طبائع الأشياء ؛ كما سيأتي .
المسألة السابعة : نقد قولهم أن الأعراض لا تبقى زمانين وأنها شرط في بقاء الأجسام .
يرى الأشاعرة أن الأجسام باقية , وأنها لا تفنى وأن فناءها تعاقب الأعراض عليها .
معنى العرض
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : : ولفظ العرض في اللغة له معنى وهو ما يعرض ويزول كما قال تعالى:{ يأخذون عرض هذا الأدنى} وعند أهل الاصطلاح الكلامي قد يراد بالعرض ما يقوم بغيره مطلقا وقد يراد به ما يقوم بالجسم من الصفات ويراد به فى غير هذا الاصطلاح أمور أخرى .
مجموع الفتاوى (9|300)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : فإن أئمة هؤلاء الطوائف صار كل منهم يلتزم ما يراه لازما ليطردها فيلتزم لوازم مخالفة للشرع والعقل فيجيء الآخر فيرد عليه ويبين فساد ما التزمه ويلتزم هو لوازم أخر لطردها فيقع أيضا في مخالفة الشرع والعقل .
فالجهمية التزموا نفي أسماء الله وصفاته إذ كانت الصفات أعراضا تقوم بالموصوف ولا يعقل موصوف بصفة إلا الجسم فإذا اعتقدوا حدوثه اعتقدوا حدوث كل موصوف بصفة والرب تعالى قديم فالتزموا نفي صفاته, وأسماؤه مستلزمة لصفاته ؛ فنفوا أسماءه الحسنى وصفاته العلى.
والمعتزلة استعظموا نفي الأسماء لما فيه من تكذيب القرآن تكذيبا ظاهر الخروج عن العقل والتناقض فإنه لا بد من التمييز بين الرب وغيره بالقلب واللسان فما لا يميز من غيره لا حقيقة له ولا إثبات وهو حقيقة قول الجهمية فإنهم لم يثبتوا في نفس الأمر شيئا قديما البتة ... والمقصود هنا أن المعتزلة لما رأوا الجهمية قد نفوا أسماء الله الحسنى استعظموا ذلك وأقروا بالأسماء ولما رأوا هذه الطريق توجب نفي الصفات نفوا الصفات فصاروا متناقضين فإن إثبات حي عليم قدير سميع بصير بلا حياة ولا علم ولا قدرة ولا حكمة ولا سمع ولا بصر مكابرة للعقل كإثبات مصل بلا صلاة وصائم بلا صيام وقائم بلا قيام ونحو ذلك من الأسماء المشتقة كأسماء الفاعلين والصفات المعدولة عنها ولهذا ذكروا في أصول الفقه أن صدق الاسم المشتق كالحي والعليم لا ينفك عن صدق المشتق منه كالحياة والعلم وذكروا النزاع مع من ذكروه من المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم .
فجاء ابن كلاب ومن اتبعه كالأشعري والقلانسي : فقرروا أنه لا بد من إثبات الصفات متابعة للدليل السمعي والعقلي مع إثبات الأسماء وقالوا ليست أعراضا لأن العرض لا يبقى زمانين! وصفات الرب باقية سلكوا في هذا الفرق وهو أن العرض لا يبقى زمانين مسلكا أنكره عليهم جمهور العقلاء وقالوا إنهم خالفوا الحس وضرورة العقل وهم موافقون لأولئك على صحة هذه الطريقة طريقة الأعراض قالوا وهذه تنفى عن الله أن يقوم به حادث وكل حادث فإنما يكون بمشيئته وقدرته قالوا فلا يتصف بشيء من هذه الأمور لا يتكلم بمشيئته وقدرته ولا يقوم به فعل اختياري يحصل بمشيئته وقدرته كخلق العالم وغيره بل منهم من قال لا يقوم به فعل بل الخلق هو المخلوق كالأشعري ومن وافقه ...
النبوات (46)
قال ابن رشد : أما من يقول بأن الأعراض لا تبقى زمانين ، وأن وجودها في الجواهر هو شرط في بقاء الجواهر ، فهو لا يفهم ما في قوله من التناقض , وذلك أنه إن كانت الجواهر شرطاً في وجودها ، إذ كان لا يمكن أن توجد الأعراض دون جواهر تقوم بها ، فوضع الأعراض شرطاً في وجود الجواهر يوجب أن تكون الجواهر شرطاً في وجود أنفسها . ومحال أن يكون الشيء شرطاً في وجود نفسه . وأيضاً فكيف تكون شرطاً ، وهي لا تبقى زمانين ، وذلك أن الآن الذي يكون نهاية لعدم الموجود منها ، ومبدأ الوجود الجزء الموجود منها ، قد كان يجب أن يفسد في ذلك الآن الجوهر فإن ذلك الآن ليس فيه شيء من الجزء المعدوم ولا شيء من الجزء الموجود وذلك أنه لو كان فيه جزء من الشيء المعدوم لما كان نهاية له .وكذلك لو كان فيه جزء من الشيء الموجود. وبالجملة , أن يجعل مالا يبقى زمانين شرطاً في بقاء وجود مايبقى زمانين بعيد , فإن الذي يبقى زمانين أحرى بالبقاء من الذي لا يبقى زمانين .لأن الذي لا يبقى زمانين وجوده في الآن ,وفي السيال . والذي يبقى زمانين وجوده ثابت . وكيف يكون السيال شرطاً في وجود الثابت؟ أو كيف يكون ما هو باق بالنوع شرطاً في بقاء ماهو باق بالشخص ؟ هذا كله هذيان . وينبغي أن يعلم من ليس يضع هيولى للشيء الكائن يلزمه أن يكون الموجود بسيطاً , فلا يمكن في عدم . لأن البسيط لا يتغير ولا ينقلب جوهره إلى جوهر آخر .ولذلك يقول أبقراط : لو كان الإنسان من شيء واحد , لما كان يألم بدنه , أي لما كان يفسد ويتغير . وكذلك كان يلزم أن لا يتكون , بل كان يكون موجوداً لم يزل ولا يزال .
تهافت التهافت (120-121)
قلت : وقول ابن رشد : أما من يقول بأن الأعراض لا تبقى زمانين ، وأن وجودها في الجواهر هو شرط في بقاء الجواهر ، فهو لا يفهم ما في قوله من التناقض , وذلك أنه إن كانت الجواهر شرطاً في وجودها ، إذ كان لا يمكن أن توجد الأعراض دون جواهر تقوم بها ، فوضع الأعراض شرطاً في وجود الجواهر يوجب أن تكون الجواهر شرطاً في وجود أنفسها . ومحال أن يكون الشيء شرطاً في وجود نفسه . وأيضاً فكيف تكون شرطاً ، وهي لا تبقى زمانين ، بيان لتناقض قوي منهم .
ورد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
وقال : و كذلك الذين قالوا بأن العرض لا يبقى زمانين خالفوا الحس و ما يعلمه العقلاء بضرورة عقولهم فإن كل أحد يعلم أن لون جسده الذي كان لحظة هو هذا اللون و كذلك لون السماء و الجبال و الخشب و الورق و غير ذلك.
و مما ألجأهم إلى هذا ظنهم أنهما لو كانا باقيين لم يمكن إعدامهما ...
مجموع الفتاوى (16|275)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : قال الجمهور وأما تفريق الكلابية بين المعانى التى لا تتعلق بمشيئته وقدرته والمعاني التي تتعلق بمشيئته وقدرته التي تسمى الحوادث ومنهم من يسمى الصفات أعراضا لأن العرض لا يبقي زمانين فيقال قول القائل أن العرض الذى هو السواد والبياض والطول والقصر ونحو ذلك لا يبقى زمانين قول محدث فى الإسلام لم يقله أحد من السلف والأئمة وهو قول مخالف لما عليه جماهير العقلاء من جميع الطوائف بل من الناس من يقول أنه معلوم الفساد بالاضطرار كما قد بسط فى موضع آخر .
وأما تسمية المسمي للصفات أعراضا فهذا أمر اصطلاحي لمن قاله من أهل الكلام ليس هو عرف أهل اللغة ولا عرف سائر أهل العلم والحقائق المعلومة بالسمع والعقل لا يؤثر فيها اختلاف الاصطلاحات بل يعد هذا من النزاعات اللفظية والنزاعات اللفظية أصوبها ما وافق لغة القرآن والرسول والسلف فما نطق به الرسول والصحابة جاز النطق به باتفاق المسلمين وما لم ينطقوا به ففيه نزاع وتفصيل ليس هذا موضعه .
مجموع الفتاوى (12|319)