(4) تنظير وترجيح وتوضيح
هذه أبواب من فن ابن هشام في الاستشهاد بالقرآن الكريم ، كنت على أن أشرح طرائقه فيها ، وأكثر من أمثلتها وألوانها ، ثم رأيت أن ذلك مبثوث في طول كتاب المغني ، حتى إنه قال في مقدمته : " وقد تجنّبت هذين الأمرين ( يعني : إيراد ما لا يتعلق بالإعراب وإعراب الواضحات ) ، وأتيت مكانها بما يتبصّر به الناظر ، ويتمرّن به الخاطر، من إيراد النظائر القرآنية ، والشواهد الشعرية ، وبعض ما اتفق في المجالس النحوية " ([1]) . وتجد ذلك وافراً في الجهة السابعة من الباب الخامس في ذكر الجهات التي يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها ، وهي أن يحمل كلاماً على شيء ويشهد استعمال آخر في نظير ذلك الموضع بخلافه ، والجهة الثامنة ، وهي أن يحمل على شيء وفي ذلك الموضع ما يدفعه ، وفي الفصل الطويل الذي عقده للحذف ؛ إذ كان يستدل على المحذوف وكيفية تقديره بالنظائر .
ولكني أذكر بعض ما أستحسنه من هذه الضروب ، وبعض ما وجدته في غير المغني منها . فمن ذلك :
1- فصل عقده للتدريب في ( ما ) ، وذكر فيه قوله - تعالى - : ) ما أغنى عنه ماله وما كسب ( ، وأن ( ما ) الأولى تحتمل النافية والاستفهامية ، و( ما ) الآخرة موصول اسمي أو حرفي ، وقوله - تعالى - : ) وما يغني عنه ماله إذا تردّى( ، ) ما أغنى عني ماليه ( ، و( ما ) فيهما تحتمل الاستفهامية والنافية ، ورجّح النفي بقوله - تعالى - : ) فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ( ؛ لأنه متعين فيه ([2]) . فذكر النظائر المتشابهة ، ورجّح بأحدها .
2- وقولهم : ( جاء زيد ركضاً ) يحتمل المصدرية والحالية ، ورجّح الحالية بقوله - تعالى - : ) ائتيا طوعاً أو كرهاً ، قالتا : أتينا طائعين ( ، فمجيء ) طائعين ( وهو حال، في موضع ) طوعاً أو كرهاً( يدل على أنهما حالان ([3]) .
3- وقوله - تعالى - : ) فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا ( في الأعراف ، يحتمل أن يكون الأصل : بما كذبوه ، وبما كذبوا به ، ويرجح الآخِر منهما التصريح به في سورة يونس ([4]) .
4- وتنبيهه على أنه قد يحتمل الموضع أكثر من وجه ، ويوجد ما يرجح كلاًّ منها، كقوله - تعالى - : ) فاجعل بيننا وبينك موعداً لا نخلفه ( ، فالموعد محتمل للمصدر ، ويشهد له : ) لا نخلفه نحن ولا أنت ( ، وللزمان ، ويشهد له : ) قال : موعدكم يوم الزينة ( ، وللمكان ، ويشهد له : ) مكاناً سوى ( ، وإذا أعرب ) مكاناً ( بدلاً من ) موعداً ( لا ظرفاً لـ ) نخلفه ( - تعيّن للمكان ([5]) .
5- وقوله - تعالى - : ) إلا أن يعفون ( الواو فيه لام الكلمة ، والنون ضمير النسوة ، والفعل مبني ، وأما : ( الرجال يعفون ) فالواو ضمير المذكّرين ، والنون علامة الرفع ، وهي تحذف في النصب ، نحو : ) وأن تعفوا أقرب للتقوى ( ([6]) ، فوضّح بما في الموضع نفسه ، وباللفظ نفسه .
6- ومجيء ( أخرى ) بمعنى ( آخرة ) ، نحو : ) وقالت أولاهم لأخراهم ( ، فإذا كانت كذلك جمعت على ( أُخَر ) مصروفاً ، واستدل لمجيئها كذلك بقوله - تعالى - : ) وأنّ عليه النشأة الأخرى( ، وقوله : ) ثُم الله ينشئ النشأة الآخرة ( ([7]) ، فاستدل بنظيرين متشابهين عاقبت فيهما الكلمة ما هو بمعناها .
7- وكسر همزة ( إن ) من أجل اللام بعدها ، نحو : ) والله يعلم إنك لرسوله ، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون( ، ووضح هذا بأنها فتحت مع هذين الفعلين عند فَقْد اللام ، نحو قوله - تعالى - : ) علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم( ، وقوله : ) شهد الله أنه لا إله إلا هو ( ([8]) .
· النظير في الوهم والخطأ :
ويأتي بالنظائر في أوهام العلماء في الإعراب وغيره :
1- فوهَّم الزمخشريَّ في تجويز الحال من الفاعل ومن المفعول في قوله - تعالى - : ) ادخلوا في السلم كافة ( ؛ لأن ( كافة ) مختص بمن يعقل ؛ أي لا يكون إلا حالاً من الفاعل ، قال ابن هشام : " ووَهْمُه في قوله - تعالى - : ) وما أرسلناك إلا كافة للناس( ، إذ قدر ( كافة ) نعتاً لمصدر محذوف ؛ أي : إرسالة كافة - أشدّ ؛ لأنه أضاف إلى استعماله فيما لا يعقل إخراجَه عما التُزم فيه من الحالية . ووهمه في خطبة المفصل إذ قال : محيط بكافة الأبواب - أشدّ وأشدّ ؛ لإخراجه إياه عن النصب البتة "([9]) . فذكر وهم الزمخشري في النظائر على وجه التدرّج ، كما ترى .
2- ونبّه على خطأ الرازي في تلاوة قوله - تعالى - : ) لا تتخذوا بطانة من دونكم ( ، فإن الرازي سأل : ما الحكمة في تقديم ) من دونكم( على ) بطانة( ؟ وأجاب ، وليست التلاوة كما ذكر . قال ابن هشام : " ونظير هذا أن أبا حيان فسّر في سورة الأنبياء كلمة ) زُبُراً ( بعد قوله - تعالى - : ) وتَقَطَّعوا أمرهم بينهم ( ، وإنما هي في سورة المؤمنون ، وترك تفسيرها هناك ، وتبعه على هذا السهو رجلان لَخَّصا من تفسيره إعراباً " ([10]) . فذكر خطأ الرازي في تلاوة آية ونظّره بخطأ أبي حيان في تلاوة آية أخرى ، ومتابعة من لخص من كتاب أبي حيان .
· التورية :
ومن عجيب استشهاده أنه يورِّي بمعنى الآية في الردّ على من يردّ عليه ، قال : " في كتاب المصاحف لابن الأنباري أن بعض الزنادقة تمسّك بقوله - تعالى - : ) وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة ( - في الطعن على بعض الصحابة ( يريد أن يجعل ) منهم ( للتبعيض ) ، والحق أن ( مِنْ ) فيها للتبيين لا للتبعيض ؛ أي : الذين آمنوا هم هؤلاء . ومثله : ) الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ( ، وكلهم محسن ومتّقٍ ، ) وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسّنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم( ، فالمقول فيهم ذلك كلهم كفار " ([11]) . وهو يورِّي بالآية الأخيرة عن التأنيب والتحذير لمن ذكر أنه يطعن على بعض الصحابة ، رضي الله عنهم .
· مخالفة طريقته :
على أن ابن هشام قد يخالف طريقته هذه التي شرحتها في الاستشهاد بالقرآن الكريم ، فيترك من الآي الأقرب والأنسب إلى غيره . ووجدت من ذلك :
1- استشهاده للمفعول له المستوفي للشروط بقوله - تعالى - : ) يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حَذَرَ الموت ( ، ولِمَا فقد شرط المصدرية بقوله - تعالى - : ) هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ( ، وهو هنا الضمير ، ولذا جُرَّ باللام ([12]) . وترك في آية البقرة : ) من الصواعق( .
2- واستشهاده لتعدية ( نبّأ وأنبأ ) إلى أحد المفعولين بالحرف بآي منها : ) أنبئهم بأسمائهم ، فلما أنبأهم بأسمائهم ( ، ) نبِّئوني بعلم( ، ولتعديتهما إلى المفعولين بغير حرف بقوله تعالى : ) من أنبأك هذا ؟( في سورة التحريم ([13]) . وترك في السورة نفسها التعدية بالحرف ، وذلك قوله : ) فلما نبّأت به( ، ) فلما نبّأها به ( .
3- واستشهاده لوجوب تأخر الخبر إذا اقترن بـ ( إلا ) معنى بقوله - تعالى - : ) إنما أنت نذير ( ، ولوجوب تأخره إذا اقترن بـ ( إلا ) لفظاً بقوله - تعالى - : ) وما محمد إلا رسول ( ([14]) . وترك : ) إن أنت إلا نذير( ، وهي شبه الآية الأولى .
4- واستشهاده لاستعمال ( حَسْب ) استعمال الأسماء بقوله - تعالى - : ) حَسْبُهم جهنم ( ، ) فإن حَسْبَك الله ( ([15]) ، فأتى به مبتدأ واسماً لـ ( إن ) ، وترك : ) حَسْبُك الله ( قريباً من موضع الأنفال المذكور .
خاتمة بتنبيهين
أحدهما : أني لا أزعم أن هذه المواضع كلها وشبهها مما استخرجه ابن هشام ولم يُسبق إليه ، فلا أشك في أنه أخذ بعضها عمن سلف ، ولكنّ الذي أنسبه إليه عنايته بهذا الفنّ ، وتتبعه له ، وحرصه عليه ، واتخاذه طريقةً ومنهجاً في التأليف لا يكاد يتركه .
الآخِر : أني إنّما وَفَرْتُ الأمثلة لهذا المنهج وكثّرتها للإغراء بالانتفاع بها في تعليم العربية ، وبمتابعة ابن هشام في هذا الفن ، فيُنتحى نَحْوُه ، ويُحتذى حَذْوُه ، ويُقاس على حاضر ما ذُكِرَ غائبُه ؛ إذ كان القرآن العظيم لا تنقضي عجائبه .
والله أعلم
تم البحث بإذن الله وحمده
بيان الطبعات
- الإعراب عن قواعد الإعراب ، تحقيق د. علي فودة نيل ، جامعة الرياض ، 1401 هـ = 1981م .
- أوضح المسالك ، إلى ألفية ابن مالك ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ، المكتبة التجارية ، القاهرة ، 1967م .
- تخليص الشواهد ، وتلخيص الفوائد ، تحقيق د. عباس مصطفى الصالحي ، دار الكتاب العربي ، بيروت ، 1406 هـ = 1986م .
- شرح بانت سعاد ، دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة ، 1345هـ .
- شرح شذور الذهب ، في معرفة كلام العرب ، تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد ، المكتبة التجارية ، القاهرة ، 1953م .
- شرح قطر الندى ، وبلّ الصدى ، تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد، المكتبة التجارية ، القاهرة ، ط 11 ، 1383 هـ = 1963م .
- شرح اللمحة البدرية ، في علم العربية ، تحقيق د. صلاح راوي ، القاهرة ، ط 2 ، 1984 ـ 1985م .
- مغني اللبيب ، عن كتب الأعاريب ، تحقيق مازن المبارك ومحمد علي حمد الله ، دار الفكر ، بيروت ، ط 3 ، 1972م .
- نُزْهَة الطَّرْف ، في علم الصرف ، تحقيق د. أحمد عبد المجيد هريدي ، مكتبة الزهراء ، القاهرة ، 1410 هـ = 1990م .
[1]- المغني 16 .
[2]- المغني 414-415 .
[3]- المغني 729 ، وشرح الشذور 31 .
[4]- المغني 736 .
[5]- المغني 776 .
[6]- الأوضح 1/75 .
[7]- الأوضح 4/123 ـ 124 .
[8]- شرح القطر 163 .
[9]- المغني 732 .
[10]- المغني 504 .
[11]- المغني 421 .
[12]- شرح الشذور 227 .
[13]- شرح الشذور 376 .
[14]- الأوضح 1/208 .
[15]- الأوضح 3/163 .