يقول علي الطنطاوي رحمه الله :
دعا رئيس الجامعة السورية في الأسبوع الماضي إلى المحاضرة التي سيلقيها الدكتور طه حسين حول : " بعض خصائص الشعر العربي القديم في سوريا " ، وكانت الدعوة ببطاقة من جنس بطاقات الأعراس ، دعاه فيها " عميد الأدب العربي ". ورأى الناس هذا اللقب ، ورأوا الأزمة المصطنعة في توزيع البطاقات ، وسمعوا طبول الدعايات الضخمة التي قُرعت لهذه المحاضرة ، فحسبوا أنهم سيلقون فيها ليلة العمر ، فتسابقوا وازدحموا عليها ، وبيعت البطاقة بليرة، وظنوا أن الدكتور سيريهم السُّها ، ويكشف لهم أمريكا ، فإذا هو يريهم القمر ، ويكشف لهم أسبانيا.
وإذا هو يبدأ -على عادته دائما- بهذا اللَّت والعجن ، وأنه : " جاء ليتحدث عن بعض خصائص الشعر العربي القديم في سوريا ، وما كان يجب أن يتحدث عن بعض خصائص الشعر العربي القديم في سوريا ، وإن كان يسعده أن يتحدث عن بعض خصائص الشعر العربي القديم في سوريا ، لأنه ليس من السهل ولا من الميسور الحديث عن بعض خصائص الشعر العربي القديم في سوريا ، وأنه يجد المشقة والعسر في الحديث عن بعض خصائص الشعر العربي القديم في سوريا ، ولكن هذه المشقة وهذا العسر يُحتملان في سبيل الحديث عن بعض خصائص الشعر العربي القديم في سوريا ... ".
وبعد هذا الدهليز الملتوي الملتف الذي يمتد ميلاً أوصلنا إلى دار ذي ثلاث غرف ، فقال كلاماً معاداً مكرراً موجوداً في كل كتاب من كتب الأدب المؤلفة لصفوف البكالوريا. ولحن لَحْنات في الإلقاء، وجاء –على عادته أيضاً– بأحكام قائمة على الوهم ، مبنية على الباطل ، فتوهم أن عدي بن الرقاع لم يقل بيته المشهور ارتجالاً:
تُزجي أَغنَّ كأن إبرةَ رَوْقِهِ *** قَلَمٌ أصاب من الدواة مِدادَها
ولكن بعد طول الروية والبحث والحذف والتصحيح. وما دام قد ثبت أن عَدِيّاً لم يأت بهذا البيت الواحد إلا بعد الروية ، فقد ثبت – قياساً عليه – أن شعر عَدِيّ كله شعر روية وبحث ، وما دام شعر عَدِيّ شعر روية وبحث، فالشعر الشامي كله شعر بحث وروية وإعداد.
وهكذا صدر الحكم الطاهوي !
ودليل طه أن طه حسين نفسه لا يستطيع أن يأتي بمثل هذا التشبيه البارع ارتجالاً ، فيجب أن يكون عَدِيّ – الشاعر المطبوع – مثل طه ! ، ونسي طه أنه لا يستطيع أن يأتي بمثل ذلك ولو بحث وفكر ، وأن أسلوبه أسلوب علمي خال من كل مزايا الأساليب الأدبية الحافلة بالصور، المليئة بالتشبيهات والاستعارات.
تخيل حبة ، فبنى قبة ، والقبة ولدت قِباباً ، والقباب شكلت مدينة .... ، وما كانت المدينة قط إلا في هذا الخيال السقيم.
وما لقيتُ أحداً ممن سمع المحاضرة إلا أحس أنه خدع بهذه الدعاية ، وأن المحاضرة تافهة الموضوع ، فارغة المعاني ، وإن إلقاء المحاضر – على جودته – إلقاء نمطي بلهجة واحدة ونغمة مستمرة ، لا يظهر عليه أثر الحياة ، ولا تتبدل رنته في استفهام ولا تقرير ولا مفاجأة ولا تعجب ، وأن محطاته كلها واحدة ، تنتهي بِشَدَّة على الحرف منكرة ، وقلقلة في غير موضع قلقلة.
ولكن كل واحد من السامعين كان يخشى أن يصرح بما أحس به -بعد هذه الدعاية المسرحية التي كانت للمحاضرة- فيتهم بعدم الفهم . ولو كانت المحاضرة كلمة ألقيت في حفلة شاي بمناسبة عارضة لكان للرجل بعض العذر، ولكنه موضوع أعده من أكثر من سبع سنين ، وقد خَبَّر به صديقي الأستاذ سعيد الأفغاني سنة 1947م وقال له : إنه يريد أن يحاضر به في دمشق ، وخبرني الأستاذ الأفغاني بهذا من سنين.
ولا عجب أن يجيء هذا من طه ، ولكن العجب من أهل الشام ، يَدَعون الكَفيَّ القدير من أهل بلدهم ، ويُجَنُّون بكل قادم عليهم فيرفعونه إلى حيث لا تحمله أجنحته ، فيوماً ترتج البلد ويطير العقل منها لأن طه حسين جاء يحدثها بما يعرفه كل مدرس للأدب الثانوي وكل طالب للأدب في الجامعة ، ويوما تقيم مهرجاناً لأبي ماضي ، ويوما تبتدع عيدأً قومياً لإحياء ذكرى هذا المأفون ابن سرجون !
فمتى يعقل الشاميون ؟!
المصدر :
(فصول في الثقافة والأدب) لعلي الطنطاوي ، جمع وترتيب حفيد المؤلف : مجاهد ديرانية.