قال رحمه الله في شرحه على عمدة الأحكام ( 3 / 1163 ) :
وقوله في حديث عائشة : " إنَّ أفلحَ أخا أبي القعيس استأذن عليَّ بعدما أُنزل الحجاب " وكان عادتهم في الجاهلية لا يحتجب النساء عن الرجال ، مع ما فيهم من الغيرة الشديدة ؛ خصوصًا الأحرار ، واستمرت هذه العادة في أول الإسلام ، فلم يؤمر به في مكة ، ولا غرابة في ذلك ؛ فإنَّ كثيرًا من [ الشرائع ] التي هي أعظم من ذلك لم يؤمر بها إلا بعد الهجرة ؛ كالصيام والحج والزكاة ، فكانت الشرائع تنزل شيئًا فشيئًا مدة ثلاثٍ وعشرين سنة ؛ لأجل تدريج الناس ؛ ليتقنوا الشرائع إلى غير ذلك من الحكم .
ولم تنزل آية الحجاب إلا في المدينة ، وسبب نزولها : عمر ؛ فإنه قال : " يا رسول الله ! نساؤك يدخل عليهن البر والفاجر ، فلو أمرتهن أنْ يحتجبن ؟" فنزلت آية الحجاب ، فاحتجب نساء الصحابة والتابعين وتابعيهم ، واستمر على ذلك عمل القرون المفضلة ، فكان كالإجماع عندهم ؛ حتى شذَّ بعض الفقهاء فقال بعدم وجوبه ، فَنَمَا هذا الأمر إلى أنْ عُدَّ هذا القول الباطل خلافًا في هذا الزمان ، وأخذَ بِهِ كثيرٌ من المنتسبين للعلم ؛ بل ومن العلماء الذين يعدون علماء في هذا الزمان ، فأخذوا ينشرون على صفحات المجلات والجرائد الإسلامية إباحةَ السفور للنساء .
والحال أنَّ هذا قولٌ باطل ، لا يُعَدُّ خلافًا في المسألة ؛ لأنه خارق لِمَا أَجمعَ عليه الصحابة وسائر القرون المفضلة ، فلو أنَّ أحدًا استعمله في تلك الأزمنة ، لأنكروا عليه أشدَّ الإنكار ، ولعدُّوهُ مخالفًا لِمَا عُلِمَ بالضرورة وجوبه ، هذا مجرد فعله ، فضلاً عن القول بجوازه وإباحته .
والعجب أنَّ العلماء من المصريين نصروا هذا القول نصرًا عظيمًا ، مع أنه مخالف لصريح القرآن ، ولا نقول هذا قدحًا بهم ، ولكن نبين أنَّ هذا القول باطل ، وإنما دخلَ عليهم هذا من التعشُّق لحالة الفرنج ، وتسميتهم تلك العوائد تمدنًا ، وإنكارهم على من خالفهم ، وهذه الأحوال أعظم طريق يتوصل بها الفرنج إلى إخراج المسلمين من دينهم ؛ فإن المبشرين – وهم الدعاة الذين بثوهم في البلاد ، وفتحوا لهم المدارس ، واتفقت دول الفرنج على مساعدتهم – مقصودهم : إخراج المسلمين عن دينهم ، وإذهاب روح الإسلام عنهم ؛ ومن أعظم الطرق لهم : هذه المسألة ، ونشر زيهم ولغتهم ، إلى غير ذلك من الطرق ، وليس مقصودهم أن يقولوا : هم نصارى ؛ بل يكفيهم أن يسلبوهم دينهم ، ولو قالوا : إنهم مسلمون .