يقال له: الترك فعل.ومن ذلك: ماذا لو استدلّ المعترض بالثواب على ترك المعاصي بقصد الطاعة؟
قال تعالى يذم أحبار اليهود ((كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ )) (المائدة 79)
فوصف عدم التناهي عن المنكر بأنه فعلٌ خبيث يفعلونه.
وقال تعالى في وصف المنافقين: ((نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) [التوبة : 67]
فعدَّ النسيان - وهو ترك - عملا، ورتب عليه جزاءا من جنسه ..
وكذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ترك شيئا لله أبدله الله خيرا منه"
فهذا الترك كان جزاؤه خيرا من جنس المتروك.. ولكن يظهر شيء من مشابهة الجنس في مجرد المفاضلة بين هذا المتروك وما يجازي الله به التارك.. فلو شاء لقال: "أبدله الله الجنة" أو "أبدله الله ما لم يخطر على قلب بشر"، وهذا ولا شك أفضل من ذلك المتروك أيا ما كان! ولكن اقتضت الحكمة أن يكون اللفظ على وجه المفاضلة الخاصة على هذا النحو حتى يتحرك ذهن العبد كلما ترك شيئا تعلق به لله، إلى أن له عند الله ما هو خير منه في علة التعلق نفسها، أي في الشهوة التي يجدها منه، وهذا من الموافقة في الجنس.
ونظائر ذلك كثير.
ويمكن أن يضاف إلى ما تفضلتَ به من جواب على المعترض أن كون الجزاء من جنس العمل هذا أظهر - في نظرنا معاشر البصر القاصرين - على معنى العدالة في الجزاء نفسه من خلاف ذلك. وليس لازم ذلك أن العمل الذي يجازى عليه العبد من الله بخلاف ذلك لا يكون جزاؤه عادلا، فتقدير الفعل - سواءا بالمقارنة بغيره من الأفعال أو تقديره في ذاته استقلالا - ومن ثم تقدير ما يكافئة من الجزاء مكافأة عادلة، هذا لا نملك نحن معاشر بني آدم إليه إلا طريق الظن البشري القاصر! وإنما نستشعر المناسبة عندما نرى جنس الجزاء مشابها لجنس العمل، ولكنه لا يلزم أن يكون كذلك، وقد لا يكون العدل مع رجل بعينه في جزائه أن يكون الأمر كذلك أصلا، فهذا علمه عند الله وحده، الذي يعلم الغيب وأخفى، سبحانه وتعالى.
ولكن القصد أن موافقة جنس الجزاء لجنس العمل تظهر فيها معاني العدالة ظهورا مباشرا يسهل على كل أحد أن يراه.
ولهذا لما اجتهد العلماء في بيان الحكمة من كونه تعالى قد كتب على من مات كافرا الخلود في النار، فجعل لخطيئة قصيرة الأجل جزاءا أبديا، ذكروا أن سبب ذلك كون الكافر عند موته على ما مات عليه ما كان ينوي أن يقبل الحق الذي تبين له مهما مد الله له من العمر في هذه الدنيا، ولو عُمِّر آلاف السنين! فكان هذا الفعل منه (فعل ترك الحق بعدما تبين له والبقاء على ما هو عليه من الكفر، مع إضمار نية البقاء على ذلك الترك والجحود أبدا بلا انتهاء) مستحقا لعقوبة من جنسه، وهي أن يعذب على ذلك أبدا بلا انتهاء! فكان الجزاء من جنس ذلك، والله أعلم.