تذكير النابهين بسير أسلافهم

حفاظ الحديث السابقين واللاحقين



المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم " أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولوكره المشركون ".

وليخرج الناس من الظلمات إلى النور، من ظلمات الشرك والكفر والجهل إلى النور التوحيد والإيمان والعلم.

جاء بأعظم رسالة وأعلاها مكانة، ولهذه العظمة وهذه المكانة وعد الله وعداً قاطعاً بحفظها فقال: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ).

ولتحقيق هذا الوعد القاطع الصادق كان كل ما قامت به الأمة الإسلامية من جهود عظيمة واهتمام بالغ لا يعرف الأقل منه لأمة من الأمم ولا لدين من الأديان بحفظ القرآن العظيم في الصدور والمصاحف وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار في الخلوات والجلوات وفي البيوت والمساجد والمعاهد.

والاهتمام بدراستة وتفسيره واستنباط أحكامه والاعتبار بقصصه وأمثاله وعظاته، والتأليف في شتى العلوم التي تخدمه، وتبين بلاغته وإعجازه، من لغوية وبلاغية وتاريخية وغيرها.

فما من سورة من سوره، ولا آية من آياته، ولا كلمة من كلماته إلا وقد دار حولها بحث وكان لها شأن ونبأ.

وقد شرف الله محمدا خاتم النبيين وأكرم الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- وأعلا مكانته، وأنزله المنـزلة الكريمة التي يستحقها ، فأسند إليه مهمة بيان ما في القرآن من إجمال ، وشرح ما يحتاج إلى شرح وتفصيل.

قال تعالى ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) الآية([1]).

فقام صلَّى الله عليه وسلَّم بما أسند إليه من واجب أكمل قيام بأقواله وأفعاله وأحواله وجهاده العظيم وسيرته العطرة حتى ترك الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

وأسند تبليغ تلك الرسالة العظيمة، إلى خير أمة أخرجت للناس، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: " بلغوا عني ولو آية ([2])"، " فليبلغ الشاهد الغائب ([3])".

فقام الصحابة الكرام بتبليغ تلك الرسالة وأداء تلك الأمانة، على أحسن الوجوه وأقومها وتلقت ذلك الأمة الإسلامية جيلا عن جيل حتى وصلت إلينا غضة طرية، ولن تزال كذلك حتى يأذن الله لهذا العالم بالزوال، ولشمس حياة البشرية بالأفول.

ولقد حظيت السنة المطهرة : بيان الرسول وشرحه للقرآن، بحظها الوافر من وعد الله لتنـزيله وذكره بالحفظ، فإنها والقرآن الكريم من مشكاة واحدة وضياع شئ منها وهي بيانه وشرحه ينافي ما وعد الله به من حفظ للقرآن الكريم.

وإذن فالسنة داخلة في ذلك الوعد الصادق بالحفظ والضمان الأكيد.

فكان من مظاهر تنفيذ ذلك الوعد ما نراه ونلمسه من جهود بذلت لحفظها وصيانتها والذود عن حياضها.

سرح طرفك في ذلك التراث العظيم، وقلب صفحاته لترى العجب العجاب، وما يدهش الألباب.

وخذ ما شئت من نصوص هذه السنة المطهرة وتابعه في عشرات الكتب فستجد أنه ما من نص إلا وله شأن وأي شأن، ودراسة وتحليل واستنباط وتعليل وتمحيص وتحقيق وأخذ وإعطاء .

ولقد أعد الله لحفظ هذه السنة المطهرة وصيانتها رجالا صنعهم على عينه وأمدهم بشتى المواهب النفسية والعقلية، والذكاء المتوقد، والحفظ المستوعب مما يبهر العقل، ويستنفد العجب، ويجعل في المطلع على أخبارهم وأحوالهم ما يملأ قلبه يقينا بأن هؤلاء العباقرة ما أعدوا هذا الإعداد العجيب إلا لغاية سامية هي إنفاذ وعد الله الكريم (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ).

فكان من آثار هؤلاء العظماء ما تزخر به المكتبات الإسلامية اليوم وقبل اليوم من مؤلفات قيمة مختلفة المناهج والمواضيع متحدة الغاية وهي خدمة السنة المطهرة.

فمؤلفات وضعت على المسانيد، وجوامع وسنن على الأبواب العقائدية والتاريخية والفقهية ومستخرجات وأجزاء وتخريجات وشروح، وتأليف في الموضوعات وفي الناسخ والمنسوخ، وفي تواريخ الرجال وجرحهم وتعديلهم، وفي طبقات حفاظهم وبيان منازلهم وذكر شيوخهم ومن أخذ عنهم مع ذكر وفيات من عاصرهم من الحفاظ والمسندين وأهل العلم في الجملة، ومعاجم ومشيخات ومسلسلات، وأخرى في غريب الحديث وأخرى في علل الأسانيد من حيث الإرسال والوصل والرفع والوقف([4]).

إن المسلم الصادق ليحب لهذه الأمة كل ما يرفع من شأنها في الدنيا والآخرة ويسعى بكل ما يستطيع إلى ما يدفع هذه الأمة إلى تحقيق هذه الغاية، ويدرك أنه لا شيء أوجب عليهم وأحرى بأن يحقق لهم هذه الغاية هو العودة الجادة إلى التمسك بكتاب ربهم وسنة نبيهم والاحتفاء بهما علماً وعملاً واعتقاداً، والسير على طريقة أسلافهم في كل ذلك ومن ذلك الاهتمام بهذه السنة العظيمة وحفظها في صدورهم وفقهها والعمل بها في كل شئون حياتهم فيخرج منها الفقهاء والعباد والمحدثون الحفاظ.

فما هي الوسائل التي ينبغي البدء بها والسعي لتحقيقها؟.

الجواب :

1- حفز الهمم للحاق بأعلام الحديث وحفاظه في الاهتمام بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظه والتفقه فيه والعمل به، وتعليمه الناس ونشره ليتسنم المسلمون مكانة أسلافهم فيخرج منهم الأعلام الحفاظ والجهابذة النقاد.

2- إبعاد شبح الكسل والخمول عن شباب الأمة الذي ينفث سمومه الكسالى وعميان البصائر وقاصري الهمم وأهل الأهواء الذين يوهمون الناس أن زمان الاهتمام بحفظ الحديث والعناية بدراسة أسانيده ونقد رواته وجرحهم وتعديلهم بل وجرح غيرهم وتعديلهم قد ولى من قرون، فعلى الأمة عند هذه الأصناف أن تنام وألا تفكر في سلوك الميادين التي كان السلف يسلكونها لأنها أصبحت في نظر هؤلاء من الميادين المهلكة أو من المستحيلات فيجب الحجر والحظر على من يسلكها أو يفكر في سلوكها.

3- ولا يتحقق هذا إلا بتوفير وتهيئة البيئات الصالحة والحرص الشديد على تحقيق هذه الغاية.

ومن السبل إلى ذلك اختيار أصحاب المواهب والذكاء من كليات الحديث وأصول الدين ودور الحديث وغيرها وتوجيههم للعناية القوية بحفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والدراسة الجادة لعلومها وتفريغهم لذلك مع الإشراف الدقيق عليهم ومتابعتهم الجادة بالاختبارات لمدة لا تقل عن عشر سنوات وهي المدة التي يستغرقها محضري الماجستير والدكتوراة، وكم ستكون الفروق العلمية بين هذه الفئات المهتمة بدراسة السنة وعلومها وبين محضري الرسائل واضحة بادية، ولا يشغل هذه الفئات بغير ما فرغوا وهيئوا له.

4- تهيئة عامة لسائر المسلمين لينخرط شتى أصناف الناس وخاصة الأذكياء منهم في طلب السنة وعلومها وآلاتها على حساب أنفسهم عن طريق المدارس والمساجد ويجددون النشاط في الرحلات إلى علماء السنة والتوحيد وتسهل لهم هذه الرحلات ابتغاء وجه الله وحباً في نشر الإٍسلام والسنة في أرجاء العالم.

ولتحقيق هذه الغاية أزجي إلى طلاب الحديث والسنة وغيرهم من أهل العزائم بحثاً أرجو أن يحفزهم إلى الجد في طلب العلم والعناية الكبيرة بسنة نبيهم وعلومها اقتفاءً لآثار أسلافهم الكرام من أئمة الحديث وحفاظ السنة السابقين واللاحقين القائمين بها علماً وعملاً واعتقاداً ومنهجاً ومن باب الذكرى (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين).

هذا البحث اخترته لهم من " تذكرة الحفاظ([5]) " للحافظ الذهبي، ذلكم الكتاب العظيم الذي دون فيه تراجم حفاظ السنة وأئمتها على طبقات بلغت إلى عصره إحدى وعشرين طبقة يذكر فيها أحوالهم ومروياتهم وشيوخهم وتلاميذهم.

حيث اخترت من كل طبقة أربعة أو خمسة من الحفاظ ليسهل على طلاب العلم والسنة تصور هذه الطبقات على اختلاف وامتداد عصورها.

وليدركوا مدى ترابط وتسلسل هذه الطبقات واتصال وتسلسل أسانيدها إلى يومنا هذا على قلة وغربة في الطبقات الأخيرة.

وهذا الاتصال والتسلسل مصداق لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:

" لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم في طاعته " ولا يتحقق هذا الوصف والثناء إلا لمن يعتني بالقرآن والسنة علماً وعملاً واعتقاداً.

ولقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى يأتي وعد الله ".

وهذا لا يكون إلا لأهل الحديث بشهادة علماء الأمة السابقين واللاحقين.

قمت بذلك تسهيلاً على القراء ولعل ذلك يقودهم إلى الاطلاع الشامل على كل ما دونه الذهبي وغيره من الطبقات المستوعبة لجميع حفاظ الأمة.

الطبقات.

ومن المناسب أن أسرد في طليعة هذا البحث ما يتيسر ذكره من المؤلفات في هذا النوع

1- الطبقات للإمام مسلم بن الحجاج.

2 - الطبقات للإمام أبي عبد الرحمن النسائي.

3 - الطبقات الكبرى لأبي عبد الله محمد بن سعد.

4 - وطبقات التابعين لأبي حاتم محمد بن إدريس الرازي.

5 - طبقات الرواة لأبي عمرو خليفة بن خياط.

6 - وطبقات القراء لأبي عمرو عثمان بن سعيد بن عثمان الأموي مولاهم القرطبي.

7 - وطبقات الأصفهانيين لأبي الشيخ ابن حيان.

8 - طبقات الرجال في ألف جزء لأبي الفضل علي بن الحسين الفلكي.

9 - طبقات الحفاظ للذهبي.

10 - طبقات علماء الحديث لابن عبدالهادي.

11 - طبقات الحفاظ للسيوطي،وغيرها مما يكثر.

انظر الرسالة المستظرفة: ص(104-105).

تعريف الطبقة:

والطبقة هم القوم المتشابهون وقد يكونان من طبقة باعتبار ومن طبقتين باعتبار كأنس وشبهه من أصاغر الصحابة هم مع العشرة في طبقة الصحابة وعلى هذا الصحابة كلهم طبقة والتابعون ثانية وأتباعهم ثالثة، وهلم جرا، وباعتبار السوابق تكون الصحابة بضع عشرة طبقة كما تقدم، ويحتاج الناظر فيه([6]) إلى معرفة المواليد والوفيات، ومن رووا عنه وروى عنهم.

أقول:

وقد جعل الذهبي الصحابة الكرام كلهم طبقة واحدة هي الأولى وعلى رأسهم أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وباقي العشرة -رضي الله عنهم أجمعين-.

وجعل التابعين ثلاث طبقات كبرى ووسطى وصغار التابعين، وأدمج بعضهم في أتباع التابعين.

فعلى رأس الكبرى من التابعين علقمة بن قيس وأبي مسلم الخولاني ومسروق بن الأجدع وعبد الرحمن بن غنم وسعيد بن المسيب.

والطبقة الثالثة عنده هي: الوسطى من التابعين وعلى رأسهم الحسن البصري وأبو الشعثاء جابر بن زيد، وإبراهيم التيمي وإبراهيم النخعي وعلي بن الحسين وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين -رحمهم الله جميعاً-.

والطبقة الرابعة وهي: الثالثة من التابعين وعلى رأسهم مكحول والزهري وأبو إسحاق السبيعي والحكم بن عتيبة، وعمر بن عبد العزيز، وعمرو بن مرة والقاسم بن مخيمرة وقتادة بن دعامة وأبو جعفر الباقر –رحم الله الجميع-.

والطبقة الخامسة وهي: الكبرى من أتباع التابعين وهو نيف وسبعون إماماً وعلى رأسهم عبيد الله بن عمر بن حفص ابن عاصم بن عمر بن الخطاب، وعقيل بن خالد الأموي من موالي عثمان -رضي الله عنه – ويونس بن يزيد ومحمد بن الوليد الزُّبيدي، وهشام الدستوائي ومحمد بن عجلان وجعفر الصادق، وأبو حنيفة، وابن جريج والأوزاعي، وشعبة بن الحجاج وسفيان الثوري ومالك بن أنس الإمام.

والطبقة السادسة ([7]) وهي الوسطى من أتباع التابعين وهم تسعة وسبعون إماماً وأدمج فيهم من رأى الواحد والاثنين من الصحابة، وعلى رأسهم الفضيل بن عياض وعبد الرحمن بن أبي الزناد، وهشيم بن بشير وأبو الأحوص سلام بن سليم وإسماعيل بن أبي كثير وإبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف، وإسماعيل بن عياش ويزيد بن زريع وخالد بن عبد الله الطحان وسفيان بن عيينة وأبو بكر بن عياش وعبد الله بن المبارك ويزيد بن هارون.

والطبقة السابعة وهي: الصغرى من أتباع التابعين وعددهم كثير وعلى رأسهم عبد الرحمن ابن مهدي ويعلى بن عبيد الحافظ، ووهب بن جرير وعبد الصمد بن عبد الوارث وحجاج ابن محمد الأعور وأبو عامر العقدي، وحسين الجعفي وأبو داود الطيالسي وعبد الرحمن بن القاسم والإمام محمد بن إدريس الشافعي.

والطبقة الثامنة وعدتهم مائة وعشرون نفساً وهم: كبار الآخذين عن تبع الأتباع وعلى رأسهم الإمام أحمد وعبد الله بن الزبير الحميدي ويحيى بن يحيى التميمي النيسابوري وسعيد بن منصور، وأبو عبيد القاسم بن سلام، ونعيم بن حماد، ويحيى بن بكير ومسدد بن مسرهد، ومحمد بن سعد صاحب الطبقات، وحيوة بن شريح وعلي بن المديني ويحيى بن معين وأبو بكر بن أبي شيبة وإٍسحاق بن إبراهيم.

والطبقة التاسعة وهي: الوسطى من الآخذين عن تبع الإتباع وعدتهم مائة وستة أنفس وعلى رأسهم محمد بن يحيى الذهلي وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ومحمد بن أسلم الطوسي، وأحمد بن سعيد بن صخر، وحجاج بن الشاعر، ومحمد بن إسماعيل البخاري وأبو زرعة الرازي، وأبو حاتم الرازي، ومسلم بن الحجاج، وأبو داود السجستاني.

والطبقة العاشرة وهم: صغار الآخذين عن تبع الأتباع ومن عاصرهم أورد منهم الحافظ الذهبي تسعة وتسعين نفساً منهم بقي بن مجلد ومحمد بن عيسى بن سورة الإمام الترمذي وأبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة، والحافظ أحمد بن سلمة رفيق مسلم، والحافظ أبو بكر بن أبي عاصم والحافظ صالح بن محمد جزرة، ومحمد بن نصر المروزي وأبو بكر البزار -رحم الله الجميع-.

ولا شك أن أهل هذه العصور أفضل ممن جاء بعدهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يأتي بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون وينذرون ولا يوفون ويكثر فيهم السمن ".

ووجود هذه الأصناف الرديئة في المتأخرين لا ينفي وجود كثيرين من الأخيار والعلماء الفقهاء والحفاظ الكبار بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي وعد الله تعالى ".

ففي كل عصر منهم كثرة وقد ذكر الحافظ الذهبي وغيره الكثير والكثير منهم والحمد لله رب العالمين.

وهنا لا بد من بيان أمرين:

1- بيان أهمية الإسناد وأنه خصيصة من خصائص هذه الأمة المحمدية.

2- بيان من هو الحافظ عند أهل الحديث.

والإسناد هو الطريق الموصلة إلى المتن، والمتن هو غاية ما ينتهي إليه الإسناد من الكلام وهو إما أن ينتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى غيره من صحابي أو تابعي فالأول المرفوع والثاني الموقوف والثالث المقطوع، ومن دون التابعي فيه مثله أي من أتباع التابعين فمن بعدهم، انظر النـزهة لابن حجر (ص57-58).

والإسناد من خصوصيات هذه الأمة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره والجرح والتعديل من لوازمه.

وقد نوه عدد كثير من العلماء بأهمية الإسناد، وكونه من خصوصيات هذه الأمة.

قال أبو محمد ابن حزم مبيناً وجوه النقل عند المسلمين:

" ونحن إن شاء الله تعالى نذكر صفة وجوه النقل الذي عند المسلمين لكتابهم ودينهم ثم لما نقلوه عن أئمتهم حتى يقف عليه المؤمن والكافر والعالم والجاهل عياناً إن شاء الله تعالى فيعرفون أين نقل سائر الأديان من نقلهم فنقول وبالله تعالى التوفيق.

إن نقل المسلمين لكل ما ذكرنا ينقسم أقساماً ستة:

أولها: شيء ينقله أهل المشرق والمغرب عن أمثالهم جيلاً جيلاً لا يختلف فيه مؤمن ولا كافر منصف غير معاند للمشاهد وهو القرآن المكتوب في المصاحف في شرق الأرض وغربها لا يشكون ولا يختلفون في أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أتى به وأخبر أن الله -عز وجل- أوحى به إليه وأن من اتبعه أَخذه عنه كذلك ثم أَخذ عن أولئك حتى بلغ إلينا ومن ذلك الصلوات الخمس فإنه لا يختلف مؤمن ولا كافر ولا يشك أحد أنه صلاها بأصحابه كل يوم وليلة في أوقاتها المعهودة وصلاها كذلك كل من اتبعه على دينه حيث كانوا كل يوم هكذا إلى اليوم لا يشك أحد في أن أهل السند يصلونها كما يصليها أهل الأندلس وأن أهل الأرمينية يصلونها كما يصليها أهل اليمن، وكصيام شهر رمضان فإنه لا يختلف كافر ولا مؤمن ولا يشك أحد في أنه صامه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وصامه معه كل من اتبعه في كل بلد كل عام ثم كذلك جيلاً جيلاً إلى يومنا هذا، وكالحج فإنه لا يختلف مؤمن ولا كافر ولا يشك أحد في أنه عليه السلام حج مع أصحابه و أقام المناسك، ثم حج المسلمون من كل أفق من إلا فاق كل عام في شهر واحد معروف إلى اليوم وكجملة الزكاة، وكسائر الشرائع التي في القرآن من تحريم القرائب والميتة والخنـزير وسائر شرائع الإسلام وكآياته من شق القمر ودعاء اليهود التي تمنى الموت وسائر ما هو في نص القرآن مقروء ومنقول.

وليس عن(1) اليهود ولا عند النصارى من هذا النقل شيء أصلاً؛ لأن نقلهم لشريعة السبت وسائر شرائعهم إنما يرجعون فيها إلى التوراة ويقطع نقل ذلك ونقل التوراة إطباقهم على أن أوائلهم كفروا بأجمعهم وبرؤُا من دين موسى وعبدوا الأوثان علانية دهوراً طوالاً ومن المحال أن يكون ملك كافر عابد أوثان هو وأمته كلها معه كذلك يقتلون الأنبياء ويخنقونهم ويقتلون من دعا إلى الله تعالى يشتغلون بسبب أو بشريعة مضافة إلى الله سبحانه تعالى عن هذا الكذب الذي لا شك فيه.

ويقطع بالنصارى عن مثل هذا عدم نقلهم إلا عن خمسة رجال فقط وقد وضح الكذب عليهم إلى ما أوضحنا من الكذب الذي في التوراة والإنجيل القاضي بتبديلهما بلا شك.

والثاني: شيء نقلته الكافة عن مثلها حتى يبلغ الأمر كذلك إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ككثير من آياته ومعجزاته التي ظهرت يوم الخندق وفي تبوك بحضرة الجيش وككثير من مناسك الحج وكزكاة التمر والبر والشعير والورق والإبل والذهب والبقر والغنم ومعاملته أهل خيبر وغير ذلك مما يخفى على العامة وإنما يعرفه كواف أهل العلم فقط وليس عند اليهود والنصارى من هذا لنقل شيء أصلا لأنه يقطع بهم دونه ما قطع بهم دون النقل الذي ذكرنا قبل من إطباقهم على الكفر الدهور الطوال وعدم ايصال الكافة إلى عيسى عليه السلام.

والثالث: ما نقله الثقة عن الثقة كذلك حتى يبلغ إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يخبر كل واحد منهم بإسم الذي أخبره ونسبه وكلهم معروف الحال والعين والعدالة والزمان والمكان على أن أكثر ما جاء هذا المجيء فإنه منقول نقل الكواف إما إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم من طرق جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وإما إلى الصاحب وأما إلى التابع وإما إلى إمام أخذ عن التابع يعرف ذلك من كان من أهل المعرفة بهذا الشأن والحمد لله رب العالمين وهذا نقل خص الله تعالى به المسملين دون سائر أهل الملل كلها وأبقاه عندهم غضاً جديداً على قديم الدهور مذ أربعمائة عام وخمسين عاماً في المشرق والمغرب والجنوب والشمال يرحل في طلبه من لا يحصى عددهم إلا خالقهم إلى الآفاق البعيدة ويواظب على تقييده من كان الناقد قريباً منه قد تولى الله تعالى حفظه عليهم والحمد لله رب العالمين فلا تفوتهم زلة في كلمة فما فوقها في شيءٍ من النقل إن وقعت لأحدهم ولا يمكن فاسقاً أن يقحم فيه كلمة موضوعة ولله تعالى الشكر وهذه الأقسام الثلاثة التي نأخذ ديننا منها ولا نتعداها إلى غيرها والحمد لله رب العالمين "([8]). وذكر بقية الأقسام فلا نطيل بذكرها.
يتبع ..