مسائل الفروع الواردة في مسائل العقيدة
- جمعا ودراسة -
فضيلة الشيخ الدكتور:عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد :
فمما يلحظه الباحث ما تحويه مصنفات السلف الصالح في الاعتقاد من مسائل كثيرة في الفروع والآداب والسلوك ، فنجد أن الإمام الطحاوي [1] - مثلاً – قرر مشروعية المسح على الخفين ، وأن في دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات ، كما جاء في عقيدته المشهورة ، وضمّن الإمام أبو عثمان الصابوني [2] في (( عقيدة أهل الحديث )) جملة من الآداب والفروع والأخلاق ، وكذا قوام السنة الأصفهاني [3] في كتابه (( الحجة في بيان المحجة )) وغيرهم كثير .بل نجد أن أئمة السلف الصالح – في عهد مبكر – قد قرروا مسائل فقهية وآداباً شرعية ضمن عقائدهم ، كما في عقيدة الإمام سفيان الثوري [4] وسهل بن عبد الله التستري [5] ، وأبو حنيفة النعمان [6] وأحمد بن حنبل [7] ، وعلي بن المديني [8] ونحوهم .
ويقتصر هذا البحث على جمع ودراسة أهم المسائل الفقهية الواردة في مصنفات عقيدة السلف الصالح ، وباستقراء جملة من تلك المصنفات والمتون ، وتتبع ما فيها من المسائل الفقيهة ، عثرت على مسائل كثرة من تلك الفروع ، ولذا سأكتفي بأهم وأكثر المسائل الفقهية وروداً في تلك المصنفات ، مع بيان وجه إيرادها ، وذلك على الترتيب الآتي :
1- الطهارة :
أ - ومن ذلك تقرير مشروعية المسح على الخفين ؛ فقد ذكر ذلك غير واحد من الأئمة ، ومن أقدم الأئمة الذين قرروا تلك المسألة : الإمام سفيان الثوري في عقيدته حيث قال – مخاطباً من سأله عن معتقده - :
(( يا شعيب بن حرب ، لا ينفعك ما كتبت لك حتى ترى المسح على الخفين دون خلعهما أعدل عندك من غسل قديمك )) [9] .
بل قال سفيان الثوري : (( من لم يسمح على الخفين فاتهموه على دينكم )) [10].
وعدّ سهل بن عبد الله التستري المسح على الخفين من خصال أهل السنة [11] .
كما قرر أبو حنيفة [12] وأبو الحسن الأشعري [13] في كتابه الإنابة [14] والطحاوي في عقيدته [15] وابن بطة [16] في الإنابة الصغرى [17] ، والبربهاري [18] في شرح السنة [19] ، وابن خفيف [20] في عقيدته [21] ، وأبو عمرو الداني [22] في الرسالة الوافية [23] .
ووجه إيراد مسألة المسح على الخفين ضمن كتب الاعتقاد : مخالفة الروافض [24] والخوارج [25] الذين لا يجيزون المسح على الخفين ، وكما قال الإمام محمد بن نصر المروزي [26] :: (( وقد أنكر طوائف من أهل الأهواء والبدع من الخوارج والروافض المسحَ على الخفين )) [27]
وقال الإمام النووي [28] : (( أجمع من يُعتد به في الإجماع على جواز المسح على الخفين في السفر والحضر سواء كان لحاجة أو لغيرها ... وإنما أنكرته الشيعة والخوارج ولا يعتد بخلافهم )) [29]
وجاء عن الإمام الشعبي [30] أنه قال : (( واليهود لا يرون المسح على الخفين ، وكذلك الرافضة )) [31] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية [32] - رحمه الله – (( وقد تواترت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالمسح على الخفين ، وبغسل الرجلين ، والرافضة تخالف هذه السنة المتواترة ، كما تخالف الخوارج نحو ذلك )) [33] .
وقال في موضع آخر : (( وكان سفيان الثوري يذكر من السنة المسح على الخفين ؛ لأن هذا [34] كان شعاراً للرافضة )) [35] .
ب – إذا كان الإسلام وسطاً بين الملل ، فإن أهل السنة وسط بين النحل ؛ ففي الطهارة كان الإسلام وسطاً بين تشدد اليهود وتفريط النصارى ، كما أن أهل السنة وسط بين الإفراط والتفريط في هذا الباب .
بيّن شيخ الإسلام وسطية الإسلام في باب الطهارة قائلاً : (( فإن التشديد في النجاسات جنساً وقدراً هو دين اليهود ، والتساهل هو دين النصارى ، ودين الإسلام هو الوسط )) [36] .
ويقول في موضع آخر : (( ومن تدبَّر حال اليهود والنصارى مع المسلمين ، وجد اليهود والنصارى متقابلين : هؤلاء في طرف ، وهؤلاء في طرف يقابله ، والمسلمون هم الوسط ... إلى أن قال : فالنصارى حللوا الخنزير وغيره من الخبائث .كما أسقطوا الختان وغيره ، وأنواع الطهارة من الغسل وإزالة النجاسة وغير ذلك .. واليهود بالغوا في اجتناب النجاسات )) [37] .
وأما عن وسيطة أهل السنة بين الإفراط والتفريط الواقع عند طوائف المبتدعة ، فأهل السنة مجانبون للتشدد والإفراط ، فيأمرون بالصلاة في النعال مخالفة لليهود [38] ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم )) [39] .
وقال ابن القيم [40] : (( ومما لا تطيب به قلوب الموسوسين : الصلاة في النعال ، وهي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعلاً منه وأمراً )) [41] .
ويجيز أهل السنة الصلاة في السراويل خلافاً للخوارج .
قال البربهاري : (( ولا بأس بالصلاة في السراويل )) [42] .
وقال الملطي [43] : (( ومن شذوذ الحرورية في الفروع إذا تطهر منهم الرجل لا يبرح ولا يمشي حتى يصلي في مكانه ؛ لأنه إذا مشى تحرك شرجه ، ولا يصلون في السراويل ))[44] .
وجانَبَ أهلُ السنة تعنُّتَ الرافضة الذين زعموا أن سؤر الكافر نجس ، بل قالوا بتنجيس المائعات التي يباشرها أهل السنة ، وكل ذلك تأثراً باليهود السامرة التي تحرِّم وتنجِّس ما باشره غيرهم من المائعات [45].
ومن تشدد الرافضة : إيجابهم الابتداء باليمين في اليدين والرجلين عند الوضوء [46] ، ولذا قال الإمام النووي : (( وأجمع العلماء على أن تقديم اليمين على اليسار من اليدين والرجلين في الضوء سنة ، ولو خالفها فاته الفضل وصح الوضوء ،( وقال الشيعة هو واجب ، ولا اعتداد بخلاف الشيعة )) [47] .
كما جانبَ أهلُ السنة أيضاً التفريطَ في باب الطهارة ؛ فالرافضة – مثلاً – خالفوا الأدلة في اعتبار المذي من موجبات الوضوء ، فحكم الرافضة بطهارة المذي وعدم انتقاض الوضوء بخروج المذي [48] .
وأوجب الشيعة مسح الرجلين ببقية البلل إلا في حال التقية [49] ، وقال بعض طوائف المعتزلة [50] بالتخيير بين مسح الرجلين وبين غسلهما .
قال النووي : (( أجمع العلماء على وجوب غسل الوجه واليدين والرجلين، وانفردت الرافضة عن العلماء فقالوا : الواجب في الرجلين المسح ، وهذا خطأ منهم ؛ فقد تظاهرت النصوص بإيجاب غسلهما )) [51] .
وقال شيخ الإسلام : (( ومن مسح على الرجلين فهو مبتدع مخالف للسنة المتواترة وللقرآن ، ولا يجوز لأحد أن يعمل بذلك مع إمكان الغسل )) [52] .
وقال في موطن آخر: (( فالقدم كثيراً ما يفرط المتوضئ بترك استيعابها ، حتى قد اعتقد كثير من أهل الضلال أنها لا تغسل ، بل فرضها مسح ظاهرها عند طائفة من الشيعة ، والتخيير بينه وبين الغسل عند طائفة من المتعزلة )) [53]
2- الصلاة :
أ – ومن ذلك ترك الجهر بالبسملة – في الصلاة الجهرية – حيث قال الإمام سفيان الثوري في اعتقاده : (( وإخفاء البسملة أفضل من الجهر )) [54] .
وقال ابن بطة : (( من السنة ألا تجهر ببسم الله الرحمن الرحيم )) [55] .
وذلك مخالفة للرافضة الذين يستحبون الجهر بالبسملة في مواضع الإخفات [56] ، وكان سفيان الثوري إمام أهل الكوفة ، وقد ظهر فيهم الرفض ، حتى قال عبد الله بن المبارك [57] -رحمه الله - : (( لا تأخذوا عن أهل الكوفة في الرفض شيئاً )) [58] ، ولذا أظهر سفيان مخالفتهم بترك الجهر بالبسملة، لا سيما أن الرافضة قد وضعوا أحاديث في الجهر بالبسملة [59] وهذه المسألة خلافية بين أهل السنة أنفسهم ؛ فمنهم من استحب الجهر بالبسملة محتجاً بأدلة ،( ( ومنهم استحب إخفاءها لأدلة [60] .
والمقصود من إيرادها بيان ما كان عليه أئمة السلف من مجانبة المبتدعة والحذر من موافقتهم ؛ ففي هذه الحالة تكون مصلحة مخالفتهم والتمييز عنهم – بترك الجهر بالبسملة – آكد من مصلحة هذا المستحب – أي الجهر بالبسملة – كما حقق ذلك شيخ الإسلام تحقيقاً دقيقاً فقال : (( الذي عليه أئمة الإسلام أن ما كان مشروعاً لم يُترك لمجرد فعل أهل ا لبدع [61] ، لا الرافضة ولا غيرهم وأصول الأئمة كلهم توافق هذا .
إلى أن قال : فالجهر بالبسملة هو مذهب الرفض ، وبعض الناس تكلّم في الشافعي بسببها ، ونسبه إلى قول الرافضة والقدرية ؛ لأن المعروف في العراق أن الجهر كان من شعار الرافضة ،حتى أن سفيان الثوري وغيره من الأئمة يذكرون في عقائدهم ترك الجهر بالبسملة،لأنه كان عندهم من شعار الرافضة.. ومع هذا فالشافعي لما رأى أن هذا هو السنة كان ذلك مذهبه وإن وافق قول الرافضة .
ثم قال : إنه إذا كان في فعل مستحب مفسدة راجحة لم يصر مستحباً ، ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبات إذا صارت شعاراً لهم ، فإنه لم يترك واجباً بذلك ، لكن قال في إظهار ذلك مشابهة لهم ، فلا يتميَّز السني من الرافضي ، ومصلحة التمييز عنهم لأجل هجرانهم ومخالفتهم أعظم من مصلحة هذا المستحب ، وهذا الذي ذهب إليه يُحتاج إليه في بعض المواضع إذا كان في الاختلاط والاشتباه مفسدة راجحة على مصلحة فعل ذلك المستحب ، لكن هذا أمر عارض لا يقتضي أن يُجعل المشروع ليس بمشروع دائماً )) [62] .
ومما يؤكد هذا التحقيق أن المروي عن الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله – أن الجهر بالبسملة غير مسنون [63] ، ومع ذلك استحب الجهر بها لمصلحة راجحة ، حتى إنه نصَّ على أن من صلى بالمدينة يجهر بها ، لأن أهل المدينة كانوا ينكرون على من يجهر بها [64] .
ب - ومن مسائل الصلاة : المبادرة بصلاة المغرب إذا دخل وقتها .
قال ابن بطة : (( ومن السنة المبادرة بصلاة المغرب إذا غاب حاجب الشمس قبل ظهور النجوم )) [65] .
وذلك مخالفة لليهود ومن تأثّر بهم من الرافضة كما في مقالة الإمام الشعبي – رحمه الله - : (( واليهود لا يصلون المغرب حتى تشتبك النجوم .. وكذلك الرافضة )) [66].
قال النووي : (( قد ذكرنا إجماعهم على أن أول وقتها غروب الشمس ، وحكى الماوردي وغيره عن الشيعة أنهم قالوا : لا يدخل وقتها حتى تشتبك النجوم ، والشيعة لا يُعتد بخلافهم )) [67].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عن الرافضة : (( فلهذا تجد فيما انفردوا به عن الجماعة أقوالاً في غاية الفساد ، مثل تأخيرهم صلاة المغرب حتى يطلع الكوكب مضاهاة لليهود ، وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بتعجيل المغرب )) [68] .
وقال في موضع آخر : (( وهكذا روى أبو داود من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تزال أمتي بخير – أو على الفطرة – ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم )) [69] . ورواه ابن ماجة من حديث العباس ، ورواه الإمام أحمد من حديث السائب بن يزيد .
وقد جاء مفسراً تعليه : (( لا يزالون بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى طلوع النجم ، مضاهاة لليهود .. )) قال سعيد بن منصور : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الصلت بن بهرام ، عن الحارث بن وهب ، عن أبي عبد الرحمن الصنابحي قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تزال أمتي على مسكة [70] ما لم ينتظروا بالمغرب اشتباك النجوم مضاهاة لليهودية )) [71] [72] .
ج – ومن مسائل الصلاة : صلاة الجمعة والجماعة خلف كل بر وفاجر .
كما قال سفيان الثوري في عقيدته : (( يا شعيب ، لا ينفعك حتى ترى الصلاة خلف بر وفاجر .
قال : شعيب : فقلت لسفيان : يا أبا عبد الله ! الصلاة كلها ؟
قال : لا ؛ ولكن صلاة الجمعة والعيدين ، صلِّ خلف من أدركت ، وأما سائر ذلك فأنت مخيَّر ، لا تصلِّ إلا خلف من تثق به وتعلم أنه من أهل السنة والجماعة )) [73] .
وجاء في اعتقاد الإمام أحمد بن حنبل : (( وصلاة الجمعة خلفه [74] وخلف من ولي جائزة تامة ركعتين ، من أعادهما فهو مبتدع تارك للأثر مخالف للسنة .. )) [75] .
ومما قاله سهل بن عبد الله التستري في اعتقاده : (( ولا يترك الجماعة خلف كلّ والٍ جائر أو عدل )) [76] .
كما قرَّر ذلك أبو الحسن الأشعري [77] ، وابن بطة [78] ، والبربهاري [79] ، وقوام السنة الأصفهاني [80] .
وهذه المسألة قد دلَّت عليها الأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة ، كما أن في تقريرها مجانبة لطوائف المبتدعة لا سيما الرافضة [81] كما وضَّحه ابن تيمية بقوله : (( والرافضة لا يصلون إلا خلف المعصوم ، ولا معصوم عندهم ، وهذا لا يوجد في سائر الفرق أكثر مما يوجد في الرافضة ، فسائر أهل البدع سواهم لا يصلون الجمعة والجماعة إلا خلف أصحابهم ، كما هو دين الخوارج والمتعزلة وغيرهم ، وأما أنهم لا يصلون ذلك بحال فهذا ليس إلا للرافضة )) [82]
- ومما يحسن إلحاقه بهذه المسألة ، ما قرره ابن تيمية من مشروعية الفصل بين الفرض والنفل في صلاة الجمعة ، لما جاء في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم (( نهى أن توصل صلاة بصلاة حتى يفصل بينهما بقيام أو كلام )) [83] ثم علل ابن تيمية ذلك بقوله : (( فإن كثيراً من أهل البدع لا ينوون الجمعة بل ينوون الظهر ، ويظهرون أنهم سلَّموا ، وما سلموا ، فيصلون ظهراً ، ويظن الظان أنهم يصلون السنة ، فإذا حصل تمييز بين الفرض والنفل كان في هذا منع لهذه البدعة )) [84] .
د – يقرر أهل السنة مشروعية إقامة صلاة التراويح – كما هو مبسوط في موضعه – خلافاً للروافض القائلين بأنها بدعة حدثت في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه [85] .
قال الإمام أبو حنيفة في كتابه الفقه الأكبر : (( والتراويح في ليالي شهر رمضان سنة )) [86] .
وقال الملا علي قاري في شرحه للفقه الأكبر : (( وفيه ردّ على الروافض )) [87] .
وقال أبو عبد الله محمد بن خفيف في ( عقيدته ) : (( والتراويح سنة )) [88] .
وقال قوام السنة الأصفهاني : (( ومن السنة صلاة التراويح في شهر رمضان في الجماعة )) [89] .
ولما سئل ابن تيمية عمن يصلي التراويح قبل العشاء الآخرة ، كان من جوابه : (( ولكن الرافضة تكره صلاة التراويح ، فإذا صلوا قبل العشاء الآخرة لا تكون هي صلاة التراويح ، فمن صلاها قبل العشاء فقد سلك سبيل المبتدعة المخالفين للسنة )) [90] .
وإذا تقرر – عند أهل السنة – استحباب صلاة التراويح خلافاً للرافضة ، فإن أهل السنة وسط في هذا الباب بين غلاة المتعبدة الذين أوجبوا قيام الليل ، وبين الروافض الجفاة ، كما بيّن ذلك ابن تيمية بقوله : (( وغلاة العبّاد يوجبون على أصحابهم صلاة الضحى والوتر وقيام الليل ، فتصير الصلاة عندهم سبعاً ، وهو دين النصارى ، والرافضة لا تصلي جمعة ولا جماعة ، لا خلف أصحابهم ولا غير أصحابهم ، ولا يصلون إلا خلف المعصوم ، ولا معصوم عندهم )) [91] .
هـ _ ومسائل الصلاة التي قررها أهل السنة في كتب العقيدة يتعسر حصرها ، لكن أشير في خاتمة هذا المبحث إلى بعضها على سبيل الاختصار :
- قرر أهل السنة مشروعية قصر الصلاة في السفر – كما جاءت به السنة – وكما قال الإمام المزني [92] - في عقيدته : (( وإقصار الصلاة في الأسفار )) [93]
كما قرر ذلك البربهاري [94] ، وقوام السنة الأصفهاني [95] ، خلافاً لبعض الخوارج الذين لا يجيزون القصر إلا مع الخوف [96]
- توسط أهل الحديث في مسألة القنوت بين من كره القنوت في الفجر مطلقاً عند النوازل وغيرها [97] . ، وبين من استحبها عند النوازل وغيرها ، كما حكاه ابن القيم 8.
قال ابن بطة : (( ومن السنة ألا تجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، ولا تقنت في الفجر إلا أن يدهم المسلمين أمرٌ من عدوهم فيقنت الإمام فيتبعه )) [98] .
- ومن المسائل التي يمكن إلحاقها هاهنا : أن لا يفرد بالصلاة على أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله خلافاً للروافض .
- وقد قال ابن عباس – رضي الله عنهما - : ( لا أعلم صلاة تنبغي من أحد على أحد إلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ) [99] .
وقد قاله لما ظهر الشيعة وصارت تظهر الصلاة على عليّ بن أبي طالب – رضي الله عنه – فهذا مكروه منهي عنه )) [100] .
ولذا قال البربهاري : (( ولا تفرد بالصلاة على أحد إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله فقط )) [101] .
ومما سطره ابن القيّم أثناء تحريره مسألة ((الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم وآله وأزواجه )) ما يلي : (( وإن كان شخصاً معيناً أو طائفة معينة كره أن يتخذ الصلاة عليه شعاراً لا يخل به ، ولو قيل بتحريمه لكان له وجه ، ولا سيما إذا جعلها شعاراً له ، ومنع منها نظيره أو من هو خير منه ، وهذا كما تفعل الرافضة بعليّ رضي الله عنه ؛ فإنه حيث ذكره قالوا : عليه الصلاة والسلام ، ولا يقولون ذلك فيمن هو خير منه ، فهذا ممنوع لا سيما إذا اتخذ شعاراً لا يخل به ، فتركه حينئذ متعيّن )) [102] .
3- الجنازة :
أ*- قرر أهل السنة مشروعية الصلاة على من مات من أهل القبلة .
كما قال الطحاوي : (( ونرى الصلاة خلف كل برّ وفاجر من أهل القبلة ، وعلى من مات منهم )) [103] .
وقال البربهاري : (( والصلاة على من مات من أهل القبلة سنة )) [104]
وقرر قوام السنة الأصفهاني هذه المسألة بقوله : (( فمن مذهبهم الصلاة على من مات من أهل القبلة )) [105] .
وإذا تقرر مشروعية الصلاة على من مات من أهل القبلة ، ففي ذلك ردّ على الخوارج - ومن تبعهم الذين يكفِّرون مرتكب الكبيرة فلا يصلون عليه ، كما أن في هذا التقرير إجراء لأحكام الإسلام على أهل القبلة باعتبار ظواهرهم والله عزّ وجل يتولى سرائرهم .
ب – ومما قرره علماء أهل السنة في هذا المقام أن الأموات – من المسلمين – ينتفعون بدعاء الأحياء وصدقاتهم كما جاءت بذلك الأدلة الصحيحة .
قال الأشعري : (( ونرى الصدقة عن موتى المسلمين والدعاء لهم ، ونؤمن بأن الله ينفعهم بذلك )) [106] .
وقال الطحاوي : (( وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات )) [107]
وفي هذا التقرير ردٌّ على المبتدعة الذين ينكرون ذلك ، وكما قال النووي : (( وأما ما حكاه الماوردي في كتابه الحاوي عن بعض أصحاب الكلام من أن الميت لا يلحقه بعد موته ثواب فهو مذهب باطل قطعاً وخطأ بيِّنٌ مخالفٌ لنصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة فلا التفات إليه ولا تعريج )) [108] .
وقال ابن أبي العز الحنفي [109] : (( وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام إلى عدم وصول شيء البتة لا الدعاء ولا غيره )) [110] .
وصرّح الشوكاني [111] . بأنهم المعتزلة [112] .
4 – الحج :
قرر أئمة أهل السنة أن متعة الحج سنة ثابتة ، فتوسطوا بين من أوجبها وحرّم ما عداها – كالشيعة – وبين من حرّم المتعة – كالناصبة .
قال قوم السنة الأصفهاني : (( ومتعة الحج سنة ثابتة )) [113] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : (( ولكن بعض الخارجين عن الجماعة يوجب أو يمنع ذلك ، فمن الشيعة من يوجب المتعة ويحرم ما عداها ، ومن الناصبة من يحرّم المتعة ولا يبحها بحال [114] .
ولما ظهر للإمام أحمد بن حنبل – استحباب متعة الحج قرر ذلك وأظهره (( حتى قال سلمة بن شبيب للإمام أحمد : يا أبا عبد الله ! قوَّيت قلوب الرافضة لما أفتيتَ أهل خراسان بالمتعة ، فقال : يا سلمة ! كان يبلغني عنك أنك أحمق ، وكنت أدفع عنك ، والآن فقد ثبت عندي أنك أحمق ، عندي أحد عشر حديثاً صحاحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أتركها لقولك ؟ )) [115] .
فالأصل أن ما كان مشروعاً لم يترك لمجرد فعل أهل البدع ، لكن إن كان في فعل المستحب مفسدة راجحة مثل مشابهة المبتدعة ، فإن مصلحة التميز عنهم آكد من مصلحة هذا المستحب [116] - كما سبق تقريره - .
4- النكاح :
توسّط أهل السنة في هذا الباب بين من أحلّ ما حرّم الله تعالى ؛ كمن أباح نكاح المتعة ، وأشنع من ذلك من أباح نكاح التحليل ، وبين من حرّم ما أحل الله تعالى ؛ كمن حرّم نكاح المحصنات من أهل الكتاب ، فأحل أهل السنة ما أحل الله تعالى ورسوله وحرّموا ما حرّم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم .
وقرر أهل السنة في عقائدهم حرمة نكاح التحليل والمتعة ؛ حيث قال ابن بطة : (( ومن السنة أن يعلم أن المتعة حرام إلى يوم القيامة )) [117] .
وقال البربهاري : (( واعلم أن المتعة – متعة النساء – والاستحلال [118] حرام إلى يوم القيامة )) [119] .
وقال قوام السنة الأصفهاني : (( ومتعة النساء حرام إلى يوم القيامة )) [120] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : (( فالروايات المستفيضة المتواترة متواطئة على أنه حرم صلى الله عليه وسلم المتعة بعد إحلالها )) [121]
وتحدّث شيخ الإسلام عن شناعة نكاح التحليل ، فكان مما قاله : ( (يوجد في نكاح التحليل من الفساد أعظم مما يوجد في نكاح المتعة [122] ؛ إذ المتمتع قاصد للنكاح إلى وقت ، والمحلل لا غرض له في ذلك ؛ فكل فساد نهى عنه المتمتع فهو في التحليل وزيادة ، ولهذا تنكر قلوب الناس التحليل أعظم مما تنكر المتعة ، والمتعة أبيحت أول الإسلام ، وتنازع السلف في بقاء الحل ، ونكاح التحليل لم يبح قط ، ولا تنازع السلف في تحريمه ، . ومن شنع على الشيعة بإباحة المتعة مع إباحته للتحليل فقد سلطهم على القدح في السنة ، كما تسلطت النصارى على القدح في الإسلام بمثل إباحة التحليل ، حتى قالوا : إن هؤلاء قال لهم نبيهم : إذا طلَّق أحدكم امرأته لم تحل له حتى تزني ، وذلك أن نكاح التحليل سفاح كما سماه الصحابة بذلك )) [123] .
وبسط ابن القيم الحديث عن قبائح التحليل ومفاسده ، فكان مما قاله : (( وأما في هذه الأزمان التي قد شكت الفروج فيها إلى ربها مفسدة التحليل ، وقبح ما يرتكبه المحللون مما هو رمد بل عمى في عين الدين ، وشجى في حلوق المؤمنين ، من قبائح تشمت أعداء الدين به ، وتمنع كثيراً ممن يريد الدخول فيه بسببه ، بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب ، ولا يحصرها كتاب ، يراها المؤمنون كلهم من أقبح القبائح ، ويعدونها من أفضح الفضائح ، وقد قلبتْ من الدين رسمه ، وغيَّرت اسمه ، وضمخ التيس المستعار فيها المطلقة بنجاسة التحليل .
إلى أن قال : ثم سلْ من له أدنى اطلاع على أحوال الناس : كم من حرة مصونة أنشب فيها المحلل مخالب إرادته فصارت له بعد الطلاق من الأخدان ، وكان بعلها منفرداً بوطئها ، فإذا هو والمحلل فيها ببركة التحليل شريكان ، فلعمر الله كم أخرج التحليل مخدرة من سترها إلى البغاء ، وألقاها بين براثن العشراء ، ولولا التحليل لكان مثال الثريا دون منالها .. ) [124] .
وجاء تقرير حرمة نكاح المتعة خلافاً للروافض الذين يزعمون أن (( متعة النساء خير العبادات وأفضل القربات ويوردون في فضائلها أخباراً كثيرة موضوعة ومفتراة )) [125].
وقد حكى الإجماع على تحريم نكاح المتعة غير واحد من الأئمة ، كما بيّنه الحافظ ابن حجر بقوله : (( قال ابن المنذر : لا أعلم اليوم أحداً يجيزها إلا بعض الروافض ، ولا معتمد لقول يخالف كتاب الله وسنة رسوله . وقال عياض : ثم وقع الإجماع من جميع العلماء على تحريمها إلا الروافض ، وقال الخطابي : تحريم المتعة كالإجماع إلا عن بعض الشيعة ، ولا يصح على قاعدتهم في الرجوع في المخالفات إلى عليّ وآل بيته ، فقد صح عن علي أنها نسخت ، ونقل البيهقي عن جعفر بن محمد أنه سئل عن المتعة ، فقال : هي الزنا بعينه .
وقال القرطبي : الروايات كلها متفقة على أن زمن إباحة المتعة لم يطل وأنه حرم ، ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها إلا من لا يلتفت إليه من الروافض )) [126] .
وأباح جمهور السلف الصالح نكاح المحصنات من أهل الكتاب ، كما جاء في قوله تعالى : ((وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ )) ( المائدة : 5) .
وحرّم الرافضة ما أحل الله فمنعوا نكاح الكتابيات [127]
قال ابن تيمية عن أولئك الروافض : (( وهؤلاء يحرمون نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم ، وهذا ليس من أقوال أحد من أئمة المسلمين المشهورين بالفتيا ، ولا من أقوال أتباعهم ، وهو خطأ مخالف للكتاب والسنة والإجماع القديم )) [128].
6- الأطعمة والأشربة :
أ*- عني أهل السنة بأكل الحلال تقريراً وتحقيقاً ، فأثبتوه في عقائدهم ، حتى قال الفضيل بن عياض : (( إن لله عباداً يحيي بهم البلاد والعباد ، وهم أصحاب سنة ، من كان يعقل ما يدخل جوفه من حله كان في حزب الله تعالى )) [129] . وقال سهل بن عبد الله التستري : (( أصولنا ستة : التمسك بالقرآن ، والاقتداء بالسنة ، وأكل الحلال ، وكف الأذى ، واجتناب الآثام ، والتوبة ، وأداء الحقوق )) [130] . ووصف شيخ الإسلام الصابوني أهل الحديث أنهم يتواصون بالتعفف في المآكل والمشارب والمنكح والملبس 5
وقال قوام السنة الأصفهاني: ((ومن مذهب أهل السنة التورع في المآكل والمسارب والمناكح))
ب*- ومع تحرز أهل السنة في الأطعمة والأشربة وحرصهم على أكل الحلال ... إلا أنهم لم يتشددوا في ذلك فلم يحرّموا ما أحل الله تعالى ؛ كما وقع فيه بعض أهل البدع ، بل كانوا وسطاً بين أهل الفجور والشهوات ، وبين أصحاب الرهبانية والتشدد الذين حرّموا ما أحل الله من الطيبات ، قال تعالى : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ)) ( المائدة : 87-88 ) .
قال شيخ الإسلام : (( نهى سبحانه عن تحريم ما أحل من الطيبات ، وعن الاعتداء في تناولها ، وهو مجاوزة الحد ، وقد فسر الاعتداء في الزهد والعبادة بأن يحرموا الحلال ويفعلوا من العبادة ما يضرهم ، فيكونوا قد تجاوزوا الحد وأسرفوا ، وقيل لا يحملنكم أكل الطيبات على الإسراف وتناول الحرام من أموال الناس ، فإن آكل الطيبات والشهوات المعتدي فيها لا بد أن يقع في الحرام لأجل الإسراف في ذلك )) 2[131].
ج- ردّ أهل السنة على الذين حرَّموا ما أحل الله تعالى ، فقرروا أن البيع والشراء حلال ، وكذا سائر المباحات من أنواع المكاسب والمطاعم ، كما ردّوا على ما ادعاه بعضهم من إطباق الحرام وخلو الأرض من الحلال .
ولما غلب على طوائف من المتصوفة تحريم الحلال وترك المكاسب المباحة [132] ، قام بالردّ عليهم المشتغلون بعقائد الصوفية الأوائل .
ومن ذلك ما قرره ابن خفيف بقوله : (( ومما نعتقده أن الله أباح المكاسب والتجارات والصناعات ، وإنما حرّم الله الغش والظلم ، وأن من قال بتحريم المكاسب فهو ضال مضل مبتدع ، وإنما حرم الله ورسوله الفساد لا الكسب والتجارة ، فإن ذلك على أصل الكتاب والسنة جائز إلى يوم القيامة . وأن مما نعتقده أن الله لا يأمر بأكل الحلال ثم يعدمهم الوصول إليه من جميع الجهات ؛ لأن ما طالبهم به موجود إلى يوم القيامة ، والمعتقِد أن الأرض تخلو من الحلال ، والناس يتقلبون في الحرام فهو مبتدع ضال ، إلا أنه يقلُّ في موضع ويكثر في موضع ، لا أنه مفقود من الأرض )) [133] .
وقال الكلاباذي [134] : (( أجمعوا على إباحة المكاسب من الحِرف والتجارات والحرث ، وغير ذلك مما أباحته الشريعة عن تيقظ وتثبت وتحرز من الشبهات )) [135].
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل نقل عن بعض السلف من الفقهاء أنه قال : أكل الحلال متعذر لا يمكن وجوده في هذا الزمان .
فكان من جوابه : (( هذا القائل الذي قال : أكل الحلال معتذر ، لا يمكن وجوده في هذا الزمان غالط مخطئ في قوله باتفاق أئمة الإسلام ، فإن مثل هذه المقالة كان يقولها بعض أهل البدع ، وبعض أهل الفقه الفاسد ، وبعض أهل النسك الفاسد ، فأنكر الأئمة ذلك ، حتى الإمام أحمد في ورعه المشهور كان ينكر مثل هذه المقالة [136] إلى أن قال : ومثل هذا كان يقوله بعض المنتسبين إلى العلم من أهل العصر ، وبناء على هذه الشبهة الفاسدة ، وهو أن الحرام قد غلب على الأموال لكثرة الغصوب والعقود الفاسدة ولم يتميَّز الحلال من الحرام .
ووقعت مثل هذه الشبهة عند طائفة من مصنفي الفقهاء ، فأفتوا بأن الإنسان لا يتناول إلا مقدار الضرورة ، وطائفة لما رأت مثل هذا الحرج سدت باب الورع .. )) [137] .
د – قرر أهل السنة – في عقائدهم – إباحة المكاسب والطيبات ، خلافاً لليهود ومن سلك سبيلهم من الرافضة والمعتزلة .
يقول البربهاري : (( واعلم أن الشراء والبيع حلال ، ما بيع في أسواق المسلمين حلال ، ما بيع على حكم الكتاب والسنة من غير أن يدخله تغيير أو ظلم )) [138] .
وقال ابن بطة : (( ولا تحرم شيئاً مما أحله الله فإن فاعل ذلك مفتر على الله ، راد لقوله معتد ظالم ، ثم إن الروافض تشبهت باليهود في تحريم ما أحل الله .. وحرّموا الجِرِّي [139] ولحم الجزور )) [140] . [141]
وقال أبو عمرو الداني : (( وأكل الحلال فريضة ، لقوله تعالى : (( كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ)) ( المؤمنون : 51) . وتجنب الشبهات واتقاؤها من كمال الورع ، وفي ذلك السلامة من الحرام لقوله صلى الله عليه وسلم : (( من اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام )) [142]، والحلال موجود وغير معدوم ، قال الله تعالى : ((وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا )) ( البقرة : 275) . وقال :(( وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ )) ( البقرة : 188) ، والتجارة رزق من رزق الله ، وحلال من حلال الله تعالى ، ولو كان الحلال معدوماً على ما يزعمه بعض المعتزلة لصار الحرام مباحاً للضرورة )) [143] .
وقال قوام السنة الأصفهاني : (( والشراء والبيع حلال إلى يوم القيامة على حكم الكتاب والسنة )) [144] .
هـ : قرَّر جمهور أهل السنة أن كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام ، وأن ما أسكر كثيره فقليله حرام . سواء كان من العنب أو غيره ، خلافاً لأهل الكوفة الذين فرّقوا بين ماء العنب وغيره ، فلم يحرّموا من غيره القدر المسكر خاصة ، وأما القليل الذي لا يسكر فلا يحرم عندهم [145] .
(( وأظهر الإمام أحمد بن حنبل مذهب أهل الحديث ومخالفة الكوفيين فيما خالفوا فيه السنة ، وصنّف كتاب الأشربة [146] ، وكان يقرؤه على الناس ، لكثرة من يشرب المسكر هناك ، حتى كان يدخل الرجل بغداد – مع أنها كانت أعظم مدائن الإسلام – فيقول : هل فيها من يحرم النبيذ ؟ - يعني المختلَف فيه – يقولون : لا ، إلا أحمد بن حنبل ، كما ذكر ذلك الخلال ))[147] .
وعقد الإمام البخاري [148] في كتاب الأشربة –باباً بعنوان : (( باب الخمر من العنب وغيره )) ومراده الردّ على الكوفيين الذين فرقوا ما بين ماء العنب وغيره ... كما قاله ابن المنير [149] .
وجاء هذا التحريم مقرراً في كتب الاعتقاد كما قال أبو عمرو الداني : (( وكل شراب من عنب أو زبيب أو تمر أو تين أو عسل أو حنطة أسكر كثيره فقليله حرام ، لقوله : حين سئل عن التبع – وهو شراب يصنع من العسل - : (( كل شراب أسكر كثيره فهو حرام )) [150] [151]
وقال شيخ الإسلام الصابوني : (( ويحرّم أصحاب الحديث المسكر من الأشربة : المتخذ من العنب أو الزبيب أو التمر أو العسل أو الذرة ، أو غير ذلك مما يسكر ، يحرمون قليله وكثيره )) [152] .
وقال قوام السنة الأصفهاني : (( وكل شراب يسكر كثيره فقليله حرام )) [153] .