الدليل الأول على بطلانه وفساده
:
نقل كلام السبكي، ثمّ قال:
فبيَّن تقي الدين السبكي أنّه لا يوجد حديثان صحيحانمتعارضان، بحيث لا يمكن الجمع بينهما، وأن الشافعي صرح بهذا في غير موضع من كلامه...
وهذا وحده كاف في الدلالة على بطلان عذرهم وفساده...
فانظر أخي أبا عبد العظيم، عندما أراد أن يثبت أنه لا وجود للتعارض نقل قول الإمام السبكي فقط، ثم وصل إلى نتيجته، ثم قال بأنّ هذا يكفي.
وجوابه: أنّه غير كافٍ.
فإن كان الوصول إلى النتائج بهذه السهولة (بنقل قول واحد ثم الجزم)، فإنّ قول القرافي، وابن عابدين، وأقوال من نقلت بعدهم كافية أيضا.
قال الحاكم في المستدرك (1/ 226):
"لعلّ متوهما يتوهم(!) أن لا معارض لحديث صحيح الإسناد آخر صحيح، وهذا المتوهم ! ينبغي أن يتأمل كتاب الصحيح لِمُسلم حتّى يرى من هذا النوع ما يَمَلُّ منه".اهـ.
ثم إنّ قصة السبكي أخي سفيان في مسألة تخصيص القنوت في الفجر لا تخفى عليكم عندما توقف عنها مدة محتجا بقول الشافعي (إذا صح الحديث فهو مذهبي)، ثم ظهر له المعارض بعدها، فقال: "..وأمّا الآن فأقنت، وليس في شيء من ذلك إشكال على كلام الشّافعي، وإنّما قصور يعرض لنا في بعض النظر".
فتأمل حتى وإن نفى شرط التعارض، فإنه عاد لما وجد المعارض..
:
وهو أن انتفاء المعارض هو الأصل لأن الله تعالى لم ينزل شريعته متناقضة ولا جعلها متعارضة بل أنزل القرآن والوحي يصدق بعضه بعضا والسنة مثل القرآن إجماعا بل هي داخلة في مسمى كتاب الله كما بينه الحافظ في الفتح عند الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم في حديث العسيف: لأقضين بينكما بكتاب الله، وإنما قضى بينهما بسنته. إذ الكل من عند الله تعالى ، إن هو إلا وحي يوحى . فدل هذا على أن الأصل عدم المعارض وانتفاؤه فيجب استصحابه والتمسك به ، كما يجب التمسك بالنفي الأصلي واستصحابه عند عدم ورود النص على ماهو مقرر في أصول الفقه.
إنّ الكثير ممن أنكر اشتراط المعارض، انطلق من مفهومه اللغوي، وهو قريب من معنى التضاد، وقال بعدها إنّ الشريعة منزهة عن التعارض.
وجوابه (ولا أظن أنه يخفى عليكم):
أنّ التعارض هو التقابل بين الدليلين، فإن كان تقابلا جزئيا حُمِل الخاص على العام، والمطلق على المقيد و....
وإن كان هذا التقابل كليا مما لا يدع مجالاً للجمع، فهو: النسخ والله أعلم.
:
ومن قواعد وأصول الشريعة أن الحديث متيقن، ومعارضه محتمل مشكوك في وجوده. أنه لا يترك متيقن لموهوم محتمل.
أرأيت أخي فالشيخ يُقِّر باحتمال وجود المعارض،
ومنه:
اشترط الفقهاء أن يبحث عنه لمن تصدر لتطبيق مقولة الشافعي، حتى لا يكون مخطئاً ويعمل بحديث عَلِمه الشّافعي، ولكن ترك العمل به لموجب.
:
أن عمل الصحابة رضي الله تعالى عنهم كان على خلاف هذا الشرط فإنهم كانوا يعملون بالأحاديث بدون توقف ولا بحث عن معارض. فإذا وصلهم الحديث أخذوا به وعملوا بمقتضاه ، وقضاياهم في ذلك كثيرة لو تُتُبعت لجاء منها مجلد كما قال ابن القيم في إعلام الموقعين.
هذا الكلام فيه تفصيل.
فإن كان في عهد النبي صلى وسُمِع منه صلى، فهو قول فصل، وقوله حجة بإجماع المسلمين لا يخالف حتىّ من نَصِفهم بأنهّم أبعد النّاس عن السنة.
أما بعد وفاته صلى الله فغير صحيح أن كلّ الصحابة كانوا كلما سمعوا حديثا أخذوه بدون توقف.
والأمثلة في ذلك كثيرة لا تعد ولا تحصى أكتفي بالإحالة على ما كان يقع بين أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه، وعبد الله بن عمر.
والمرأة التي رد الخليفة عمر بن الخطاب قولها لأنّه لا يريد أن يترك ما عنده لامرأة لا يدري أحفظت أم ....وغيرها من الأمثلة.
وإذا حصل هذا في عصر مازالت فيه السنة غضة طرية، فما بالك بِبُعد السِنون، ووضع قواعد الأئمة، والأصول.
فثبت بعدها أنّ كلام الشيخ فيه تعميم..
:
وعلى تسليم دعواهم وجوب البحث عن المعارض قبل العمل بالحديث...
لا شك أنّ ما قدمته لك أخي الحبيب في المقدمة يغنيني عن الجواب عن هذه...
إذ قلت لك أنّ موضوعي يدور حول فكرة:
"اشتراط البحث عن المعارض لمن تصدر للعمل بمقولة الإمام الشّافعي"،
والشيخ يقول بأن الواحد وجب عليه أن يبحث عن المعارض قبل العمل بالحديث..
(ففيه إيهام بأن كل من شرط هذا القول من الأئمة لا يعمل بالحديث مطلقاً حتى يقضي قولا طويلا في البحث عن المعارض).
فإنّ العلم بانتفائه في وقتنا أيسر كثيرا جدا من العلم به في زمن الأئمة لما هو موجود في وقتنا من كتب السنة التي لا يحصى نوعها وعددها بسبب المطابع الحديثة....
والجواب عن هذا يحتاج إلى نَفَس طويل، اعذرني أخي فإني لا أقدر عليه الآن.
:
وهو أن العلم بانتفاء المعارض يستلزم الإحاطة بالسنة ومدارك الأحكام إذ لا يمكن العلم بانتفائه والقطع بعدم وجوده إلا لمن هذا وصفه ، والإحاطة متعسرة بل ممنوعة كما بينه الأئمة أنفسهم ، كما أوضحته في كتابي : إقامة الحجة.. على عدم إحاطة أحد من الأئمة الأربعة بالسنة.
وهذا يستلزم ضرورة أنه لم يوجد في الأمة مجتهد صحيح الاجتهاد مقبوله!! واللازم باطل ، فالملزوم مثل
الجواب على هذا الاعتراض (والله تعالى أعلم وهو الموفق):
أنّ الأئمة الذّين نقلت لك أنّهم اشترطوا هذا الشرط وضحوا السبيل إلى ذلك، وهو شرط مرتبط بما قبله والذّي وضعته بعنوان:
"أن يبلغ على ظنِّه أنّ الأئمة لم يبلغهم الحديث، لذلك انصرفوا عن العمل به".
وكثير من أتباع المذاهب حاولوا تطبيق هذه المقولة، وبلغ على ظن كثير منهم، فمنهم من وُفِّق إلى الصواب، ومنهم من أخطأ فصحح له من جاء بعده، وهو مأجور على ذلك.
أمّا أن يسير بنا الأمر إلى أنّ هذا الأمر متعسر، وأنه لا يصلح، وأنّ السنة الآن مدونة....فقد جرب كثير وكثير، بل فُتِح الباب لِعوام المسلمين في ذلك، واختلط الحابل بالنابل، و...
:
أن هذا العذر البارد الذي يتعللون به لترك السنة والإعراض عنها....
وقد ظهر لك أنه ليس عذرا لترك السنة، وإنما هي منهجية في ضبط الاجتهاد..
لازم لهم في أقوال الإمام فيروى عنه في المسألة الواحدة، فإنها تتعارض كثيرا قول بالحرمة وقول بالجواز، وآخر بالكراهة وغيرها كما يعلمه الخبير بكتب الفقه وهذا شيء كثير جدا في المذاهب كلها، وحيث ثبت عنه هذا التعارض في كثير من أقواله، فجائز جدا أن يكون موجودا في
فيلزمهم أن لا يعملوا بشيء منها إلا بعد البحث عن معارضه !! وهم جميعها..!!
وهذه أخي أبو عبد العظيم لا أجد نفسي مطالباً بالجواب عنها، إذ أنّ الروايات عن الأئمة مختلفة، ووصفها بأنّها كثيرة، و...
ثمّ وضع افتراض أنّ من يسميهم مقلدين يجب عليهم أن يبحثوا عن المعارض، وكأنّ فقه الأئمة كله يجب أن يراجع، وكلّ مسائله يجب أن تُغربَل، وأن يبحث فيها عن المعارض...وما أظن أنّ مجنونا يصدق هذا الكلام.
وأدعوك أن تتدبر ما أضافه بعدها معلقاً:
إذا فهمت الجواب السابق، سقط عني الجواب عن هذه، فإنها استلزام لما قبلها..
بعقولهم وإنما يفكرون بعقول غيرهم!!
هذا عملهم و تصرفهم في الأقوال المتعارضة المروية عن إمامهم!!
فإذا رأوا الحديث الصحيح مخالفا للمذهب زعموا أن العمل به غير جائز لاحتمال وجود معارض له
هل تصدق أخي وكل من يقرأ هذه الصفحة أن هذا الكلام صحيح، وأن الأئمة الذّين وصفهم بالتقليد يفكرون بعقول غيرهم ؟.
إنّ الذّين شرطوا هذه الشروط عملوا في مسائل كثيرة بمذاهب غير مذاهبهم، ورجحوا أقولا صح لهم العمل بها، بل فيهم حتى من ادعى الاجتهاد المطلق.
هذا وإن باقي كلامه كان مجرد سِباب فلا داعي للوقوف عليه.
وأسأله عز وجل أن يعلمنا ما ينفعنا، ويُذكِّرنا بحالنا قبل أن يجمعنا، ويصلحنا ويبين زلاتنا...
وأن لا يبخل علينا بمُوَّجهٍ يرأف بحالنا، ويعقب على ما نقول بما يراعي حالنا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.