الحمد لله وحده
قال ابن حجر رحمه الله في الفتح عند شرح حديث "خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا في السماء":
"قوله فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن أي أن كل قرن يكون نشأته في الطول أقصر من القرن الذي قبله فانتهى تناقص الطول إلى هذه الأمة واستقر الأمر على ذلك وقال بن التين قوله فلم يزل الخلق ينقص أي كما يزيد الشخص شيئا فشيئا ولا يتبين ذلك فيما بين الساعتين ولا اليومين حتى إذا كثرت الأيام تبين فكذلك هذا الحكم في النقص ويشكل على هذا ما يوجد الآن من آثار الأمم السالفة كديار ثمود فإن مساكنهم تدل على أن قاماتهم لم تكن مفرطة الطول على حسب ما يقتضيه الترتيب السابق ولا شك أن عهدهم قديم وأن الزمان الذي بينهم وبين آدم دون الزمان الذي بينهم وبين أول هذه الأمة ولم يظهر لي إلى الآن ما يزيل هذا الاشكال" انتهى كلام الحافظ رحمه الله.
قلت جواب هذا الإشكال بعون الله من وجهين:
ليس من الصواب في مناهج النظر أن يُستند في صنعة ما إلى ظنٍ لا ينهض فيها للاستدلال في نقد أو تأويل ظن آخر يصلح للاستدلال في تلك الصنعة. فالذي بين أيدينا حديث صحيح ثابت في منزلة الظن الموجب للقبول الصالح للاستدلال، بينما ما نظر فيه الحافظ رحمه الله إنما هو من جنس الظن الواهن الذي لا يصلح للاستدلال. فنحن لم يأتنا من خبر من نثق بكلامه اتصالا فضلا عن أن يكون تواترا بما لا يدع مجالا للطعن في صدق الخبر المنقول = نقلٌ بأن تلك الديار التي قيل بأنها لقوم عاد وثمود هي بعينها ديار عاد وثمود! إنما هي بقايا (ولا ندري أديار هي أصلا أم غير ذلك) أبقاها الله لنا آية من قوم سالفين لا ندري لأيهم كانت، ولا نملك إلا جمع القرائن الضعيفة في محاولة معرفة العصر أو الزمان الذي ترجع إليه تلك الآثار. فقول الحافظ رحمه الله: "كديار ثمود" مردود بأننا لا ندري أهي ديارهم حقا أم ديار غيرهم من الأمم.. فإن تقرر ذلك المعنى، سقط الإشكال بذلك رأسا!
وهذا التعقب في أصول الاستدلال من الأهمية بمكان، فقد رأيت من الإخوة من يرجع إلى هذا الاستشكال من الحافظ رحمه الله فيجعله بابا لإنهاض اكتشافات علماء الحفريات والآثار ونحوهم لمنزلة النظر في نقد وتأويل متون الحديث، فضلا عن جملة معطيات "المنهج العلمي الإمبيريقي" بصفة عامة، فتراهم يسول لهم ذلك المدخل الأخذ والرد من كلام السالفين في تأويل الكتاب والسنة على وفق ما تحملهم عليه ظنونهم في ذلك، فترى متونا لم يتعرض لها أحد من أهل الصناعة بالنقد أو الرد من قبل قط، وهؤلاء الإخوة يردونها بكل سهولة متذرعين بأن من الأئمة والشراح من "اعتمد منهج النظر التجريبي" مدخلا للتأويل والنقد، فها نحن نرى الحافظ ابن حجر رحمه الله يستشكل بناءا على هذا النظر!! وهذا ولا شك ثغر خطير ينبغي أن يسده أهل العلم حتى لا يتسع الخرق على الراقع وتضيع معالم هذا المنهج المبارك الذي حفظ لهذه الأمة دينها إلى يوم الناس هذا، والله المستعان.
وقد يقول القائل: وهل غاب عن ذهن الإمام الحافظ رحمه الله هذا المعنى في مسألة قوة الاستدلال حتى طرأ على باله هذا الإشكال؟ ونقول إن الإمام رحمه الله تركه إشكالا، بمعنى أنه طرأ على ذهنه ولم يجد له جوابا! لا بمعنى أنه عارض به الحديث أو أومأ ولو من بعيد إلى الطعن في متنه! والظاهر أنه أورد الإشكال على تأويل الشراح له بأن المراد النقص التدريجي، إذ تعقب بهذا الإشكال كلام ابن التين كما في النقل، وهذا التعقب لا يستقيم للوجه الثاني من الجواب كما سيأتي.
ولكني أوردت هذا الوجه الأول من الجواب لأبين أن الاستشكال نفسه غير معتبر بوجه من الوجوه، لقيامه على طريقة غير مستقيمة في النظر في أخبار الغيب (وهو من الغيب الزمني).. فلا أبرح هذه الجزيئة من الجواب حتى أبين هذا المعنى، وأوضح أن بني آدم من بعد النبيين والمرسلين ليسوا بمعصومين، ولكل جواد كبوة، ولكل إمام هفوة.. ومسألة الخلط في منازل الأدلة من حيث قوة الاستدلال هذه مسألة دقيقة لا يتفطن إليها كثير من طلبة العلم والمشتغلين بالنظر والتأصيل والتقعيد. فالسبب في أننا نعترض على أصحاب الإعجاز العلمي في جملة كبيرة مما يذهبون إليه (لا في كل ما عندهم فمنه ما هو صواب وحق على تفصيل علمي ليس ههنا محل البسط فيه)، إنما هو خلطهم في منازل الأدلة وقوة الاستدلال واختلاف طبيعة الدليل الظني ومنزلته من فن إلى فن.. فما يرقى للاستدلال عند علماء الفلك مثلا، قد لا يرقى نظيره من الأدلة للاستدلال عند علماء الكيمياء أو الفيزياء.. والدليل الظني يتفاوت في قوته بمقاييس الصناعات كل صنعة بحسب طبيعة الأدلة التي يتحصل عليها أصحابها.. فصنعة التأريخ – مثلا – معلوم أن ضابط القبول والرد فيها ليِّن ليس بالشديد كما هو الشأن في مرويات الحديث، فأهل التاريخ قد يقبلون الاستدلال بخبر هو بمقاييس أهل الحديث لا يرقى للرواية أصلا، وهذا معلوم عند المشتغلين بكلا الصنعتين. ولذلك فإنه لا يسوغ ولا يصح الاستشكال على متن ثابت عند أعلى درجات الصحة (بمقاييس أهل صناعة الحديث) بسبب دليل من الأدلة التي لا يقبل بمثلها إلا أهل التأريخ في صناعتهم، فهم يقبلونها لا لشيء إلا لكون تلك الأدلة غاية ما يمكن للباحث منهم التحصل عليه في مادته، كالنظر في أحوال الآثار وبقايا الأولين وجمع نثار وثائقهم التي لم تبلغنا إلا بالية مهلهلة قد أخذ منها الزمان حظه وافرا.. فهم يقبلونها أحيانا وإن لم يعلموا من ناقلها ولا من كاتبها بأي طريق موثوق متصل، ويخرجون منها بمعلومات يُستدل بها في بابها عندهم لأنه لا شيء بين أيديهم في تلك الصناعة يرقى لردها لكونه فوق منزلتها في قوة الاستدلال في ذات الأمر.. فإن وجدوا ما هو أقوى دلالة في ذلك فإنهم يلزمهم المصير إليه ولا شك..
ومثال ذلك حجر رشيد الذي اكتشفه باحثو الحملة الفرنسية في مصر في القرن الثامن عشر الميلادي.. هذا الحجر لعلنا لا ندري – إلا افتراضا – من كاتبه ومن صاحبه، ومع ذلك فقد أخذ منه الناس كثيرا مما يعرفونه في زماننا هذا عن الكتابة الهيروغليفية، فإن جاءهم من جنسه ما يرده اختلفوا، حتى يأتي دليل ثالث على نفس الوتيرة وفي نفس المنزلة يوافق أحد الدليلين، فتثقل الكفة به، أو يأتي ما يخالفه ويعلوه في القوة فيرد به، وهكذا.. فالمتأمل يرى بوضوح أن منزلة الدليل والاستدلال في تلك الصنعة (كصنعة الأركيولوجيا وعلوم الآثار) هي بالجملة أدنى بكثير من شرط الدليل الذي به يقبل الخبر أو التأويل في علوم السنة والحديث..
ولهذا كان استشكال الحافظ رحمه الله استشكالا غير مقبول من جهة منهج النظر نفسه.. فقد جاء الحافظ بدليل نظري من أدلة أصحاب الحفائر والتواريخ – على منزلتها المعتبرة عندهم – يستشكل به تأويل بعض الشراح لحديث صحيح.. وهذا مسلك ليس بالمستقيم، والله أعلم.
الوجه الثاني هو أننا حتى وإن سلمنا بأن هذه الآثار والديار هي لقوم ثمود ونحوهم، فإنه لم يقل أحد بأن ظاهر الحديث يلزم منه أن يكون النقص على اطراده وتدرجه عبر الأجيال = على وتيرة واحدة (بمعنى أن يكون معدل التناقص من جيل إلى جيل ثابتا لا يتغير). فلربما كان التناقص سريعا في الأجيال الأولى قبل الطوفان، ثم كان التناقص فيما بعد الطوفان في الأحجام والقوى وأطوال الأعمار أبطأ كثيرا، حتى وصل الحال إلى ما نحن عليه اليوم (وهو نظير ما كان عليه الناس في زمان النبي محمد عليه السلام) فلا مزيد من التناقص بعد ذلك. فلعل بناة الهرم المصري كانوا من زمان ما قبل الطوفان، ممن كانوا أقرب إلى مقياس آدم عليه السلام، بينما بناة تلك الديار المنسوبة إلى ثمود ممن جاءوا بعد الطوفان من أجيال كانت إلى مقياسنا نحن اليوم أقرب.. ثم إنه لا يمنع العقل من أن يكون بناة تلك الديار التي يشير إليها الحافظ رحمه الله (أو من بنيت لهم) = جنس من الأجناس البشرية قصيرة القامة في زمانهم، مقارنة بأجناس أخرى كانت باقية فيها صفة "العماليق" حتى انقرضت تلك الأجناس فيما بعد. فالذي يظهر أن التدرج في النقص لم يكن على وتيرة واحدة في سائر أجناس البشر، فقد كان في زمان دواد عليه السلام عماليق (جالوت وآله) وقد شهد القرءان للتفاوت بينهم وبين بني إسرائيل ((قوما جبارين)).. فأثبت وجود التفاوت بينهم وبين بني إسرائيل في القوة وضخامة الجسد وهم جميعا بنو زمان واحد متعاصرون، وفي كتب بني إسرائيل تجد وصفا للقوم بأنهم كانوا عماليق (فيما يسمى بالعهد القديم)! وفي كثير من مرويات الأمم السالفة كذلك روايات وأساطير عن أمم من العمالقة.. فمجرد وجود من يصف قوما من الأقوام في زمانه بأنهم عمالقة = هذا يدل على أن الناس قد تفاوتوا فيما بينهم في مقدار التناقص المنصوص عليه في تلك الرواية حيث تسارع الأمر في بعض الأجناس وتباطأ في البعض الآخر منها! فلا يسع الناظر في تلك الديار - على التسليم بأنها ديار قوم ثمود أو ترجع إلى زمانهم - أن يعترض بصغر حجمها على صحة معنى التناقص المطرد المستمر المنصوص عليه في الحديث، أو أن يستشكل عليه بهذا!
ثم على هامش هذا الجواب أضيف تعقبا لقول ابن التين الذي نقله الحافظ: " أي كما يزيد الشخص شيئا فشيئا ولا يتبين ذلك فيما بين الساعتين ولا اليومين حتى إذا كثرت الأيام تبين فكذلك هذا الحكم في النقص" فأقول إن التغير التدريجي قد يكون على عدة أجيال، فيكون متوسط أطوال البشر في تناقص من جيل إلى جيل، لا من ساعة إلى ساعة كما هو متصور هنا، بمعنى أن الرجل الواحد ينكمش في نفسه عبر سنوات عمره فيتناقص بذلك نسله من بعده! وهذا التصور قد دلنا على فساده ما يعرفه الناس الآن من علوم الجينات والوراثة ولا يحتاج ذلك المعنى إلى مزيد بسط وبيان، والله أعلى وأعلم.