معارك فكرية.. هوية مصر

إعداد ماهر حسن ١٧/ ٩/ ٢٠٠٩
مازلنا نواصل قراءتنا فى كتاب أنور الجندى وهو مصدر مهم ويكاد يكون الوحيد الذى وثّق لنصوص المعارك الفكرية والأدبية، والكتاب عنوانه «المعارك الأدبية والفكرية»، واليوم نحن بصدد معركة العربية والفرعونية، التى بدأت بمعركة الأدب القومى وتعزيز «المصرية».
وحملت لواء نعرة القومية بعض الصحف فى مقدمتها مجلة السياسة الأسبوعية، ودافع عنها هيكل وطه حسين ومحمد عبدالله عنان وسلامة موسى.. حدث هذا فى عصر كانت تمر مصر فيه بفترة تطلع، فيما كان الاستعمار الفكرى قد حرص على إحداث بلبلة فكرية فى الثقافة المصرية ليبعدها عن دعوتى القومية والعروبية بدعاوى الاعتزاز بالمصرية والتاريخ المصرى القديم، وكان لظهور بعض الآثار المصرية فى ذلك الحين كمقبرة توت عنخ آمون ١٩٣٢م، أثر فى ظهور هذه الدعوة، دعوة المصرية التى تغلب النزعة الفرعونية على العربية.
لقد اتجهت مجلة «السياسة» الأسبوعية إلى إنشاء جماعة للدعوة إلى الأدب المصرى ثم لم يلبث الدكتور هيكل أن حمل لواء الدعوة إلى الفرعونية، وقد ظهرت فى هذه الفترة كتابات متعددة تحاول إحياء الأدب الفرعونى القديم، على أنه تراث فكرى، كما فعل حسن صبحى، فى كتابه «أوراق البردى»، وكتاباته الأخرى، ثم اتجه الدكتور هيكل إلى حمل لواء الدعوة ـ لا إلى الفرعونية فى مصر، بل إلى أن يقوم كل قطر عربى بالبحث فى جذوره التاريخية باتجاه إحياء البابلية والآشورية وغيرهما،
ولم يقف الكُتّاب العرب موقف الصامت إزاء هذه النعرة الجديدة بل شاركوا بأقلامهم فى حملة مضادة لمواجهتها ووأدها فى مهدها، غير أن النار استعرت واشتدت المعركة. وننشر هنا نص مقالين متعارضين: الأول مقال هيكل الذى أكد فيه «فرعونية مصر»، ثم مقال الزيات الذى أكد فيه «عروبة مصر».
الزيات: عربية
عفا الله عن كُتابنا الصحفيين! ما أقدرهم على أن يثيروا عاصفة من غير ريح ويبعثوا حرباً من غير جند، أفرعونيون نحن أم عرب، أنقيم ثقافتنا على الفرعونية أم نقيمها على العربية؟!
نعم، قالوا ذلك القول وجادلوا فيه جدال من أعطى أزمة النفوس وأعنة الأهواء، ثم اشتهر بالرأى الفرعونى اثنان أو ثلاثة من رجال الجدل وساسة الكلام، فبسطوه فى المقالات وأيدوه بالمناظرات، ورددوه فى المحادثات، حتى خال بنو الأعمام فى العراق والشام أن الأمر جد، وأن الفكرة عقيدة، وأن ثلاثة من الكتاب أمة، وأن مصر رأس البلاد العربية قد جعلت المآذن مسلات والمساجد معابد، والكنائس هياكل، والعلماء كهنة.
لا نريد أن نحاجهم بما قرره المحدثون من العلماء من أن المصرية الجاهلية تنزع بعرق إلى العربية الجاهلية، فإن هذا الحجاج ينقطع فيه النفس ولا ينقطع به الجدل، وكفى بالواقع المشهود دليلاً وحجة.
وهذه مصر الحاضرة تقوم على ثلاثة عشر قرناً وثلث من التاريخ العربى، نسخت ما قبلها كما تنسخ الشمس الضاحية سوابغ الظلال.
أزهقوا إن استطعتم هذه الروح، وامحوا ولو بالفرض هذا الماضى، ثم انظروا ماذا يبقى فى يد الزمان من مصر، وهل يبقى إلا أشلاء من بقايا السوط، وأنضاء من ضحايا الجور، وأشباح طائفة ترتل «كتاب الأموات» وجباه ضارعة تسجد للصخور، وفنون خرافية شغلها الموت حتى أغفلت الدنيا وأنكرت الحياة؟!
لا تستطيع مصر الإسلامية إلا أن تكون فصلاً من كتاب المجد العربى لأنها لا تجد مدداً لحيويتها، ولا سنداً لقوتها، ولا أساساً لثقافتها، إلا فى رسالة العرب.
انشروا ما ضمت القبور من رفات الفراعين، واستقطروا من الصخور الصلاب أخبار الهالكين، وغالبوا البلى على ما بقى فى يديه من أكفان الماضى الرسيم، ثم تحدثوا وأطيلوا الحديث عن ضخامة الآثار وعظمة النيل وجمال الوادى وحال الشعب، ولكن اذكروا دائماً أن الروح التى تنفخونها فى مومياء فرعون هى روح عمرو، وأن اللسان الذى تنشرون به مجد مصر هو لسان مضر، وأن القيثار الذى توقعون عليه ألحان النيل هو قيثار امرئ القيس، وأن آثار العرب المعنوية التى لاتزال تعمر الصدور وتملأ السطور وتغذى العالم، هى أدعى إلى الفخر وأبقى على الدهر وأجدى على الناس من صفائح الذهب وجنادل الحجارة.
وبعد، فإن ثقافتنا المدنية إنما تقوم فى روحها على الإسلام والمسيحية، وفى آدابها على الآداب العربية والغربية، وفى علمها على القرائح الأوروبية الخاصة، أما ثقافة البردى فليس يربطها بمصر العربية رباط، لا بالمسلمين ولا بالأقباط.
هيكل: فرعونية
الدكتور حسين هيكل
بينما كنت فى لبنان فى شهر يوليو الماضى، قصد إلى صحفى يتحدث فى شؤون أخرى، وكان من بين ما سألنى عنه هذه «الفرعونية» التى أدعو إلى بعثها فى الأدب وفى غير الأدب.
وقد كان يبدو عليه شىء من الإنكار للفكرة الغربية التى تشغل أذهان رجال الشرق العربى وقلوبهم جميعاً، ولأنها فيما يقول لا فائدة منها بعد أن غزا الإسلام بلاد هذا الشرق العربى، فعفى فيها على كل أثر قبله، وأحل بها حضارة جديدة لا صلة بينها وبين ما سبقها من الحضارات.
ولقد كنت أسمع لزميلى وهو يحدثنى معترضاً على فكرتى فى كثير من الرفق والإشفاق على ما نسميه الحقائق، وبينما كنت أسمع، كنت أذكر ما ثار فى وجه هذه الفكرة بالذات من اعتراضات عنيفة فى بلاد الشرق العربى المختلفة بل فى مصر نفسها، وما رميت به هذه الفكرة من مقاصد مستترة لم تجل بخاطرى يوم دعوت إليها، فقد اتهمنا بأنها ترمى إلى فصل مصر عن الكتلة العربية حيناً، وعلى فرض زعامة مصر على الكتلة العربية حيناً آخر، وإلى محاربة الفكرة الإسلامية والحضارة الإسلامية تارات.
وكنت أذكر كذلك أن العالم الفيلسوف يهوذا تحدث إلىّ فى شأن هذه الفكرة سنة ١٩٢٩، وسألنى عما أقصد إليه منها حاسباً أننى أريد أن تحيا مصر فى هذا القرن المسيحى حياة مصر منذ خمسين قرناً مضت، تعيش كما كان الفراعنة يعيشون، تؤمن بما كان الفراعنة يؤمنون، وتفكر كما كان الفراعنة يفكرون، وهم بعد أن تذوقوا الحرية الفكرية والحضارة العلمية لن يستطيع أحد أن يقيد أفكارهم أو يردهم إلى حضارة الخضوع والإذعان.
إننى حين أدعو المصريين إلى هذا إنما أراه واجباً قومياً يجب أداؤه فى البلاد المختلفة بالدعوة إلى مثله وبتفسير قليل يقنع بأن تطبيق هذه الفكرة فى بلاد الشرق العربى يؤدى إلى نتيجة هى خير النتائج، وبودى أن يصل أهل الشام حاضرهم بماضيهم منذ عهد الفينيقيين وإلى أن يصل أهل العراق حاضرهم بماضيهم إلى عهد آشور وبابل.
ليست الدعوة لدراسة تاريخ مصر الفرعونية مقصوداً بها رد التاريخ على أعقابه ليصب فى منبعه ولا هى مقصود بها إلى الإعراض عن دراسة تاريخ الشرق فى مختلف عصوره.

http://www.almasry-alyoum.com/articl...5&IssueID=1531