العبودية وصناعة الشجعان

الصادق مع الله عز وجل في عبادته واستعانته به سبحانه لا تراه إلا رابط الجأش شجاع القلب ثابتًا على مبدئه مستهينًا بالباطل وأهله، وكيف لا وهو يأوي إلى ربه القوي العزيز رب كل شيء ومليكه، يعبده ويستعينه، ويفوض أمره كله إليه.

ولقد قص الله تعالى علينا في كتابه الكريم خبر أنبيائه وصفوته من خلقه، وكيف كان ثباتهم وشجاعتهم وتحديهم لأقوامهم الذين يملكون العدد والعتاد، ومن ذلك ما ذكره سبحانه عن نبيه ورسوله نوح عليه السلام في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} [يونس: 71].

وكذلك قال عن هود عليه السلام لما قال له قومه: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 54-56].

وقال عن خاتم أنبيائه محمد عليه الصلاة والسلام: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 195-196].

وأخبرنا سبحانه عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عندما تحزبت عليهم الأحزاب من فوقهم ومن أسفل منهم يوم الخندق، فقال: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].

وقال عنهم يوم أحد عندما خوفهم من خوفهم برجوع المشركين مرة أخرى لقتالهم، وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والجراحات فقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 174].

والأمثلة في ذلك كثيرة وكثيرة، ولنرجع إلى ما علق به بعض المفسرين على قصة هود عليه السلام مع قومه، يقول القرطبي رحمه الله تعالى عن هذه القصة: (قوله: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا} أي: أنتم وأوثانكم في عداوتي وضري {ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} أي: لا تؤخرون، وهذا القول مع كثرة الأعداء يدلّ على كمال الثقة بنصر الله تعالى، وهو من أعلام النبوة أن يكون الرسول وحده يقول لقومه: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا}، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لقريش, وقال عليه السلام: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ } الآية.

قوله تعالى: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} أي: رضيت بحكمه، ووثقت بنصره، {مَا مِنْ دَابَّةٍ} أي: نفس تدب على الأرض، وهو في موضع رفع بالابتداء {إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} أي: يصرفها كيف يشاء، ويمنعها مما يشاء، أي : فلا تصلون إلى ضري) [تفسير القرطبي، (9/52)].

ويعلق أحدهم على هذه القصة بقوله: (وإن الإنسان ليدهش لرجل فرد يواجه قومًا غلاظًا شدادًا حمقى، يبلغ بهم الجهل أن يعتقدوا أن هذه المعبودات الزائفة تمس رجلًا فيهذي؛ ويروا في الدعوة إلى الله الواحد هذيانًا من أثر المس؛ يدهش لرجل يواجه هؤلاء القوم الواثقين بآلهتهم المفتراة هذه الثقة، فيسفه عقيدتهم ويقرعهم عليها ويؤنبهم، ثم يهيج ضراوتهم بالتحدي، لا يطلب مهلة ليستعد استعدادهم، ولا يدعهم يتريثون فيفثأ غضبهم.

إن الإنسان ليدهش لرجل فرد يقتحم هذا الاقتحام على قوم غلاظ شداد، ولكن الدهشة تزول عندما يتدبر العوامل والأسباب.

إنه الإيمان والثقة والاطمئنان، الإيمان بالله، والثقة بوعده، والاطمئنان إلى نصره ... الإيمان الذي يخالط القلب، فإذا وعد الله بالنصر حقيقة ملموسة في هذا القلب لايشك فيها لحظة؛ لأنها ملء يديه، وملء قلبه الذي بين جنبيه، وليست وعدًا للمستقبل في ضمير الغيب، إنما هي حاضر واقع تتملاه العين والقلب {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [هود: 54].

إني أشهد الله على براءتي مما تشركون من دونه، واشهدوا أنتم شهادة تبرئني وتكون حجة عليكم: إنني عالنتكم بالبراءة مما تشركون من دون الله، ثم تجمَّعوا أنتم وهذه الآلهة التي تزعمون أن أحدها مسّني بسوء، تجمعوا أنتم وهي ـ جميعًا ـ ثم كيدوني بلا ريث ولا تمهل، فما أباليكم جميعًا، ولا أخشاكم شيئًا {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود: 56].

ومهما أنكرتم وكذبتم، فهذه الحقيقة قائمة، حقيقة ربوبية الله لي ولكم، فالله الواحد هو ربي وربكم، لأنه رب الجميع بلا تعدد ولا مشاركة:{مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56].

وهي صورة محسوسة للقهر والقدرة تصور القدرة آخذة بناصية كل دابة على هذه الأرض، بما فيها الدواب من الناس، والناصية أعلى الجبهة، فهو القهر والغلبة والهيمنة، في صورة حسية تناسب الموقف وتناسب غلظة القوم وشدتهم، وتناسب صلابة أجسامهم وبنيتهم، وتناسب غلظ حسهم ومشاعرهم ... وإلى جانبها تقرير استقامة السنة الإلهية في اتجاهها الذي لا يحيد: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56]، فهي القوة والاستقامة والتصميم)

وبعد هذه النقولات لنستمع إلى ما يقوله الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن أثر العبودية الخالصة والتوكل الصادق في طرد الخوف والهلع وجلب الشجاعة والثبات والإقدام، فيقول رحمه الله تعالى: (ولا تستصعب مخالفة الناس والتحيز إلى الله ورسوله ولو كنت وحدك، فإن الله معك وأنت بعينه وكلاءته وحفظه لك، وإنما امتحن يقينك وصبرك، وأعظم الأعوان لك على هذا بعد عون الله التجرد من الطمع والفزع.

فمتى تجردت منها هان عليك التحيز إلى الله ورسوله، وكنت دائمًا في الجانب الذي فيه الله ورسوله، ومتى قام بك الطمع والفزع فلا تطمع في هذا الأمر، ولا تحدث نفسك به، فإن قلت: فبأي شيء أستعين على التجرد من الطمع ومن الفزع؟ قلت: بالتوحيد والتوكل والثقة بالله وعلمك بأنه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، وأن الأمر كله لله، ليس لأحد مع الله شيء) [الفوائد، ابن القيم، ص (116)].

أما عن أثر العبادة والاستعانة في الثبات والسكينة وتحمل الشدائد ورد كيد الأعداء وشرورهم، فهذا أمر قد تكفل الله سبحانه به لمن صحت عبادته وصدق توكله وفوض أمره إلى مولاه سبحانه.

ولما كانت العبادة لا تقوم ولا تقبل إلا بالإخلاص لله عز وجل، والمتابعة للرسول لله، فإنه يمكننا القول بأن الثبات والطمأنينة وقوة العزيمة وإبطال كيد الكائدين لابد له من أمور ثلاثة:

1 - إخلاص الأمر لله عز وجل.

2 - أن يكون العمل حقًّا مشروعًا متبعًا فيه الرسول صلى الله عليه وسلم.

3 - الاستعانة بالله عز وجل في ذلك والتوكل عليه والتبرؤ من الحول والقوة، والخلوص من العجب والكبر، والحذر من الاغترار بالنفس والأتباع.

وبالتأمل في الأمر الأول والثاني نجدهما يمثلان حقيقة العبودية لله سبحانه، بينما الأمر الثالث يمثل الاستعانة بالله عز وجل، فآل الأمر إلى قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، وعن هذا الأثر العظيم للعبادة والاستعانة يحدثنا الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ، فيقول: (إذا قام العبد بالحق على غيره وعلى نفسه أولًا، وكان قيامه بالله ولله لم يقم له شيء، ولو كادته السموات والأرض والجبال لكفاه الله مؤنتها، وجعل له فرجًا ومخرجًا، وإنما يُؤتى العبدُ من تفريطه وتقصيره في هذه الأمور الثلاثة، أو في اثنين منها، أو في واحد، فمن كان قيامه في باطل لم يُنصر، وإن نُصر نصرًا عارضًا فلا عاقبة له وهو مذموم مخذول.

وإن قام في حق لكن لم يقم فيه لله وإنما قام لطلب المَحْمَدة والشكور والجزاء من الخلق، أو التوصل إلى غرض دنيوي كان هو المقصود أولًا والقيام في الحق وسيلة إليه، فهذا لم تضمن له النصرة، فإن الله إنما ضمن النصرة لمن جاهد في سبيله، وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، لا لمن كان قيامه لنفسه ولهواه، فإنه ليس من المتقين ولا من المحسنين، وإن نُصر بحسب ما معه من الحق فإن الله لا ينصر إلا الحق، وإذا كانت الدولة لأهل الباطل، فبحسب ما معهم من الصبر.

والصبر منصور أبدًا، فإن كان صاحبه محقًّا كان منصورًا له العاقبة، وإن كان مُبطلًا لم يكن له عاقبة، وإذا قام العبد في الحق لله، ولكن قام بنفسه وقوته ولم يقم بالله مستعينًا به متوكلًا عليه مفوضًا إليه، بريًّا من الحول والقول إلا به، فله من الخذلان وضعف النصرة بحسب ما قام به من ذلك.

ونكتة المسألة: أن تجريد التوحيد في أمر الله لا يقوم له شيء البتة، وصاحبه مؤيد منصور ولو توالت عليه زُمر الأعداء) [إعلام الموقعين، ابن القيم، (2/178)].

ويقول الشيخ الدوسري رحمه الله تعالى: (صدق الاستعانة بالله يورث طمأنينة القلب، وسكون النفس؛ لأن ذلك من آثار صدق الإيمان وقوته، وإذا اطمأن قلب الإنسان وسكنت نفسه حصل له برد الراحة، وحلاوة اليقين، وسلم قلبه مما ينتاب قلب غيره من الخطرات الفاسدة، أو المفزعة أو المخذلة، فكان يستقبل الأهوال بشجاعة وثبات، لا يبالي بالخطوب إذا اعتدت، ولا يلويه شيطان الهوى والشهوات عن الإقدام على الأهوال، أو الثبات على الخطوب؛ لاستمداده العون من ربه الذي صدق معه في ضراعته باستعانته، فهو يرى نفسه موصولًا من الله بالمدد الروحي والمعنوي، ويؤمن بأن الله يفتح له كل مغلق فلا يعتوره اليأس، أو يتسرب إليه الجزع، ولا يصيبه شيء من الضعف أو الحيرة؛ لأنه في كنف الله وعزته ونوره، فهو من أهل هذه الآية: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا )